المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

الأمر الرابع : حول الاحتیاج إلی الجامع وعدمه

الأمر الرابع : حول الاحتیاج إلی الجامع وعدمه

‏ ‏

‏بعد مفروغیّة کون الموضوع له عامّاً؛ سواء کان الوضع عامّاً أو خاصّاً، فلابدّ‏‎ ‎‏من تصویر الجامع علیٰ کلا المذهبین؛ وذلک لأنّ المصادیق والأفراد مختلفة الشؤون‏‎ ‎‏والحیثیّات، ومتشتّتة الجهات والحالات، ومتفاوتة فی الخصوصیّات، ولا یعقل أخذ‏‎ ‎‏جمیع الخصوصیّات المتباینة فی الموضوع له بالضرورة؛ للزوم الخلف، وهو کون‏‎ ‎‏الموضوع له خاصّاً.‏

‏بل ربّما یحتاج إلی الجامع المعانق مع جمیع الأطوار والنشآت فی الأعلام‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 228
‏الشخصیّة أیضاً؛ ضرورة أنّ المسمّیٰ بـ «زید» لیس المتکمّم والمتکیّف فی الصغر،‏‎ ‎‏ولا فی الکبر فما هو الموضوع له هو الصادق علی الوجود الخارجیّ فی جمیع هذه‏‎ ‎‏الحالات؛ حتّی فی البرزخ والقیامة.‏

‏فما یظهر من القوم: من الاحتیاج إلی القدر الجامع فیما کان الموضوع له عامّاً‏‎ ‎‏فقط‏‎[1]‎‏، غیر مقبول. کما أنّ کون الوضع عامّاً أیضاً غیر دخیل فی الاحتیاج إلی‏‎ ‎‏القدر الجامع بناءً علیٰ إمکان الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ، بل هو المدّعیٰ‏‎ ‎‏وقوعه کثیراً، فتدبّر.‏

‏وأمّا الحاجة إلی الجامع فیما کان الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً‏‎[2]‎‏، فهی‏‎ ‎‏مخدوشة؛ لأنّ هذا الجامع هو العنوان المشیر ولو کان مأخوذاً من الآثار واللواحق،‏‎ ‎‏کـ «‏معراج المؤمن‏» وما هو الجامع المحتاج إلیه فی الموضوع له العامّ؛ هو الجامع‏‎ ‎‏الحقیقیّ الاعتباریّ، أو المقولیّ، أو ما یقرب منهما، المحمول علیه الاسم، والمتّحد‏‎ ‎‏معه فی الحمل الأوّلی، کما لایخفیٰ.‏

‏بل ربّما لانحتاج إلیٰ لحاظ المعنی العامّ ویکون الإیماء بألفاظ الإشارة کافیاً‏‎ ‎‏فی ذلک، کما لو کان جمیع أفراد العامّ موجودةً فی محیط، فیقول الواضع: «وضعت‏‎ ‎‏لفظة کذا لهؤلاء» علی سبیل القضیّة الخارجیّة.‏

‏إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ المنسوب فی تقریرات جدّی المحقّق إلی الشیخ‏‎ ‎‏الأعظم، الارتضاء والمیل إلیٰ إنکار کون جمیع الأفراد الطولیّة والعرضیّة مصادیق‏‎ ‎‏الصلاة مثلاً، حتّیٰ یحتاج إلی الجامع‏‎[3]‎‏. لا بمعنی الالتزام بالاشتراک اللفظیّ،‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 229
‏ولا بمعنیٰ کون الوضع عامّاً، والموضوع له خاصّاً، وما فی تقریرات العلاّمة النائینیّ‏‎ ‎‏هنا‏‎[4]‎‏، لایخلو من غرابة.‏

‏بل بمعنیٰ أنّ ما هو الموضوع له؛ هی الطبیعة الجامعة للأجزاء والشرائط‏‎ ‎‏الأوّلیة المجعولة بدواً علی المکلّفین، فیکون الموضوع له عامّاً، ولا حاجة مع ذلک‏‎ ‎‏إلی الجامع المقصود فی المقام ـ وأمّا مطلق الجامع فهو ضروریّ، کما لایخفیٰ ـ‏‎ ‎‏وذلک لأنّ اطلاقها علیٰ غیر الطبیعة المزبورة؛ سواء کانت فاسدة، أو صحیحة؛‏‎ ‎‏حسب اختلاف حالات المکلّفین، لیس إطلاقاً حقیقیّاً، بل هو مجاز، سواء کان من‏‎ ‎‏قبیل المجاز الذی یقول به المشهور‏‎[5]‎‏، أو من قبیل المجاز الذی یقول به‏‎ ‎‏السکّاکی‏‎[6]‎‏، أو الشیخ الأصفهانیّ ‏‏رحمه الله‏‏ فی «الوقایة»‏‎[7]‎‏.‏

إن قلت :‏ بناءً علیه یسقط نزاع الصحیح والأعمّ؛ للزوم کون الأفراد الصحیحة‏‎ ‎‏والفاسدة، خارجة عن الموضوع له‏‎[8]‎‏.‏

قلت :‏ لا؛ فإنّ الصحیحیّ لایجوّز إطلاق اللفظة الموضوعة للمرتبة العلیا ـ‏‎ ‎‏وهی الصلاة التامّة الجامعة للأجزاء والشرائط ـ علی الفاسدة الجامعة لمعظم‏‎ ‎‏الأجزاء، ویجوّز الإطلاق علی الصحیحة الفاقدة له والأعمّی یجوّز ذلک کلّه، ویرجع‏‎ ‎‏نزاعهم إلیٰ فقد المصحّح وعدمه؛ ضرورة احتیاج صحّة الإطلاق إلی المصحّح‏‎ ‎‏والعلاقة، وهذا هو ما مرّ فی بحث إدراج المجازات فی محلّ النزاع‏‎[9]‎‏.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 230
إن قلت :‏ إطلاق «الصلاة» مثلاً علی الواجدة للأجزاء والهیئات الناقصة،‏‎ ‎‏ممکن عرفاً؛ للمشابهة والمشاکلة مع التامّة والکاملة، ولکنّه ممنوع فی مثل صلاة‏‎ ‎‏المیّت والغرقیٰ، بل والمضطجع والنائم، فإنّها لیست صلاة عرفاً، مع أنّ الصحیحیّ‏‎ ‎‏والأعمّی یطلقون علیها اللفظ‏‎[10]‎‏.‏

قلت :‏ کما أنّ تصویر الجامع الشامل لهذه الأفراد فی غایة الإشکال هناک،‏‎ ‎‏کذلک الأمر هنا.‏

ویندفع :‏ بأنّ هذا یستکشف جوازه من إطلاق الشرع علیه؛ بمعنیٰ أنّ فی‏‎ ‎‏هذه الأفراد، یکون الادعاء بلحاظ الآثار التی هی مستکشفة بالشرع، وفی الأفراد‏‎ ‎‏المتوسّطة بلحاظ المشابهة وغیرها، ثمّ بعدما ثبت ذلک من الشرع یستعمل تلک‏‎ ‎‏اللفظة فیها عرفاً، ونتیجة هذا سقوط التمسّک بإطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط؛ لأنّ‏‎ ‎‏موضوعها ـ وهی الصلاة ـ غیر معلوم أنّها الصلاة الکاملة، أو هی الأعمّ منها ومن‏‎ ‎‏الفاقدة‏‎[11]‎‏، انتهیٰ ملخّص ما یمکن تحریره هنا بتقریر منّا.‏

أقول :‏ قد اُجیب بکلمة واحدة : وهی أنّ الوجدان ناهض علیٰ أنّ إطلاق‏‎ ‎‏الصلاة علیٰ جمیع المراتب ـ إلاّ المرتبة الدنیا، کصلاة الغرقیٰ علیٰ إشکال فیه ـ‏‎ ‎‏علی نسق واحد، ونهج فارد، من غیر فرق بین ذلک، والمنکر مکابر‏‎[12]‎‏.‏

‏ویمکن الجواب عنه : بأنّ الأمر فعلاً کذلک، إلاّ أنّ هذه الطبیعة ما کانت تطلق‏‎ ‎‏علیها هذه اللفظة علیٰ نسق واحد فی بدو الأمر بالضرورة، بل القرائن الخاصّة کانت‏‎ ‎‏تصحّح ذلک.‏

‏والذی هو الحجر الأساس؛ أنّ هذه اللفظة لیست موضوعة بالوضع التعیینیّ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 231
‏لتلک الطبیعة فی الشرع الأنور قطعاً، ومقتضیٰ ما مرّ منّا : أنّ هذه الطبیعة کانت قبل‏‎ ‎‏الإسلام متداولة، وکان یطلق علیها تلک اللفظة‏‎[13]‎‏.‏

‏فهذه اللفظة وسائر الألفاظ الموضوعة لسائر الطبائع، علیٰ نهج واحد، ونسق‏‎ ‎‏فارد، فکما أنّ لفظة «البقرة والحمار» ولفظة «الشجرة والجدار» ولفظةَ «المأذنة‏‎ ‎‏والمنارة» تطلق علیٰ جمیع المصادیق المختلفة؛ من غیر تکلّف الادعاء والتنزیل،‏‎ ‎‏وتجشّم المجاز والتأویل، ولایخطر ببال أحد کون هذه الألفاظ موضوعة للمرتبة‏‎ ‎‏العلیا، والطبیعة الواجدة لجمیع الشرائط والأجزاء، کذلک الأمر هنا.‏

‏فما أفاده یمکن توهّمه لو کان الوضع تعیینیّاً، ولا أظنّ التزامه والتزام أحد به.‏

‏هذا، ونفی جواز التمسّک بالإطلاق علی المعنی المزبور محلّ منع إطلاقه؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّه لو کانت «الصلاة» فی محیط الشرع تطلق کثیراً علیٰ ما یشابه الصلاة‏‎ ‎‏الأوّلیّة؛ حتّیٰ صحّ إرادة المرتبة المشابهة للمرتبة العلیا من المراتب المتوسّطة من‏‎ ‎‏تلک اللفظة، فإنّه عند ذلک یصحّ التمسّک بالإطلاق.‏

‏بل بناءً علیه یلزم الحاجة إلی الجامع ؛ إذ هو ضروریّ فی الوضع التعیینیّ‏‎ ‎‏والتعیّنی. وإنکار الوضع التعیّنی والحقیقة المتشرّعیّة والشرعیّة الحاصلة لکثرة‏‎ ‎‏الاستعمال فی بعض الألفاظ، مکابرة جدّاً.‏

‏والمقصود بالبحث لیس محصوراً بلفظ «الصلاة» فقط، حتّیٰ تکون هی‏‎ ‎‏بخصوصها مورد النزاع والبحث، کما هو الواضح. هذا غایة ما یمکن أن یقال فی‏‎ ‎‏هذا المقام، وقد عرفت ما فیه‏‎[14]‎‏.‏

‏بقی الکلام فیما هو المهمّ فی البحث؛ وهو تصویر الجامع للصحیحیّ‏‎ ‎‏والأعمّی، فالبحث یقع فی موقفین:‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 232

  • )) کفایة الاُصول : 43، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) 1: 64، مناهج الوصول 1: 148، تهذیب الاُصول 1 : 71 .
  • )) أجود التقریرات 1 : 35، محاضرات فی اُصول الفقه 1 : 139 .
  • )) مطارح الأنظار : 7 / السطر 10 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 63.
  • )) المطوّل : 278 / السطر 21، قوانین الاُصول 1 : 13 / السطر 5، الفصول الغرویّة: 14 / السطر12.
  • )) مفتاح العلوم : 156 .
  • )) وقایة الأذهان : 103 ـ 112 .
  • )) أجود التقریرات 1 : 36 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 196 ـ 201 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 63 .
  • )) نفس المصدر .
  • )) محاضرات فی اُصول الفقه 1 : 141 ـ 142 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 185 ـ 187 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 195 ـ 196 .