المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

الأمر الثالث : فی تحریر محلّ النزاع فی الشرائط

الأمر الثالث : فی تحریر محلّ النزاع فی الشرائط

‏ ‏

‏قضیّة ما تقرّر منّا فی تحریر حدود محلّ النزاع‏‎[1]‎‏: هو أنّه إن فرغنا واخترنا‏‎ ‎‏الأخصّ، یلزم کون ألفاظ العبادات مثلاً، موضوعةً لما لا یکون إلاّ صحیحاً علی‏‎ ‎‏الإطلاق؛ أی لطبیعة إذا تحقّقت ینتزع منها العنوان المزبور، ویتحقّق بها الامتثال،‏‎ ‎‏ویسقط بها الأمر والطلب. وإن اخترنا الأعمّ تکون النتیجة هنا هو الأعمّ.‏

إن قلت :‏ النزاع فی الصحیح والأعمّ حیثیّ؛ أی یقول الأخصّی: بأنّ ما هو‏‎ ‎‏الداخل فی المسمّیٰ، لیس مطلق ما هو الدخیل فی سقوط الأمر، والدخیل فی‏‎ ‎‏الامتثال؛ وحصول المطلوب؛ ضرورة أنّ الشرائط علیٰ أقسام :‏

فمنها :‏ ما هو من قبیل الستر والطهارة والاستقبال؛ ممّا یمکن أخذه فی متعلّق‏‎ ‎‏الأمر، وقد اُخذ بنحو التقیید.‏

ومنها :‏ ما یمکن أن یؤخذ ولم یؤخذ، کعدم کون المأمور به منهیّاً عنه بوجه‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 224
‏آخر، أو عدم کونه مزاحماً بالأهمّ أو بالمثل.‏

ومنها :‏ ما لا یمکن أخذه فیه، کقصد القربة، والأمر، والوجه، ووجه الوجه،‏‎ ‎‏وهکذا.‏

‏فما کان من قبیل الأوّل، فهو داخل فی محلّ النزاع؛ لأنّها الأجزاء التحلیلیّة،‏‎ ‎‏وهی کالأجزاء المقداریّة.‏

‏وتوهّم خروجها؛ لتأخّرها عن اعتبار أصل الماهیّة وإطلاق الاسم علیها،‏‎ ‎‏کقولهم: «صلّ مع الطهور» کما عن العلاّمة الأراکیّ ‏‏رحمه الله‏‎[2]‎‏ غیر تامّ؛ لصحّة قولهم:‏‎ ‎‏«صلّ مع الرکوع» وکونها خارجة عن الأجزاء غیر کونها خارجةً عن المسمّیٰ. ولو‏‎ ‎‏صحّ ما قیل یلزم صحّة إخراج بعض الأجزاء أیضاً عن حریم النزاع؛ إذا کانت غیر‏‎ ‎‏دخیلة فی الغرض إلاّ فی الجملة، فلاتخلط.‏

‏وما کان من قبیل الثانی، فإمکان إدراجه فی محلّ النزاع معلوم، إلاّ أنّه غیر‏‎ ‎‏متنازع فیه، لعدم احتمال أحد من القائلین بالأخصّ کونَ هذه الشروط العدمیّة‏‎ ‎‏داخلة، أو هذه الموانع دخیلة فی المسمّیٰ؛ ضرورة أنّ هذه الموانع لیست موانع ـ‏‎ ‎‏بالحمل الشائع ـ إلاّ بعد إمکان تحقّق المسمّیٰ مع قطع النظر عنها. بل لو صحّ اعتبار‏‎ ‎‏الموانع فی الاعتباریّات، لایعقل إدراجها فی محلّ النزاع، لأنّها أجنبیّة عن المسمّیٰ.‏

‏وما کان من قبیل الثالث، فإمکانه محلّ منع؛ لأنّ هذه الاُمور من اللواحق‏‎ ‎‏المتأخّرة عن الأمر، المتأخّر عن المأمور به، فکیف یعقل دخالتها فی المسمّی الذی‏‎ ‎‏هو المأمور به؟!‏

أقول :‏ مع أنّ ما أفاده العلاّمة النائینیّ ‏‏رحمه الله‏‎[3]‎‏ وغیره‏‎[4]‎‏ فی المقام ـ وکان‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 225
‏محصّله ما شرحناه ـ غیر تامّ لجهات مذکورة فی محالّها، ولسنا هنا نخوض فیها،‏‎ ‎‏لایتمّ ما أفادوه هنا لو کان تامّاً فی حدّ ذاته؛ وذلک لما یظهر من عنوانهم المسألة من‏‎ ‎‏أنّ البحث لغویّ، وأنّ الجهة المبحوث عنها فیه لها الإطلاق.‏

فیکون المراد :‏ أنّ الصحیحیّ یقول: إنّ المسمّیٰ والموضوع له، هی الطبیعة‏‎ ‎‏التی إذا وجدت فی الخارج، ینتزع منها عنوان «الصحّة والتمامیّة والسلامة» وأیّ‏‎ ‎‏شیء ترید أن تعبّر عنه، ویفید هذا المعنیٰ، والأعمیّ ینکره، ویدّعی أنّ العناوین‏‎ ‎‏المذکورة، لیست أمارات حدود الموضوع له، بل هو الأعمّ، فلو انتزع منها‏‎ ‎‏المقابلات لها فهو أیضاً من المسمّیٰ. وحصر الصحّة فی الصحّة الحیثیّة والمخصوصة‏‎ ‎‏بناحیة الأجزاء دون غیرها، ممّا لا شاهد له.‏

‏فلو تحقّقت الطبیعة، ولم ینتزع منها الصحّة والتمامیّة ـ سواء کان ذلک لأجل‏‎ ‎‏فقدانها الأجزاء المقداریّة، أو التحلیلیّة، أو الشرائط الآتیة من قبل الأمر، أو کان‏‎ ‎‏لأجل وجود المانع؛ بناءً علیٰ إمکان تصویره فی الاعتباریّات ـ فهی لیست مصداق‏‎ ‎‏المسمّیٰ والموضوع له عند الأخصّی، بخلاف الأعمّی.‏

‏فما توهّمه القوم کلّه الغفلة عن حقیقة الحال، والذهول عن أنّ الصحّة‏‎ ‎‏والفساد والتمامیّة، لیست واردة بعناوینها فی المسمّیٰ، حتّیٰ یتوهّم: أنّ قصد القربة‏‎ ‎‏متأخّر عنها، فکیف یعقل اعتباره فیها‏‎[5]‎‏؟!‏

فبالجملة :‏ النزاع فی هذه الجهة أیضاً غیر متصوّر بما یظهر من بعض الأعلام.‏

‏مع أنّ کلمات القوم بشتاتها، تنادی بأعمّیة النزاع من هذه الجهة أیضاً؛ هذا ما‏‎ ‎‏فی «الکفایة» حیث قال: «إنّ وحدة الأثر کاشفة عن وحدة المؤثّر؛ فإنّ الأثر مترتّب‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 226
‏علیٰ تامّ الأجزاء والشرائط»‏‎[6]‎‏ انتهیٰ، وفی «الفصول» ما هو الظاهر فی الأعمیّة‏‎[7]‎‏.‏

وعلیٰ کلّ تقدیر :‏ لا معنیٰ لما أفاده القوم، ومنهم الوالد المحقّق ـ مدّظلّه ‏‎[8]‎‏،‏‎ ‎‏فتدبّر.‏

إن قلت :‏ نعم، ولکنّ «الصحّة» و «التمامیّة» وما یقاربها من العناوین، کلّها‏‎ ‎‏منتزعة من الماهیّة التی تکون أجزاؤها الواقعیّة والمقابلة للشرائط موجودة؛ سواء‏‎ ‎‏کانت الشرائط موجودة، أو لم تکن، فحقیقة هذه العناوین قاصرة بذاتها، ولیست‏‎ ‎‏معلّقة فی الانتزاع من الخارج علیٰ کونها صحیحةً فی مصطلح الفقهاء والمتکلّمین.‏

قلت :‏ هذا ممّا لا یصدّقه العقل ولا الخصم؛ وذلک لأنّ سقوط الأمر وموافقة‏‎ ‎‏الشریعة وإن لم یکن معناهما معنی «الصحّة» بالحمل الأوّلی، ولکنّه تفسیر بما هو‏‎ ‎‏اللاّزم الخاصّ لها، ولا معنیٰ لدعوی الاصطلاح الخاصّ فی مفهومهما لهؤلاء‏‎ ‎‏الأعلام، فـ «الصحّة» معناها واضح، واختلاف الناس فی الشرائط والأجزاء الدخیلة‏‎ ‎‏فی تحقّقها، غیر الاختلاف فی مفهومها، والخصم ینکر دخول الشرائط لبراهین‏‎ ‎‏عقلیّة، ولیس من هذا الوجه فی کلامهم عین ولا أثر، فتدبّر.‏

‏إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ الذی یمکن أن یکون عنواناً لهذه المسألة؛ هو أنّ‏‎ ‎‏المعانی المتبادرة من الألفاظ، هل هی القابلة للاتصاف بالصحّة والسلامة والتمامیّة‏‎ ‎‏ومقابلاتها؛ حتّیٰ تکون المسمّیات أعمّ.‏

‏أولیست قابلة لذلک، ولا تکون هذه الأوصاف الکمالیّة وصفاً لها، حتّیٰ تکون‏‎ ‎‏خارجةً عن ذاتها، بل هی تنتزع منها بعد تحقّقها، فیکون المسمّیٰ أخصّ؟‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 227
‏ولایذهب علیک أنّ البحث لغویّ، وهذا عنوان معنویّ؛ لأنّه فی العنوان‏‎ ‎‏کذلک، ولکنّ الواقع ونفس الأمر یکون بحثاً لغویّاً؛ لرجوعه إلیٰ کشف حال‏‎ ‎‏الواضعین ولحاظهم بالقرائن والشواهد .‏

وإن شئت قلت :‏ البحث هنا حول أنّ الألفاظ، هل هی موضوع وأسامٍ‏‎ ‎‏للمعانی التی إذا تحقّقت ینتزع منها مفهوم «الصحّة والسلامة» أو هی للأعمّ؟ والأمر‏‎ ‎‏بعد وضوحه سهل.‏

‏ثمّ إنّک قد اطلعت خبراً علی أنّ البحث عن مفهوم «الصحّة والفساد» لا وجه‏‎ ‎‏له؛ لأنّ الجهة المبحوث عنها أعمّ من الموضوعات الموصوفة بهما، أو الموصوفة‏‎ ‎‏بعناوین اُخریٰ من «السلامة والعیب والتمامیّة والنقصان» وغیرها، فالصحیحیّ‏‎ ‎‏لایقصر النزاع فی ذلک، حتّیٰ لو أصبح أحد ویقول: بعدم اتصاف المرکّبات الشرعیّة‏‎ ‎‏بالصحّة، یکون هو الفارغ عن البحث، بل نظره إلیٰ بیان أخصّیة الموضوع له حسب‏‎ ‎‏الکمال والنقص؛ أی أنّ ما هو الموضوع له هو ما ینتزع منه العناوین الکمالیّة‏‎ ‎‏المترقّبة بعدما تحقّق فی الخارج، فلاحظ ولا تخلط.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 228

  • )) تقدّم فی الصفحة 195 ـ 197 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 111 .
  • )) فوائدالاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1: 60ـ61، أجودالتقریرات 1: 34 ـ 35.
  • )) نهایة الأفکار 1 : 74 ـ 76، منتهی الاُصول 1 : 52 ـ 53، محاضرات فی اُصول الفقه 1: 135 ـ 137 .
  • )) أجود التقریرات 1 : 35 .
  • )) کفایة الاُصول : 39 .
  • )) الفصول الغرویّة : 48 / السطر 14 ـ 20، و49 / السطر 11 ومابعده .
  • )) تهذیب الاُصول 1 : 69 ـ 71 .