الأمر الخامس : فی وضع الهیئات الإنشائیّة
وهی علیٰ ثلاثة أصناف :
منها : ما یختصّ بالإنشاء، کالأوامر والنواهی، وعهدة البحث فیها علیٰ مباحث الأمر والنهی.
ومنها : ما هو الظاهر فی الإخبار، وقد یستعمل فی الإنشاء، کالفعل المضارع، وبعض الجمل الحملیّة، کـ «هذا مسجد» أو «مملوکک».
ومنها : بعکس ذلک کالفعل الماضی المستعمل کثیراً فی الأدعیة وصیغ العقود والإیقاعات، وبعض الجمل الحملیّة کـ «هی طالق» و «هو حرّ» و «ضامن».
ولمّا کان اختلاف الأعلام فی الموضوع له، ناشئاً من اختلافهم فی حقیقة الإنشاء، فلابدّ من الإشارة إلیٰ تلک الحقیقة :
فنقول : جمیع المعتبرات العقلائیّة التی علیها تدور رحیٰ معاش الناس، متّخذات من الاُمور التکوینیّة، فإذا کان المأخذ أمراً معلوماً واضحاً، فلا وجه للاختلاف فی المأخوذ، وقد مرّ منّا الإیماء إلیٰ هذه القاعدة سابقاً. هذا هو إجماله.
وتفصیله : أنّا إذا راجعنا کلّ واحد من الاعتبارات، نجد أنّها ذات مناشئ خارجیّة مناسبة جدّاً للمعتبر العقلائیّ، مثلاً الملکیّة الاعتباریّة مأخوذة من الملکیّة الواقعیّة الثابتة للنفس بالنسبة إلی القُویٰ، ولله تعالیٰ بالنسبة إلی العالم، ولمّا کان اعتبار الملکیّة لأجل السلطان علی المملوک؛ والاقتدار علیه، یعدّ صاحب الدار مالکاً؛ لما نجد له السلطنة علیها فی التصرّفات.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 146
والبیع هو مبادلة مال بمال، وتلک المبادلة تکوینیّة إذا کانت فی المکان، واعتباریّة إذا کانت فی الملکیّة، والإجارة مثله، وهکذا النکاح والطلاق والعتق؛ فإنّ لکلّ واحد منها معنی تکوینیّاً، ثمّ بعد ذلک اعتبر فی المجتمع البشریّ؛ لإدارة السیاسة المدنیّة والحکومیّة، ولحفظ نظام العالم من الوقوع فی المفاسد والمهالک المترتّبة علی الهرج والمرج.
ومن هذا القبیل ما مرّ منّا فی الوضع، فإنّه اعتبار من الوضع التکوینیّ، وهکذا الإنشاء، فإنّه اعتبار الإیجاد؛ لأنّ معناه التکوینیّ إیجاد الشیء، کما فی قوله علیه السلام: «أنشأ الخلق إنشاءاً».
ثمّ إنّ المعتبرات العقلائیّة أبدیّة، إلاّ إذا اضمحلّت الأقوام والاُمم، أو زالت الجهات المورثة لحدوثها، ولیست باختیار الآحاد بما هم آحاد، فهی الاُمور الموجودة فی وعاء الاعتبار، إلاّ أنّ نحو الاعتبار قضیّة تعلیقیّة علیٰ نعت الکلّی، کما عرفت منّا أیضاً تفصیله.
فلا معنیٰ لتوهّم اعتبار الملکیّة من قبل المالکین، أو اعتبار الطلاق والزواج من قبل الأفراد وهکذا، بل هذه الاُمور ـ بمعناها الواقعیّ ـ لیست اختیاریّة بید الأفراد والآحاد، والذی هو باختیارهم أمر اعتبر ـ بنحو الکلّی ـ سبباً لها، وهذا بید الأفراد والآحاد؛ وهو عناوین العقود والإیقاعات، کالبیع والإجارة والصلح وهکذا.
وهذه العناوین لها لغات موضوعة لها، فیکون جمیع هذه اللّغات أسباباً لفظیّة لتحصّل المعتبر العقلائیّ الذی هو مفاد تلک اللغات، وهی فی الحقیقة موضوعات
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 147
لتلک المعتبرات الکلّیة الخارجة عن اختیار العقلاء، وهی الملکیّة، والنقل والانتقال، والزواج والطلاق؛ بالحمل الشائع وهکذا.
فهنا ثلاثة اُمور: اللفظ، ومعناه المنشأ به، والأثر المترتّب علیه:
أمّا اللفظ، فهو باختیاره، ویوجد بإنشائه التکوینیّ.
وأمّا معناه، فهو باختیاره مع الوسط، ویکون بین اللفظ وهذا المعنی اعتبار السببیّة والإیجاد.
وأمّا الأثر ، فهو مترتّب علیٰ فعله الاختیاریّ، وهذا الأثر هو الذی یترتّب علیه عند العقلاء ـ بعد إمضائهم ـ القانونُ الکلّی؛ وهو أنّ کلّ من نطق بهذه الألفاظ بمالها من المعانی، مریداً ذلک المعنیٰ، فهو مالک الثمن، وذاک مالک المثمن، أو غیر ذلک من التعابیر الممکنة. فالذی باختیارنا السعی فی إیجاد مقدّم هذه القضیّة المعلّقة والشرطیّة.
فعلیٰ هذا، تکون الألفاظ آلات إیجادیّة فی وعاء الاعتبار لوجود اعتباریّ، وهذا هو الإنشاء الاعتباریّ. ولا شبهة فی أنّ المنشئ لابدّ من تصوّره ما یترتّب علیٰ إنشائه، وما هو المنشأ، وهکذا، فما دام لم یتصوّر ذلک، ولا یصدّق بالأثر المترتّب علیه، لایکون کلامه سبباً، ولا ما یحصل منه موضوعاً لتلک القضیّة الکلّیة.
إذا عرفت ذلک علمت: أنّ ما أفاده العلمان الأصفهانی والخمینیّ الوالد ـ عُفی عنهما صحیح، ولکنّهما لم یبیّنا وجه المسألة، وما أفاده غیرهما ـ کصاحبی «الکفایة» و «المقالات» وأتباعهما ـ فهو الغفلة والذهول، والخروج عمّا هو یلیق بالتحقیق.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 148
والعجب من صاحب «المقالات» حیث ینسب إلیه أنّ الإنشاء هو إبراز المعتبر النفسانیّ بمبرز خارجیّ.
وهذا إن رجع إلیٰ لزوم تصوّر المبادلة قبل إنشاء البیع، فهو أمر واقعیّ مطابق للتحقیق، وقد أشرنا إلیه.
وإن رجع إلیٰ أمر آخر فهو واضح المنع ؛ ضرورة أنّ المعتبر النفسانیّ لایمکن إبرازه؛ لأنّه أمر ذهنیّ لایعتبر وراء النفس، فلابدّ من کون المعتبر أمراً مطلقاً من الذهن، ویکون فی الاعتبار خارجیّاً، کما یقال: «زید مالک وبایع» خارجاً، لا ذهناً.
وإن اُرید إظهار ما فی الخیال فجمیع القضایا مبرزات لما فی النفس؛ إخباریّة کانت، أو إنشائیّة.
هذا مع أنّه یلزم کفایة الإخبار عمّا صنعه فی الذهن من المبادلة الذهنیّة؛ فإنّها لیست مبادلة اعتباریّة، بل هی مبادلة وهمیّة أو خیالیّة؛ أی بدّل بین الصور العلمیّة الموجودة عنده من الأثمان والمثمنات.
فما قیل : بکفایة الأمر النفسانیّ عن الإبراز، باطل، ومنشأه الغفلة عن أنّ الاُمور الاعتباریّة، موجودات معلّقة علیٰ طریق القوانین الکلّیة، فما دام لم یوجد المقدّم لایتحقّق التالی، ووجود المقدّم هو المعتبر خارجاً، وما کان وجوده اعتباریّاً فی الخارج لایتحقّق بصِرْف الوهم والخیال.
فما هو القانون الکلّی : «هو أنّه إذا تحقّق البیع فی الخارج تحقّق الملکیّة، ویتبادل الأملاک» والبیع الوهمیّ غیر البیع الاعتباریّ بالضرورة؛ فإنّ وعاء الاعتبار اُخذ من وعاء الخارج، لا الذهن، فاغتنم.
ثمّ إنّک إن شئت قلت : الإنشاء هو تحقیق المعتبرات العقلائیّة؛ أی إیجادها
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 149
وإلباسها لباس الخارجیّة.
إذا عرفت ذلک، فلابدّ من الالتزام بأنّ الموضوع له فیها خاصّ؛ لما عرفت: من أنّ مفاد القضیّة والهیئات المرکّبة، غیر قابل لشمول العنوان الواحد له، حتّیٰ یکون هو الموضوع له.
ثمّ إنّ الهیئة فی الفعل الماضی المخصوصة بالإنشاء، لا تکون بالوضع التعیینیّ، بل هی بالاستعمال، کما عرفت وجهه، فعلیه یتعدّد الوضع، وتکون تلک الهیئة مشترکة بالاشتراک اللفظیّ، کما فی کثیر من الموادّ، ولا سبیل إلی القول بالمجاز.
وأمّا الهیئة فی المضارع المستعملة أحیاناً فی الإنشاء، فهی لیست مثلها، بل الظاهر أنّها تستعمل کالاستعمال فی الإخبار، إلاّ أنّه بنحو الادعاء والمجازیّة؛ لنکتة فی ذلک کما لایخفیٰ.
ومن هذا القبیل الهیئات فی الجمل الاسمیّة الإخباریّة الحملیّة، کقولهم: «هذا مسجد» أو «أنت ضامن» أو «هی طالق» و «هذا مملوکک» فی مقام الوقف وفی مقام إنشاء البیع، فإنّ الکلّ بنحو المجاز والادعاء، ومصحّح هذه الدعوی الآثار المقصودة بها.
وربّما تکون الجملة الحملیّة کثیرة الاستعمال فی الإنشاء؛ بحیث ربّما تکون حقیقة ثانویّة، کما فی الطلاق والضمان. ولایستلزم صحّة استعمال تلک الجملة فی مواقف خاصّة، صحّتها علی الإطلاق کما توهّم، فلایجوز أن یقال: «زید قائم» فی مقام الأمر بالقیام، بخلاف قولهم: «زید ضامن» فی مقام الأمر بالأداء، أو «هو یعید صلاته» فی مقام الأمر بالإعادة، فلا تغفل.
وربّما یخطر بالبال عدم صحّة المجاز والادعاء فی هذه الجمل الحملیّة؛ لأنّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 150
المقصود إفادة الطلاق والملکیّة والوقفیّة، فلابدّ من کونها بنحو الحقیقة، فإذا قال: «هذا مسجد» فلابدّ من استعمال الهیئة فی المعنی الإیجادیّ الاعتباریّ، ویکون الموضوع من أفراد المحمول الکلّی الذی هو ذو أحکام خاصّة.
نعم، فیما إذا قال: «هذا مملوکک» فی مقام إفادة البیع، فربّما کان ذلک من باب الکنایة؛ باستعمال اللازم وإرادة الملزوم، وإلاّ فهو لایقع بیعاً بهذه الجملة. نعم یتمکّن من مطلق التملّک بناءً علیٰ جوازه.
وعندئذٍ تارةً : یلزم کون الموضوع من مصادیق المحمول، کما فی المثال الأوّل.
واُخریٰ : لیس الأمر کذلک، کما فی المثال الثانی؛ لأنّ الکلّی المملوک مضاف إلیٰ زید، وهو لیس مالکاً لشیء فرضاً، فتأمّل.
إن قلت : لایعقل الاستعمال الإیجادیّ؛ لأنّ صحّته تتوقّف علیٰ وجود المستعمل فیه قبل الاستعمال، فکیف یعقل وجوده متأخّراً عنه؟!
قلت : هذا ما یظهر من موضع من «الدرر» وفیه ما مرّ فی المعانی الحرفیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 151