المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

حول الهیئات الإخباریة التامّة

حول الهیئات الإخباریة التامّة

‏ ‏

‏وأمّا الهیئات التامّة التی یصحّ السکوت علیها، فهی فی الإخباریّة ـ علیٰ ما‏‎ ‎‏فی کتب القوم ـ موضوعة للدلالة علی النسبة التصدیقیّة‏‎[1]‎‏، أو للدلالة علیٰ‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 139
‏الهوهویّة التصدیقیّة‏‎[2]‎‏ أو لإبراز قصد الحکایة والإخبار عن الواقع ونفس الأمر‏‎[3]‎‏.‏

وأنت خبیر :‏ باشتراک الکلّ فی إشکال ؛ وهو أنّ الدلالة من متفرّعات الوضع،‏‎ ‎‏وإبراز القصد من الغایات المترتّبة علی الوضع، فـ «اللام» المأخوذ فی هذه العبارة‏‎ ‎‏غیر «اللام» فی قولهم: «من للابتداء» فإنّ الموضوع له فی الکلمة معنی تصوریّ،‏‎ ‎‏والموضوعَ له فی الجملة معنی تصدیقیّ، فکون قصد الحکایة أو إبراز قصد الحکایة‏‎ ‎‏موضوعاً لها، من المناقضة بین ما هو الموضوع، وما هو الموضوع له.‏

‏واختصاص الأوّلَین بأنّ القضایا الکاذبة من القضایا الحقیقیّة؛ أی تکون الهیئة‏‎ ‎‏فیها مستعملة فیما وضعت لها، مع أنّها لا محاکاة ولا مدلول ولا نسبة لها وراء الوهم‏‎ ‎‏الکاذب. اللهمّ إلاّ أن یقال : هی موضوعة للاستدلال، وهو أعمّ من المطابقة‏‎ ‎‏واللامطابقة.‏

‏واختصاص الثالث بأنّ مناط القضایا الکاذبة، عدم موافقة مضمون الجملة لما‏‎ ‎‏فی الواقع ونفس الأمر، وعلیه یلزم إمّا صدق جمیع القضایا، وهو واضح المنع، وإمّا‏‎ ‎‏کون الهیئة ذات مفادین ومضمونین؛ أحدهما: صادق دائماً، وثانیهما: صادق‏‎ ‎‏وکاذب؛ حسب التطابق وعدمه، وهذا أیضاً واضح المنع؛ ضرورة أنّ الهیئة موضوعة‏‎ ‎‏لمعنی واحد بسیط، کسائر اللغات والهیئات التصوّریة، فلاینبغی الخلط، وتدبّر.‏

‏فعلیٰ ما عرفت، لایمکن تصوّر الموضوع له فی الهیئات التصدیقیّة؛ لأنّ‏‎ ‎‏تصوّر الهیئة التصدیقیّة لیس إلاّ تصوّر أمر بسیط، والهیئة التصدیقیّة مرکّبة، فلا یعقل‏‎ ‎‏إسراء الوضع إلیٰ ما هو المقصود؛ لأنّه غیر ما هو المقصود بالوضع.‏

إن قلت :‏ نعم، إلاّ أنّه کالحروف والمعانی الاسمیّة الحاکیة عنها فی حال‏‎ ‎‏الوضع، فکما أنّ بتلک العناوین الاسمیّة کان یمکن ذلک، فکذلک الأمر هنا، وکما أنّ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 140
‏هناک کان الموضوع له عامّاً، کذلک هنا.‏

قلت :‏ لیس الأمر کما قیل؛ ضرورة أنّ ما ذکرناه هناک‏‎[4]‎‏: هو أنّ الأمر الواحد‏‎ ‎‏البسیط ـ وهی حیثیّة الابتداء ـ یمکن أن یکون معنی اسمیّاً فی موطن، وحرفیّاً فی‏‎ ‎‏موطن، کما التزم المشهور من الفلاسفة فی الجوهر والعرض فی مباحث الوجود‏‎ ‎‏الذهنیّ‏‎[5]‎‏.‏

‏وأمّا المرکّب والبسیط والقضیّة والتصوّر، فغیر قابلة للانقلاب حسب الخارج‏‎ ‎‏والذهن، فعلیه لابدّ من الالتزام بأنّ الموضوع له خاصّ، وقد عرفت أنّ الوضع العامّ‏‎ ‎‏والموضوع له الخاصّ ممتنع‏‎[6]‎‏، فلابدّ من علاج هذه العویصة جدّاً.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ أخذ المفاهیم التصوّریة من الهیئات التصدیقیّة، وإسراء‏‎ ‎‏الوضع إلی تلک الهیئات ـ کما وضعوا ذلک فی الحروف ـ ممّا لا یعقل، ولو سلّمنا‏‎ ‎‏تعقّله فهو ممّا لا یورث السرایة؛ لما عرفت فی أصل المسألة‏‎[7]‎‏، ولخصوصیّة فی‏‎ ‎‏المقام.‏

‏فما أفاده جماعة من المحقّقین ومنهم الوالد ـ مدّظلّه : من أنّ الموضوع له‏‎ ‎‏فی الهیئات خاصّ، کما فی الحروف‏‎[8]‎‏، غیر تامّ فی الهیئات الناقصة؛ لأنّها وإن‏‎ ‎‏کانت دالّة وکاشفة فی الجمل الإخباریّة عن حیثیّة غیر حیثیّة المضاف والمضاف‏‎ ‎‏إلیه بالضرورة، إلاّ أنّ المستکشف بها ـ کما قد عرفت ـ مختلف الأوعیة؛ حسب‏‎ ‎‏أوعیة المضاف والمضاف إلیه، والجامع لها لیس إلاّ أمراً کلّیّاً، ولا دلیل علیٰ لزوم‏‎ ‎‏کونه جامعاً ذاتیّاً، بل هو باختیار الواضع، فما یأخذه من الشتات والمتباینات، هو‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 141
‏الجامع فی عالم الوضع والألفاظ وإن کان وهمیّاً وعنوانیّاً وعرضیّاً.‏

‏وإذا کان الوضع أمراً اعتباریّاً، فما هو اللابدّ منه کونه قابلاً للاعتبار فی‏‎ ‎‏الخارج، وهذا ممّا لا شبهة تعتریه، فعلیه کما یعتبر الواضع الجامع موضوعاً له‏‎ ‎‏فیکون کلیّاً، کذلک یعتبره فی الخارج، فیکون ما هو الجامع موجوداً فی الخارج‏‎ ‎‏سنخَ موجودیّة الطبیعیّ فی الخارج، وبهذا تنحلّ الشبهة فی الحروف أیضاً.‏

‏وهذا طریق آخر لحلّ الشبهات فی عموم الموضوع له فی الحروف، ولحلّ‏‎ ‎‏الشبهة فی أخذ المفاهیم الاسمیّة من المصادیق الحرفیّة، وحملها علیها.‏

‏وأمّا فی الهیئات التامّة، فقد عرفت الشبهة فیها.‏

‏وقال صاحب «المقالات» بعموم الموضوع له فی الهیئات التامّة والناقصة،‏‎ ‎‏قائلاً: إنّ الهیئة الناقصة تحکی عن النسبة الثابتة، والهیئة التامّة تحکی عن إیقاع‏‎ ‎‏النسبة، نحو «زید قائم» و «عبدی حرّ» فی مقام إنشاء العتق، والإنسان یریٰ‏‎ ‎‏بالوجدان: أنّ المتکلّم یری الموضوع عاریاً عن النسبة التی یرید إثباتها إخباراً أو‏‎ ‎‏انشاءً، وهو بالحمل والإنشاء یوقعها بین الموضوع والمحمول، بخلاف النحو الأوّل‏‎ ‎‏فإنّ المتکلّم یری النسبة فیه ثابتة للموضوع أو المحمول‏‎[9]‎‏، انتهیٰ ما هو لبّ مرامه.‏

‏وأنت خبیر بما فیه؛ لما عرفت من أنّ قولنا : «الربط بین غلام زید ربط‏‎ ‎‏إضافیّ» جملة صحیحة، ولا واقعیّة للنسبة الناقصة، فیعلم أنّ المحکیّ بالهیئة‏‎ ‎‏الناقصة والمدلول علیه مختلف:‏

فتارة :‏ یکون تکویناً مقوّماً لطرف الإضافة، کقولنا: «إله العالم» فإنّ هذه‏‎ ‎‏الإضافة تحکی عن الإضافة الإشراقیّة.‏

واُخریٰ :‏ یکون من قبیل «بیاض الجسم».‏

وثالثة :‏ یکون من قبیل «غلام زید».‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 142
ورابعة :‏ من قبیل ما اُشیر إلیه.‏

وخامسة :‏ غیر ذلک.‏

‏والذی هو الجامع هو الموضوع له. ولا وجه لدعویٰ خصوص الموضوع له؛‏‎ ‎‏لوقوع هذه النسبة مورد الأمر، مع فقد المضاف والمضاف إلیه مجموعاً، کما إذا قیل:‏‎ ‎‏«صلّ صلاة الکسوف والخسوف» وهکذا، والقیام بحلّ هذه الاُمور بطریق خارج‏‎ ‎‏عن المتعارف ـ بعد عدم لزومه ـ مستهجن.‏

‏هذا وفی قوله : «تحکی عن إیقاع النسبة» تناقض ظاهر، وکان ینبغی أن‏‎ ‎‏یقال: «آلة لإیقاع النسبة» وسیظهر ما هو التحقیق فی مفاد الهیئة التامّة إن شاء الله ‏‎ ‎‏تعالیٰ.‏

‏والذی هو التحقیق فیها : أنّ الواضع فی هذه المواقف بالاستعمال یتمکّن من‏‎ ‎‏أداء وظیفته، فإذا أراد إفادة مفاد القضیّة، فیقول: «زید قائم» مریداً به أنّ الهیئة فیها‏‎ ‎‏تکون ذات دلالة علیٰ أمر غیر ما یدلّ علیه المفردات هیئةً ومادّة، وفی هذا‏‎ ‎‏الاستعمال لایلتزم بالصدق والکذب، بل المقصود فیه المعنی الأعمّ من ذلک؛‏‎ ‎‏لإمکان أداء وظیفته بقوله: «شریک الباری موجود» فیعلم من ذلک أنّ ما هو مفاده؛‏‎ ‎‏إثبات الاتحاد والهوهویّة فی الحملیّات.‏

‏وأمّا فی الفعلیّة من الجملة، وهکذا فی الاسمیّة غیر الحملیّة، فلعلّ الهیئة‏‎ ‎‏فیهما موضوعة بوضع آخر ـ یطلب تفصیله فی المشتقّات‏‎[10]‎‏ ـ لا الحکایة عن‏‎ ‎‏الهوهویّة، ولا إیقاع النسبة، کما لایخفیٰ.‏

‏والعجب من صاحب «المقالات» ‏‏رحمه الله‏‏ حیث توهّم: «أنّ الفرق بین مفاد‏‎ ‎‏الناقصة والتامّة؛ هو أنّ فی الاُولیٰ یکون المحکیّ هی النسبة بلحاظ نفسها، مع قطع‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 143
‏النظر عن وجودها وعدمها، وفی الثانیة هو وجودها»‏‎[11]‎‏ انتهیٰ .‏

وأنت خبیر :‏ بأنّ عمدة البحث فی الهیئات الناقصة، هی الواقعات فی الجمل‏‎ ‎‏التامّة، کقولنا: «زید العالم قائم» و «غلام زید فاضل» وهکذا، ولو کان القائم‏‎ ‎‏والفاضل زیداً الجاهل، وغلامَ عمروٍ، لکان هو الکاذب بالضرورة، ویؤخذ کذبه من‏‎ ‎‏عدم المحکیّ للنسبة الناقصة، المستلزمة لعدم النسبة التامّة کما هو الواقع، فلیتدبّر.‏

وما قیل :‏ «من أنّ مناط کذبه عدم مطابقة مضمون الهیئة التامّة للواقع»‏‎[12]‎‏ إن‏‎ ‎‏کان یرجع إلیٰ ما أشرنا إلیه فهو، وإلاّ فهو ضروریّ الفساد بالوجدان، فما أفاده‏‎ ‎‏بقوله: «مع قطع النظر عن وجودها» لا فائدة فیه.‏

فتحصّل :‏ أنّ الهیئة تکون موضوعة لمعنی تصدیقیّ، فلا یکون وعاؤه‏‎ ‎‏الخارج؛ لأنّه وعاء الوجود وکماله، وأمّا التصدیق والإذعان فهو من الاُمور الذهنیّة‏‎ ‎‏والنفسانیّة، ووعاؤها الذهن، فما هو فی الخارج کما یمکن لحاظه بالنسبة‏‎ ‎‏التصوّریة، یمکن لحاظه بالنسبة التصدیقیّة، فهذا کاشف عن أنّ هذه الاُمور لیست‏‎ ‎‏واقعیّة، بل تختلف باختلاف الأغراض والمقاصد.‏

‏نعم، لابدّ من ملاک الاتحاد فی الحمل بلا شبهة، ولکنّه غیر ما هو الموضوع‏‎ ‎‏له فی الهیئة؛ ضرورة أنّ العنوان الذاتیّ کعنوان «الإنسان» والعنوانَ العرضیّ‏‎ ‎‏کـ «العالم» ونحوه، لا یکونان متّحدین فی الخارج، بل ما هو المتّحد هو وجود‏‎ ‎‏الأعراض مع الجواهر اتحادَ الشیء مع کماله.‏

‏فجمیع العناوین اختراعیّة، والحمل بینها إبداعیّ، والهیئة موضوعها إثبات‏‎ ‎‏الاتحاد، وقد مضیٰ أنّ ملاک الصدق لیس إلاّ تمامیّة مضمون الجملة ممّا هو فی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 144
‏نفس الأمر‏‎[13]‎‏، والمراد من «نفس الأمر» أعمّ من الخارج، والذهن، ودرک العقل‏‎ ‎‏صحّة الحمل، کما فی قولنا: «الإنسان إنسان» فلا محکیّ فی مجموع القضایا حتّیٰ‏‎ ‎‏تکون الهیئة موضوعة للحکایة، أو لإبراز قصد الحکایة، أو لأمثالها ممّا لاتخفیٰ.‏

فبالجملة :‏ لاینبغی الخلط بین حیثیّة الحمل، وحیثیّة الاتحاد؛ فإنّ الاُولیٰ‏‎ ‎‏ذهنیّة، والثانیة خارجیّة، فالذی هو الحامل بین العنوانین هی نفس الإنسانیّة، والهیئة‏‎ ‎‏لاتکون إلاّ موضوعة لما یتصدّیٰ له النفس؛ وهو حمل شیء علیٰ شیء.‏

وتوهّم :‏ أنّ الموضوع له کلّی إذا کان ذهنیّاً، فی غیر محلّه؛ لتشخّصه به.‏

‏کما لاینبغی الخلط بین مباحث الألفاظ، ومسائل الفلسفة، وقد وقع ذلک فی‏‎ ‎‏هذه المباحث وأشباهها لکثیر من أهل الفضل والعلم. وارتباط مسائلها بعضها‏‎ ‎‏ببعض أحیاناً لایورث جوازه، ولایستلزم اقتناص الحقائق الحکمیّة من الإطلاقات‏‎ ‎‏العرفیّة والاستعمالات الدارجة فلیتأمّل؛ فإنّ التحفّظ علیه صعب جدّاً.‏

‏ثمّ إنّ فی قولنا : «إنّ مفاد الهیئة التامّة إثبات الاتحاد» إشکالاً أو إشکالین؛‏‎ ‎‏وذلک لأنّ إثبات الاتحاد یستلزم دوام الصدق، ولأنّ مفاد القضایا فی الحملیّات‏‎ ‎‏الأوّلیة هو الاتحاد فی الذات والمفهوم، وفی الشائع الصناعیّ هو الاتحاد فی‏‎ ‎‏الوجود، وفی مثل «الإنسان نوع» هو الأمر الآخر.‏

‏ویمکن حلّ الأوّل : بأنّ الإثبات أعمّ من الثبوت الواقعیّ، فإن کان ثابتاً‏‎ ‎‏فالقضیّة صادقة، وإلاّ فهی کاذبة.‏

‏وحلّ الثانی: بأنّ المراد من «الاتحاد» هو المهمل منه، لا القسم الخاصّ، فإذا‏‎ ‎‏کان بین الموضوع والمحمول، نوعَ اتحاد فی وعاء من الأوعیة، فالهیئة متکفّلة‏‎ ‎‏لإثباته والحکم به.‏

وإن شئت قلت :‏ مفاده إثبات نوع اتحاد بین الموضوع والمحمول، وأمّا‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 145
‏خصوصیّات الاتحاد فتعرف فی موقف الاستعمال.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 146

  • )) لاحظ مقالات الاُصول 1 : 95 .
  • )) مناهج الوصول 1 : 89 ـ 91 و 117 .
  • )) محاضرات فی اُصول الفقه 1 : 85 ـ 87 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 103 ـ 104 .
  • )) الحکمة المتعالیة 1 : 264 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 77 ـ 78 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 110 ـ 111 .
  • )) نهایة الدرایة 1 : 51، نهایة الاُصول : 21 و 170، مناهج الوصول 1 : 122.
  • )) مقالات الاُصول 1 : 95، بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 59 ـ 60.
  • )) یأتی فی الصفحة 363 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 61 ـ 62 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 42، محاضرات فی اُصول الفقه 1: 84 و 87 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 115 ـ 116 .