الأمر الرابع : حول الاحتیاج إلی الجامع وعدمه
بعد مفروغیّة کون الموضوع له عامّاً؛ سواء کان الوضع عامّاً أو خاصّاً، فلابدّ من تصویر الجامع علیٰ کلا المذهبین؛ وذلک لأنّ المصادیق والأفراد مختلفة الشؤون والحیثیّات، ومتشتّتة الجهات والحالات، ومتفاوتة فی الخصوصیّات، ولا یعقل أخذ جمیع الخصوصیّات المتباینة فی الموضوع له بالضرورة؛ للزوم الخلف، وهو کون الموضوع له خاصّاً.
بل ربّما یحتاج إلی الجامع المعانق مع جمیع الأطوار والنشآت فی الأعلام
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 228
الشخصیّة أیضاً؛ ضرورة أنّ المسمّیٰ بـ «زید» لیس المتکمّم والمتکیّف فی الصغر، ولا فی الکبر فما هو الموضوع له هو الصادق علی الوجود الخارجیّ فی جمیع هذه الحالات؛ حتّی فی البرزخ والقیامة.
فما یظهر من القوم: من الاحتیاج إلی القدر الجامع فیما کان الموضوع له عامّاً فقط، غیر مقبول. کما أنّ کون الوضع عامّاً أیضاً غیر دخیل فی الاحتیاج إلی القدر الجامع بناءً علیٰ إمکان الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ، بل هو المدّعیٰ وقوعه کثیراً، فتدبّر.
وأمّا الحاجة إلی الجامع فیما کان الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً، فهی مخدوشة؛ لأنّ هذا الجامع هو العنوان المشیر ولو کان مأخوذاً من الآثار واللواحق، کـ «معراج المؤمن» وما هو الجامع المحتاج إلیه فی الموضوع له العامّ؛ هو الجامع الحقیقیّ الاعتباریّ، أو المقولیّ، أو ما یقرب منهما، المحمول علیه الاسم، والمتّحد معه فی الحمل الأوّلی، کما لایخفیٰ.
بل ربّما لانحتاج إلیٰ لحاظ المعنی العامّ ویکون الإیماء بألفاظ الإشارة کافیاً فی ذلک، کما لو کان جمیع أفراد العامّ موجودةً فی محیط، فیقول الواضع: «وضعت لفظة کذا لهؤلاء» علی سبیل القضیّة الخارجیّة.
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ المنسوب فی تقریرات جدّی المحقّق إلی الشیخ الأعظم، الارتضاء والمیل إلیٰ إنکار کون جمیع الأفراد الطولیّة والعرضیّة مصادیق الصلاة مثلاً، حتّیٰ یحتاج إلی الجامع. لا بمعنی الالتزام بالاشتراک اللفظیّ،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 229
ولا بمعنیٰ کون الوضع عامّاً، والموضوع له خاصّاً، وما فی تقریرات العلاّمة النائینیّ هنا، لایخلو من غرابة.
بل بمعنیٰ أنّ ما هو الموضوع له؛ هی الطبیعة الجامعة للأجزاء والشرائط الأوّلیة المجعولة بدواً علی المکلّفین، فیکون الموضوع له عامّاً، ولا حاجة مع ذلک إلی الجامع المقصود فی المقام ـ وأمّا مطلق الجامع فهو ضروریّ، کما لایخفیٰ ـ وذلک لأنّ اطلاقها علیٰ غیر الطبیعة المزبورة؛ سواء کانت فاسدة، أو صحیحة؛ حسب اختلاف حالات المکلّفین، لیس إطلاقاً حقیقیّاً، بل هو مجاز، سواء کان من قبیل المجاز الذی یقول به المشهور، أو من قبیل المجاز الذی یقول به السکّاکی، أو الشیخ الأصفهانیّ رحمه الله فی «الوقایة».
إن قلت : بناءً علیه یسقط نزاع الصحیح والأعمّ؛ للزوم کون الأفراد الصحیحة والفاسدة، خارجة عن الموضوع له.
قلت : لا؛ فإنّ الصحیحیّ لایجوّز إطلاق اللفظة الموضوعة للمرتبة العلیا ـ وهی الصلاة التامّة الجامعة للأجزاء والشرائط ـ علی الفاسدة الجامعة لمعظم الأجزاء، ویجوّز الإطلاق علی الصحیحة الفاقدة له والأعمّی یجوّز ذلک کلّه، ویرجع نزاعهم إلیٰ فقد المصحّح وعدمه؛ ضرورة احتیاج صحّة الإطلاق إلی المصحّح والعلاقة، وهذا هو ما مرّ فی بحث إدراج المجازات فی محلّ النزاع.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 230
إن قلت : إطلاق «الصلاة» مثلاً علی الواجدة للأجزاء والهیئات الناقصة، ممکن عرفاً؛ للمشابهة والمشاکلة مع التامّة والکاملة، ولکنّه ممنوع فی مثل صلاة المیّت والغرقیٰ، بل والمضطجع والنائم، فإنّها لیست صلاة عرفاً، مع أنّ الصحیحیّ والأعمّی یطلقون علیها اللفظ.
قلت : کما أنّ تصویر الجامع الشامل لهذه الأفراد فی غایة الإشکال هناک، کذلک الأمر هنا.
ویندفع : بأنّ هذا یستکشف جوازه من إطلاق الشرع علیه؛ بمعنیٰ أنّ فی هذه الأفراد، یکون الادعاء بلحاظ الآثار التی هی مستکشفة بالشرع، وفی الأفراد المتوسّطة بلحاظ المشابهة وغیرها، ثمّ بعدما ثبت ذلک من الشرع یستعمل تلک اللفظة فیها عرفاً، ونتیجة هذا سقوط التمسّک بإطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط؛ لأنّ موضوعها ـ وهی الصلاة ـ غیر معلوم أنّها الصلاة الکاملة، أو هی الأعمّ منها ومن الفاقدة، انتهیٰ ملخّص ما یمکن تحریره هنا بتقریر منّا.
أقول : قد اُجیب بکلمة واحدة : وهی أنّ الوجدان ناهض علیٰ أنّ إطلاق الصلاة علیٰ جمیع المراتب ـ إلاّ المرتبة الدنیا، کصلاة الغرقیٰ علیٰ إشکال فیه ـ علی نسق واحد، ونهج فارد، من غیر فرق بین ذلک، والمنکر مکابر.
ویمکن الجواب عنه : بأنّ الأمر فعلاً کذلک، إلاّ أنّ هذه الطبیعة ما کانت تطلق علیها هذه اللفظة علیٰ نسق واحد فی بدو الأمر بالضرورة، بل القرائن الخاصّة کانت تصحّح ذلک.
والذی هو الحجر الأساس؛ أنّ هذه اللفظة لیست موضوعة بالوضع التعیینیّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 231
لتلک الطبیعة فی الشرع الأنور قطعاً، ومقتضیٰ ما مرّ منّا : أنّ هذه الطبیعة کانت قبل الإسلام متداولة، وکان یطلق علیها تلک اللفظة.
فهذه اللفظة وسائر الألفاظ الموضوعة لسائر الطبائع، علیٰ نهج واحد، ونسق فارد، فکما أنّ لفظة «البقرة والحمار» ولفظة «الشجرة والجدار» ولفظةَ «المأذنة والمنارة» تطلق علیٰ جمیع المصادیق المختلفة؛ من غیر تکلّف الادعاء والتنزیل، وتجشّم المجاز والتأویل، ولایخطر ببال أحد کون هذه الألفاظ موضوعة للمرتبة العلیا، والطبیعة الواجدة لجمیع الشرائط والأجزاء، کذلک الأمر هنا.
فما أفاده یمکن توهّمه لو کان الوضع تعیینیّاً، ولا أظنّ التزامه والتزام أحد به.
هذا، ونفی جواز التمسّک بالإطلاق علی المعنی المزبور محلّ منع إطلاقه؛ ضرورة أنّه لو کانت «الصلاة» فی محیط الشرع تطلق کثیراً علیٰ ما یشابه الصلاة الأوّلیّة؛ حتّیٰ صحّ إرادة المرتبة المشابهة للمرتبة العلیا من المراتب المتوسّطة من تلک اللفظة، فإنّه عند ذلک یصحّ التمسّک بالإطلاق.
بل بناءً علیه یلزم الحاجة إلی الجامع ؛ إذ هو ضروریّ فی الوضع التعیینیّ والتعیّنی. وإنکار الوضع التعیّنی والحقیقة المتشرّعیّة والشرعیّة الحاصلة لکثرة الاستعمال فی بعض الألفاظ، مکابرة جدّاً.
والمقصود بالبحث لیس محصوراً بلفظ «الصلاة» فقط، حتّیٰ تکون هی بخصوصها مورد النزاع والبحث، کما هو الواضح. هذا غایة ما یمکن أن یقال فی هذا المقام، وقد عرفت ما فیه.
بقی الکلام فیما هو المهمّ فی البحث؛ وهو تصویر الجامع للصحیحیّ والأعمّی، فالبحث یقع فی موقفین:
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 232