المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

وضع الألفاظ لذوات المعانی

وضع الألفاظ لذوات المعانی

‏ ‏

‏هل الألفاظ موضوعة لذوات المعانی، فیکون «الإنسان» موضوعاً لطبیعة‏‎ ‎‏الحیوان الناطق؟‏

‏أو هی موضوعة لتلک المعانی المتقیّدة بالإرادة بالحمل الشائع، أو المتقیّدة‏‎ ‎‏بها بالحمل الأوّلیّ؟‏

‏أو المتضیّقة علیٰ نعت القضیّة الحینیّة، فلا یکون تقیید فی جانب الموضوع‏‎ ‎‏له، ولکن مع ذلک لا إطلاق فی مقام الوضع؛ لأنّ التقیید یستلزم المحذور، وهکذا‏‎ ‎‏الإطلاق؟‏

‏أمّا محذور التقیید ؛ فللزوم کون الموضوع له خاصّاً فی الفرض الأوّل، ولزوم‏‎ ‎‏کون جمیع الاستعمالات مجازاً فی الفرض الثانی.‏

‏وأمّا محذور الإطلاق، فهو اللغویّة؛ لأنّ الأعمّیة ممّا لا معنیٰ لها بعد کون‏‎ ‎‏الوضع بداعی الإفهام، فعلیه یتعیّن الحدّ الوسط، وهو خیر الاُمور.‏

أقول :‏ البحث هنا مخلوط، وقد وقع الأعلام فی الخلط بین الأغراض‏‎ ‎‏والمقاصد المتأخّرة ـ وهی التی تکون ملحوظة فی الاستعمالات ـ وبین ما هو‏‎ ‎‏الملحوظ تصوّراً حین الوضع وإنشاء العلقة الاعتباریّة، والذی هو محلّ الکلام فی‏‎ ‎‏المقام هو الثانی، والأوّل من توابعه، ولایجوز لحاظ الجهات الموجودة فی مرحلة‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 181
‏الاستعمال فی مرحلة الوضع والإنشاء.‏

وقد تقرّر :‏ أنّ تلک العلقة بین الألفاظ والمعانی، تحصل بالأسباب المختلفة،‏‎ ‎‏ومنها: التعهّد والتبانی‏‎[1]‎‏، فإنّه یورث حصولها وإن لم یکن استعمال، وإلاّ یلزم عدم‏‎ ‎‏الموضوع له للألفاظ، ویکون کتب اللغة لغواً؛ لأنّ ما هو الموضوع له هو المعانی‏‎ ‎‏حال الاستعمال، لا الأعمّ، مع أنّ ضرورة الوجدان قاضیة علیٰ خلافهم. فما فی‏‎ ‎‏«الدرر» لشیخ مشایخنا الحائری ‏‏رحمه الله‏‎[2]‎‏ لایخلو من تأسّف.‏

وتوهّم :‏ أنّ ذکر المعنیٰ بعد إلقاء اللفظ فی عالم التصوّر من أجل شدّة‏‎ ‎‏الاُنس‏‎[3]‎‏ ـ مع أنّه منقوض بما إذا لم یکن العالم بالوضع مأنوساً ـ یستلزم المحذور‏‎ ‎‏الآخر: وهو أنّ المتکلّم بقوله: «الأسد یرمی» مادام لم یفرغ من الکلام، لایخطر‏‎ ‎‏بالبال لأجل الوضع من کلامه شیء، بل الخطور لأجل الاُنس أوّلاً، ثمّ بعد تمامیّة‏‎ ‎‏قوله: «یرمی» یخطر ثانیاً لأجل الوضع، والالتزام بهذا المحذور کالالتزام بالتناقض‏‎ ‎‏جدّاً.‏

‏فما نسب إلی العلمین البلخیّ والطوسی ‏‏رحمه الله‏‎[4]‎‏ من إنکار الدلالة الوضعیّة،‏‎ ‎‏وإثبات انحصار الدلالة بالتصدیقیّة؛ أی بالجمل المستعملة‏‎[5]‎‏، أو نسب إلیهما: من‏‎ ‎‏کون الموضوع له مقیّداً بالإرادة والقصد‏‎[6]‎‏، غیر قابل للتصدیق؛ ضرورة أنّ القضیّة‏‎ ‎‏مرکّبة من الدلالة التصوّریة والتصدیقیّة، ولا یعقل دلالة الموضوع علی التصدیق، أو‏‎ ‎‏علی التصوّر والتصدیق، کما لا یعقل إنکار دلالته، ولا شبهة فی أنّ الدلالة من‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 182
‏متفرّعات الوضع، وعدم دلالة کلمة «الأسد» علیٰ شیء بالوضع عند الإلقاء، لاینافی‏‎ ‎‏دلالته علیه حین إفادة الجملة.‏

‏مع أنّ الإرادة لا تتعلّق بالمعنی التصوّری، بل تتعلّق بالمعنی التصدیقیّ،‏‎ ‎‏فالمتکلّم ناهض ومرید لإثبات رمی الأسد؛ وأنّه یرمی، ولا یکون مریداً للأسد،‏‎ ‎‏فـ «الأسد» یدلّ علی المعنی مع أنّه لیس مراداً قطعاً، والإرادة المتعلّقة بالاستعمال‏‎ ‎‏موجودة فیما إذا أراد إلقاء الأسد؛ یعلم أنّ المخاطب یفهم منه شیئاً ویخطر بباله‏‎ ‎‏معنی، أم لا، فهی مشترکة بین الصورتین والفرضین.‏

فتحصّل :‏ أنّ احتمال دخول الإرادة فی الوضع، منشأه الغفلة عن أنّ تلک‏‎ ‎‏الصفة، من الأوصاف المتعلّقة بالمعانی التصدیقیّة، ولا یعقل تعلّقها بالمعانی‏‎ ‎‏التصوّریة؛ سواء کانت هی مصحوبة بالتصدیقیّة، أو کانت خالیةً عنها؛ وکانت لمجرّد‏‎ ‎‏الاطلاع علیٰ أنّ المخاطب عالم باللغة أم لا. وما یستظهر من کلمات القوم صدراً‏‎ ‎‏وذیلاً، لایخلو من مناقشات لا خیر فی إظهارها وإفشائها.‏

‏هذا، وکان الأولیٰ أن یجعل عنوان البحث حول أنّ الهیئات التامّة موضوعة‏‎ ‎‏للمعانی المرادة، أم لا، حتّیٰ یقال: بأنّها موضوعة لإثبات المعانی المرادة، کما‏‎ ‎‏عرفت منّا تفصیله‏‎[7]‎‏. فما اشتهر فی عنوان البحث‏‎[8]‎‏ لایخلو من التناقض؛ لأنّ‏‎ ‎‏معانی الألفاظ لیست قابلة لتعلّق الإرادة بها، وما هو قابل لتعلّق الإرادة به فرضاً هو‏‎ ‎‏معنی الهیئات، فافهم وتدبّر جیّداً.‏

وإن شئت قلت :‏ ما یمکن أن یجعل عنواناً فی البحث هنا: «هو أنّ الألفاظ‏‎ ‎‏هل هی موضوعة للمعانی المتصوّرة بما هی متصوّرة، أم لا» والجواب: هو أنّها‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 183
‏لذوات المعانی؛ بحکم التبادر.‏

‏ولک إحداث البحث الآخر حول ما هو الموضوع للهیئات التامّة، کما اُشیر‏‎ ‎‏إلیه، والجواب ما عرفت الإیماء إلیه: وهو أنّ الضرورة قاضیة بأنّ الإرادة تتعلّق‏‎ ‎‏بإثبات المحمول للموضوع؛ وإثبات نحو من الاتحاد بینهما، فهی علّة، وذاک معلول،‏‎ ‎‏ولا وجه لکون العلّة بعنوانها قیداً لمعلولها.‏

‏مع أنّ المتبادر من معنی الهیئات، هو الأمر الخالی من هذه الجهات، وما قیل:‏‎ ‎‏من لزوم اللغویّة‏‎[9]‎‏، واضح المنع؛ لأنّ اللغو الباطل، هو الوضع للمعنیٰ مع العلم بعدم‏‎ ‎‏الاستعمال أبداً، دون الوضع للمعنیٰ مع العلم بالاستعمال فی الجملة، ولا حاجة إلی‏‎ ‎‏جعل الألفاظ موضوعة للمعانی المضیّقة غیر القابلة للانطباق إلاّ علی المراد.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 184

  • )) تقدّم فی الصفحة 47 ـ 48 .
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری : 41 ـ 42 .
  • )) محاضرات فی اُصول الفقه 1 : 104 ـ 105 .
  • )) لاحظ الشفاء، قسم المنطق 1 : 42، شرح الإشارات 1 : 32 .
  • )) کفایة الاُصول : 31 ـ 32، نهایة الأفکار 1 : 64 ـ 65 .
  • )) الفصول الغرویّة : 17 / السطر 40 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 117 ـ 122 .
  • )) الفصول الغرویّة: 17 / السطر 29 ، کفایة الاُصول : 31، درر الفوائد، المحقّق الحائری : 41، نهایة الأفکار 1 : 63، محاضرات فی اُصول الفقه 1 : 105 .
  • )) الفصول الغرویّة : 17 / السطر 34 ـ 35 .