المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

استعمال اللفظ فی اللفظ

استعمال اللفظ فی اللفظ

‏ ‏

‏إذا قیل : «زید لفظ» أو «ثلاثیّ» أو «کیف مسموع» أو قیل: «ضرب فعل‏‎ ‎‏ماضٍ» أو قیل: «زید فی قولک هذا: ضرب زید، فاعل» أو قیل: «زید فی جملة‏‎ ‎‏ضرب زید، فاعل» فهل هذا من قبیل استعمال اللفظ فی المعنیٰ، إلاّ أنّ المعنیٰ هنا‏‎ ‎‏هو اللفظ، فیکون استعمال اللفظ فی اللفظ؟!‏

‏أو هو من سنخ آخر فی باب المحاورات العرفیّة، ولیس استعمالاً فیه، بل هو‏‎ ‎‏الإلقاء والإطلاق والإیجاد، فیکون من قبیل الإشارة إلی الموجود الخارجیّ والحکم‏‎ ‎‏علیه «بأنّه عالم» أو «قائم» فلا تکون القضیّة الملفوظة ذات موضوع ملفوظ، بل هو‏‎ ‎‏محذوف ومعلوم، فتکون القضیّة مرکّبة من الموضوع الخارجیّ والمحمول اللّفظی؟‏

‏فهاهنا طریقان : المشهور هو الأوّل، والذی اختاره بعض السادة من أساتیذنا‏‎ ‎‏هو الثانی‏‎[1]‎‏، وکنّا فی سالف الزمان نؤیّده.‏

‏والحقّ هو التفصیل: بین ما کان من قبیل الإطلاق والإلقاء وإرادة الشخص،‏‎ ‎‏کما فی المثال الأوّل، فإنّه من قبیل الثانی، وما کان من قبیل الاستعمال وإرادة النوع‏‎ ‎‏والمثل والصنف، کما فی الأمثلة الاُخریٰ، فهو من قبیل الأوّل، وذلک لشهادة‏‎ ‎‏الوجدان، ومساعدة البرهان؛ ضرورة أنّ لفظ «زید» فی الجملة المعروفة لایکون‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 173
‏حاکیاً، ولا دالاًّ، فلا یکون مستعملاً فی شیء لأنّ الاستعمال یلازم الدلالة‏‎ ‎‏والحکایة.‏

‏ولا أقول هذا للزوم اتحاد الدالّ والمدلول‏‎[2]‎‏، حتّیٰ تصبح المسألة فی وادٍ‏‎ ‎‏آخر خارج عن المقام، بل الوجدان قاضٍ بذلک.‏

‏فما هو الموضوع فی القضیّة موجود خارجیّ، ولو کان حاکیاً عن أمر ذهنیّ‏‎ ‎‏تکون القضیّة کاذبة؛ لأنّ زیداً المعقول لیس ملفوظاً، ولا شیء آخر حتّیٰ یکون هو‏‎ ‎‏الحاکی عنه، ولا داعی إلی الالتزام بالاستعمال، ولا برهان علیه.‏

‏وما أفاده الوالد المحقّق ـ مدّظلّه فی المقام‏‎[3]‎‏، یناقض ما أفاده فی حروف‏‎ ‎‏الإشارة‏‎[4]‎‏؛ ضرورة أنّ الخارج یکون موضوع القضیّة، ومحکوماً علیه، کما فی‏‎ ‎‏الإشارة بالإصبع إلی العین الخارجیّة؛ والحکم علیها «بأنّها کذا وکذا».‏

‏ولیس ذلک معناه نیل الخارج حتّیٰ یلزم الخلف؛ لأنّ ما هو فی الخارج إذا‏‎ ‎‏نالته الأنفس یکون ذهنیّاً، بل لو کان ذلک منقلباً إلی الذهن یلزم کذب القضیّة‏‎ ‎‏فـ «زید» فی قولنا: «زید لفظ» وإن کان مسبّباً لحصول الصورة المعقولة من الکیف‏‎ ‎‏المسموع غیر القارّ، إلاّ أنّ المحکوم علیه لیس تلک الصورة؛ لأنّها لیست ملفوظة.‏

‏فما کان هو الملفوظ، هی الحرکة الخارجیّة الصادرة من مخارج الحروف‏‎ ‎‏المرکّبة منها کلمة «زید» وسائر الکلمات والحروف والجمل، وهذا هو الموضوع‏‎ ‎‏للقضیّة، دون الأمر الآخر، کما إذا قیل : «العدم موجود» مریداً به وجوده اللفظیّ أو‏‎ ‎‏الکتبیّ، فإنّ الموضوع فی هذه القضیّة أیضاً نفس ما هو الصادر، ولا أمر وراء ذلک‏‎ ‎‏حتّیٰ یکون العدم دالاًّ علیه، وحاکیاً عنه.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 174
‏وأمّا حدیث الاختلاف الاعتباریّ بین الدالّ والمدلول، فیکون ما نحن فیه من‏‎ ‎‏قبیل الاستعمال‏‎[5]‎‏، فهو ـ مضافاً إلی عدم البرهان علیٰ لزومه ـ غیر تامّ؛ للزوم‏‎ ‎‏الجمع بین اللحاظین المتنافیین غیر القابل للارتفاع بالاعتبارین المختلفین.‏

‏ولو سلّمنا عدم تقوّم الاستعمال بحقیقته باللحاظ الآلیّ والاستقلالیّ، بل ذلک‏‎ ‎‏فی نوع الاستعمالات، دون ماهیّتها، فیکون الاستعمال فی المقام بمعنیٰ سببیّة اللفظ‏‎ ‎‏الموضوع لحضور الصورة المعقولة منه، ثمّ بعد ذلک تنطبق تلک الصورة المعقولة‏‎ ‎‏علی الموضوع الملفوظ المحکوم علیه «بأنّه لفظ» أو «ثلاثیّ» أو «کیف مسموع»‏‎ ‎‏أو غیر ذلک، فلا تعدّد فی اللحاظ، بل التعدّد یحصل بالاستعمال الإیجادیّ؛ فإنّه‏‎ ‎‏أیضاً نوع من الاستعمال، فلا نسلّم کون ما نحن فیه من هذا القبیل؛ لشهادة الذوق‏‎ ‎‏السلیم علیٰ خلافه.‏

‏مع أنّ ما ذکرناه فی الحروف الإیجادیّة‏‎[6]‎‏، لیس من الاستعمال، فحروف‏‎ ‎‏النداء موضوعات لاعتبار النداء بعد الإلقاء والإیجاد، ولیست مستعملات فی‏‎ ‎‏المعانی الموجودة بها، فتأمّل.‏

‏وممّا یشهد علیٰ ما ذکرناه قولنا: «دیز مقلوب زید» فإنّ ما ذکرناه فیه من‏‎ ‎‏الواضح، کالنار علی المنار. هذا مع أنّ الاختلاف الاعتباریّ بین الدالّ والمدلول،‏‎ ‎‏لایستلزم تعیّن کون ما صدر دالاًّ، وهو بنفسه مدلولاً؛ لإمکان العکس، ولامعیّن فی‏‎ ‎‏البین.‏

‏فعلی ما تقرّر ، تکون القضیّة المعروفة «زید لفظ» قضیّة موضوعها الموجود‏‎ ‎‏الخارجیّ، ومحمولها المعنی الکلّی؛ بالاستعمال الحقیقیّ، ولا برهان علیٰ لزوم کون‏‎ ‎‏القضیّة الملفوظة حذاء القضیّة الخارجیّة.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 175
وإن شئت قلت :‏ إنّ هنا تکون القضیّة الملفوظة عین القضیّة الخارجیّة، أو‏‎ ‎‏تکون القضیّة هنا مرکّبة من الموضوع الخارجیّ الذی هو الملفوظ، والمحمول‏‎ ‎‏اللفظی المتّحد مع الموضوع خارجاً. هذا کلّه فیما إذا اُطلق اللفظ، واُرید شخصه.‏

‏وأمّا فیما وراء ذلک؛ ممّا کان الموضوع غیر مشمول للمحمول، کما فی‏‎ ‎‏الأمثلة الاُخر، ومنها: ما إذا اُطلق اللفظ واُرید منه جنسه، کقوله: «ضرب فعل‏‎ ‎‏ماضٍ» فإنّ المتبادر منه الانتقال من هذه اللفظة إلی المصادیق المستعملة منه فی‏‎ ‎‏الجمل، ولا یکون المقصود ما إذا أطلق واُرید منه نفس الطبیعة النوعیّة؛ لأنّها لیست‏‎ ‎‏فعلاً ماضیاً، فما هو الفعل الماضی هو المستعمل فی الجمل، فعلیٰ هذا یکون فی‏‎ ‎‏الحقیقة استعمالٌ، إلاّ أنّه مجازیّ.‏

‏ولکنّه لا بمعنی استعمال اللفظ فی غیر ما هو الموضوع له، بل بالمعنی الذی‏‎ ‎‏عرفت منّا فی الاستعمالات المجازیّة‏‎[7]‎‏.‏

إن قلت :‏ مجرّد الانتقال إلیٰ أمر وراء اللفظ، لیس من الاستعمال‏‎[8]‎‏.‏

قلت :‏ نعم، إذا اُرید منه الاستعمال الحقیقیّ، وأمّا الاستعمال المجازیّ، فهو‏‎ ‎‏لیس إلاّ الانتقال من اللفظ إلیٰ ما اُرید به؛ وما هو المقصود للمتکلّم حین‏‎ ‎‏الاستعمال، فحقیقة الاستعمال: هی الاستفادة من اللفظ لإحضار أمر ذهنیّ، هو‏‎ ‎‏مقصود المتکلّم ومرامه ومراده، وبهذا المعنیٰ یمکن استعمال «البیاض» فی السواد‏‎ ‎‏وبالعکس.‏

فتحصّل :‏ أنّ کلمة «ضرب» اُطلقت واُرید منها ما هو المستعمل فی الجملة‏‎ ‎‏التصدیقیّة، وهذا هو الاستعمال؛ أی الاستفادة من اللفظ لإحضار ما هو الأمر الغائب‏‎ ‎‏عن الناس، ویکون ذهنیّاً ونفسانیّاً.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 176
‏فما ذهب إلیه بعض الأعلام ـ مع الالتزام بالتکلّفات الباردة ـ‏‎[9]‎‏ غیر لازم‏‎ ‎‏جدّاً، فلاتغفل.‏

وإجماله :‏ هو أنّ المتکلّم الموجد للفظة «ضرب» إذا أتیٰ بعد ذلک بقوله:‏‎ ‎‏«لفظ» فهو القرینة علیٰ أنّه أراد منه شخص هذا اللفظ.‏

‏وإذا أتیٰ بعد ذلک بقوله: «فعل ماضٍ» فهو القرینة علیٰ أنّه أراد منه الطبیعة،‏‎ ‎‏مع إلغاء الخصوصیّة، أو عدم لحاظها.‏

‏وإذا أتیٰ بقوله: «فعل ماضٍ فی قولی: ضرب زید» فهو القرینة علیٰ إرادته ما‏‎ ‎‏یماثله فی خصوص هذه الجملة.‏

‏وإذا أتیٰ بقوله: «فعل ماضٍ فی جملة: ضرب زید» فهو القرینة علیٰ إرادة‏‎ ‎‏الصنف منه.‏

‏ففی جمیع الصور، یکون إلقاء اللفظ وإیجاد الموضوع، وباختلاف الحکم‏‎ ‎‏یعلم نظره.‏

وفیه نقضاً :‏ أنّه یلزم کون الموضوع فی هذه القضایا مشمول المحمول، مع أنّ‏‎ ‎‏الأمر واضح المنع.‏

‏وتوهّم : أنّه ممّا لا بأس بالالتزام به‏‎[10]‎‏، من أفحش المفاسد والغرائب؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّ کلمة «ضرب» لیس فعلاً ماضیاً، بل الفعلیّة والماضویّة والمضارعیّة من‏‎ ‎‏أوصاف المعانی، لا الألفاظ حتّیٰ یقال: بأنّها فی هذه الجملة أیضاً فعل ماضٍ،‏‎ ‎‏ولکنّها لم تستعمل فی الفعل الماضی، فلاتخلط.‏

وحلاًّ :‏ أنّ الوجدان قاضٍ باختلاف إرادة المتکلّم الذی یرید الإخبار عن‏‎ ‎‏ماضویّة «ضرب» فی جمیع الجمل بنحو القضیّة الحقیقیّة، والذی یرید إیجاد اللفظ‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 177
‏وإرادة النوع منه؛ فإنّ بین المتکلّمین بعد التحلیل فرقاً واضحاً، وعلیه یمکن الأخذ‏‎ ‎‏بالمسلکین: الاستعمال، والإلقاء. ولکنّ الذی هو المتفاهم العرفیّ هو الأوّل، دون‏‎ ‎‏الثانی.‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ الاستعمال المجازیّ فرع الاستعمال الحقیقیّ، فإذا لم‏‎ ‎‏یکن الاستعمال الحقیقیّ فیما نحن فیه ـ لعدم الوضع الآخر لکلمة «ضرب» غیر‏‎ ‎‏الوضع النوعیّ لمادّتها وهیئتها ـ فلا معنیٰ للاستعمال المجازیّ.‏

‏ویمکن دعوی الاستعمال الحقیقیّ؛ لما عرفت: من إمکان الوضع‏‎ ‎‏بالاستعمال‏‎[11]‎‏، فللمتکلّم وضع کلمة «ضرب» بالوضع الشخصیّ، إلاّ أنّه من الوضع‏‎ ‎‏العامّ والموضوع له الخاصّ، فیکون ممتنعاً، إلاّ بالوجه الذی عرفت منّا فی محلّه‏‎[12]‎‏،‏‎ ‎‏فلیتدبّر.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 178

  • )) نهایة الاُصول : 34 ـ 35 .
  • )) الفصول الغرویّة : 23 / السطر 39، کفایة الاُصول: 29، درر الفوائد، المحقّق الحائری : 40.
  • )) مناهج الوصول 1 : 108 ـ 109، تهذیب الاُصول 1 : 46 ـ 47.
  • )) مناهج الوصول 1 : 96 ـ 97، تهذیب الاُصول 1 : 39.
  • )) کفایة الاُصول : 29 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 97 ـ 98 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 142 ـ 143 .
  • )) لاحظ نهایة الاُصول : 34 .
  • )) لاحظ نهایة الاُصول : 34، محاضرات فی اُصول الفقه 1: 94 ـ 102 .
  • )) نهایة النهایة 1 : 21، محاضرات فی اُصول الفقه 1 : 102 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 63 ـ 64 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 69 ـ 71 .