الموقف الأوّل : فیما یمکن أن یکون جامعاً للأخصّی
وهو وجوه :
الوجه الأوّل : ما أفاده «الکفایة»: «وهو أنّ المسمّیٰ وإن لایمکن التعبیر عنه؛ للزوم الإشکال فی کلّ ما جعل جامعاً، ولکنّ الإشارة إلیه بالآثار المشترکة بین الأفراد الصحیحة ممکنة، وما هو المشیر هی العناوین الواردة من الشرع کـ «معراج المؤمن» والناهیة «عَنِ الْفَحْشَاءِ» و «قربان کلّ تقیّ» فإنّ من الاشتراک فی الأثر، یستکشف الاشتراک فی المؤثّر؛ للقاعدة المعروفة بین أهلها» انتهیٰ.
وما أفاده لایخلو من قصور؛ لأنّ اللاّزم إثبات کون جمیع الأفراد مشترکة فی الحیثیّة التی هی المسمّاة بـ «الصلاة» وهذا ممّا لایثبت؛ لإمکان الاشتراک فی الحیثیّة التی تکون آثارها مشترکة، ولیست هی المسمّاة بـ «الصلاة».
فالأولیٰ أن یقال : بأنّ ما هو المسمّیٰ لایمکن أن یکون معظم الأجزاء، ولا الأجزاء المجملة؛ للزوم النقض طرداً وعکساً، ولکن حیث ثبت أنّ جمیع الأفراد الصحیحة، مشترکة فی الشرع فی الاسم علیٰ نعت الحقیقة، ونجد أنّ الشارع یطلق علیٰ جمیع هذه الأفراد لفظة «الصلاة» مثلاً علیٰ وجه الحقیقة، فعندئذٍ یعلم وجود المسمّیٰ الجامع بینها عند الشرع وإن لانتمکّن من بیانه. ولیس هذا معناه کون
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 233
الموضوع له والمسمّیٰ هو عنوان «المعراج» و «الناهیة» وهکذا.
وبناءً علیٰ هذا التقریب ، لا نحتاج إلیٰ إعمال القاعدة المعروفة؛ حتّیٰ یتوجّه إلینا: أنّها قاعدة مضروبة للواحد البسیط الحقیقیّ، ولا معنیٰ للتمسّک بها هنا إلاّ غفلة وذهولاً.
ولعمری، إنّ هذا التقریر أحسن ما یمکن أن یحرّر فی المقام، ولکنّه مع الأسف غیر تامّ؛ ضرورة أنّ ذلک ینتج کون الإطلاقات علی الأفراد الصحیحة المتوسّطة ـ بل والنازلة والدانیة ـ غیر معلومة عندنا؛ وأنّها علیٰ نعت الحقیقة، أو المجاز، أو الغلط؛ لأنّ المستعمل مادام لم یعلم المسمّیٰ، لایتمکّن من الاستعمال الحقیقیّ، مع أنّا نجد أنّ استعمال «الصلاة» فی الأفراد الصحیحة والبعیدة حسب الأجزاء والشرائط عن الأفراد الصحیحة الجامعة لها، یکون علی الحقیقة، فلابدّ من عرفان المسمّیٰ، ویکون هو المعلوم عند مرتکزنا، فدعویٰ: أنّ المسمّیٰ معلوم للشرع دوننا، غیر قابلة للتصدیق جدّاً.
والعجب من بعض المعاصرین، حیث أطال الکلام فی المقام حول أجنبیّة القاعدة عن المسألة، وکان هو دأبه!! ولکنّه لیس منه بعجیب؛ لأنّه قریب الاُفق إلیٰ مذاق الأخباریّین، فقال فی طیّ کلامه: «إنّ هذه القاعدة وإن کانت تامّة فی العلل الطبیعیّة لا محالة دون الإرادیّة» انتهیٰ.
وأنت خبیر : بأنّه أجنبیّ عن الغور فی هذه المواقف، والعذر عند کرام الناس مقبول، والتفصیل موکول إلیٰ أهله ومحلّه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 234
الوجه الثانی : ما أفاده صاحب «الحاشیة» المدقّق الأصفهانیّ رحمه الله.
وغیر خفیّ : أنّه لتمثیله بالمسائل العقلیّة، وخروجه عن طور الاعتبار، وقع المتأخّرون فی مقصوده حیاریٰ، وأوردوا علیه الإیرادات.
والذی یظهر منه : أنّه فی مقام إثبات الجامع الحقیقیّ الذی لیس عنوانیّاً حتّیٰ یکون باطلاً، ولا مقولیّاً حتّیٰ یکون ممتنعاً، بل الاُمور الاعتباریّة کما تکون خارجة عن المقولات، تکون خارجة عن الإشکالات والتوالی الفاسدة المترتّبة علیها؛ فإنّ الاعتباریّات سهلة التناول، وهی بید المعتبرین لإفادة الأغراض والمقاصد.
فعلیه یقال : بأنّ الصلاة معجون اعتباریّ من الحرکات والأقوال والأفعال الخاصّة، التی لا تلحظ تلک الخصوصیّات الموجودة والثابتة لتلک الحرکات فیها، بل هی المجموعة الاعتباریّة من هذه الاُمور، فانیةً فیها بحسب الزیادة والنقیصة، ملحوظاً فیها بعض هذه الاُمور علیٰ نعت الإجمال والإبهام، فلو کان المعجون المذکور ملحوظاً فیه ثلاثة أجزاء معیّنة، فهو ینتفی عند الانتفاء، وأمّا إذا لوحظ ثلاثة أجزاء علی البدل، ویکون معها المشترک فی ذلک ـ وهو المسمّیٰ ـ فلا ینتفی المسمّیٰ بانتفائها.
وإن شئت قلت : فی الاعتباریّات الإبهام الذاتیّ غیر ممنوع، وفی الموضوعات الاعتباریّة تعدّد الذاتیّات جائز، کما هو الظاهر منه؛ فإنّه لاینبغی نسبة الغفلة إلیه عن هذا الأمر الواضح. فلو کان «الحمار» موضوعاً للحیوان المتفصّل بأحد الفصول المنوّعة، فما هو الماهیّة المتحصّلة الحقیقة، لایمکن أن یتردّد أمر فصله بین الاُمور، بخلاف باب التسمیة والاعتبار، فإنّه یمکن أن یجعل الاسم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 235
للمسمّی المبهم من هذه الجهة، أو من جهة الجنس والفصل، وهکذا.
فعلیه یمکن أن یقال : بأنّ ماهو الموضوع له والمسمّیٰ، هی الطبیعة الفانیة فیها الأجزاء بخصوصیّاتها، مع عدم خروجها عن الأجزاء المعتبرة البالغة مجموعها إلیٰ عشرة، وعلیٰ هذا یلزم کونه جامعاً للأعمّی.
ولکنّه قال : «إنّه هو الجامع للأخصّ؛ لأنّ ما هو المعرِّف والملازم له عنوان الناهیة «عَنِ الْفَحْشَاءِ» و «معراج المؤمن» نعم لو کان المعرِّف المذکور عنوان الناهیة بالاقتضاء، کان هو الجامع للأعمّی أیضاً، فعلیه یتصوّر الجامع علیٰ کلا الرأیین والمذهبین».
أقول : لو أغمضنا عن جمیع ما یتوجّه إلیه من الخدشات والمناقشات الواردة علیه فی کلام القوم، لایمکن لنا تصدیق ما أفاده؛ لأنّ معنیٰ ذلک جهل العرف بالموضوع له، لأنّ هذه المعرِّفات إن کانت عرفیّة کان لما أفاده الوجه القریب؛ لرجوعه أحیاناً إلیٰ ما نقول فی الجامع للأعمّی، ولکنّه عندئذٍ لا حاجة إلی المعرّف.
وأمّا إذا کانت شرعیّة، فلازمه إمّا کون ألفاظ العبادات، موضوعةً لتلک المعرّفات فی الشرع، وقد فرغنا عن بطلان الحقیقة الشرعیّة مطلقاً فی ألفاظ «الصلاة» وأمثالها، بل والمتشرّعیة، بل هی مثل سائر الألفاظ استعملها الشرع لإفادة مقصوده استعمالاً عرفیّاً، فما جعل معرّفاً فهو الأثر المترتّب علیٰ طائفة من تلک الطبیعة الواسعة والمطلقة.
أو کون المسمّیٰ معروفاً لدی الشرع فقط، وهذا خلاف ما علیه الصحیحیّ؛ لتمسّکه بالتبادر فی إثبات مرامه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 236
إن قلت : ظاهر هذه التعابیر المبیّنة لآثار الصلوات، کونها أثراً لکلّ ما صدق علیه «الصلاة» فیعلم منه أنّ ما لا أثر له لیس بصلاة؛ علیٰ نعت عکس النقیض، فیعلم منه وجود الجامع للصحیحیّ.
قلت : هذه التعابیر من قبیل القضایا الطبیعیّة المهملة، کقولهم: «السقمونیا مسهل للصفراء» وهکذا، ولا نظر فیها الی القضایا المحصورة الحقیقیّة، فلیس هذه المعرّفات إلاّ إشارات إلی طائفة من الصلوات، فلاتخلط.
الوجه الثالث : ما أفاده العلاّمة الأراکیّ، ولعلّ ما تخیّله متّخذ ممّا قیل: «إنّ حقیقة الوجود فی الخارج، ساریة فی جمیع الماهیّات والمقولات، نازلة من الأعلیٰ إلی الأدنیٰ، من غیر لزوم الکثرة الخارجیّة الواقعیّة، وتکون المقولات والمظاهر، مراتب تلک الحقیقة وتعیّناتها وشؤونها وأطوارها».
ولذلک قال : ما هو المسمّیٰ لیس الجامع العنوانیّ، کعنوان «معراج المؤمن» وأمثاله، ولا الجامع المقولیّ؛ لعدم الجنس الجامع بین الأجناس العالیة، ولکن مع ذلک کلّه هنا أمران آخران، أحدهما: مفهوم الوجود، والآخر: حقیقته:
فإن قلنا : بأنّ الموضوع له هو مفهوم الوجود المشترک بین تلک المقولات، فهو مضافاً إلیٰ لزوم صدق «الصلاة» علیٰ جمیع الأشیاء، یلزم کون الجامع عنوانیّاً، کما أنّه لیس بخفیّ.
وأمّا لو کان الموضوع له هی الحقیقة الخارجیّة علیٰ إرسالها، فیلزم کون الموضوع له لجمیع الألفاظ واحداً، فما هی الموضوع لها؛ تلک الحقیقة المعرَّفة بتلک
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 237
المعرِّفات، فتکون الحصّة الخاصّة من تلک الساریة فی تلک المقولات، هو الموضوع له والمسمّیٰ، انتهیٰ بتحریر منّا، کما هو دأبنا فی نقل الأقوال.
أقول : یلزم علیه کون الموضوع له خاصّاً، بل فی اصطلاحنا جزئیّاً، مع أنّ المقصود فرض الجامع، فلا تغفل. وقد ذکر الوالد المحقّق ـ مدّظلّه التوالی الفاسدة لمرامه فی کتابه، ومن شاء فلیراجع، ولکنّ الأمر سهل، فلا تخلط.
الوجه الرابع : أن یقال: بأنّ الموضوع له هو المعنی اللغویّ، وجمیع الاستعمالات الشرعیّة یکون کذلک، وإرادة الخصوصیّات ـ من قبیل الشرائط للمسمّیٰ، والأجزاء ـ کلّها بدلیل منفصل، فتکون الضمائم خارجة عنه.
نعم، هو الدعاء المعرّف بتلک المعرّفات المزبورة من غیر کونها قیداً، فما هو المسمّیٰ هو الدعاء الذی کان کذا، لا مطلقه، والأعمّی فی راحة من تصویره؛ لأنّه هو هذا مع إلغاء تلک الجهة أیضاً.
وفیه : ـ مضافاً إلیٰ ما مرّ من أنّه لیس جامعاً فی محیط العرف واللغة ـ أنّها ولو کانت موضوعة لغة للدعاء، ولکنّها صارت قبل الإسلام حقیقة فی الهیئة الخاصّة الخضوعیّة والعبودیّة، والآن کذلک، فلابدّ من الجامع علیٰ هذا التقدیر؛ لما مرّ من أنّ الاحتیاج إلیه علی الوضعین ـ التعیینیّ والتعیّنی ـ ثابت بالضرورة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 238