فذلکة المرام ونهایة الفکر فی المقام
هو السؤال من الأعلام عن مسألة کیفیّة أخذ النفس المفاهیم الاسمیّة من المعانی الحرفیّة، مع التباین والتفارق الجوهریّ بینهما، فکیف یؤخذ عنوان المعانی الحرفیّة من الروابط الخارجیّة التی نفس حقیقتها خارجیّة، مع أنّ العنوان المشار إلیه مفهوم اسمی؟ فهل هذا یشهد علیٰ عدم الفرق بین تلک المعانی إلاّ حسب الأوطان، فلا یکون الفرق جوهریّاً، أو یشهد علیٰ أنّ تلک المفاهیم حرفیّة؟
أو کیف تکون تلک المفاهیم حاکیة عن المباینات، فکیف یمکن الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ؟! لأنّه لایعقل ذلک إلاّ بمرآتیّة العنوان الجامع الکاشف والحاکی عن مصادیقه؛ عرضیّة کانت، أو ذاتیّة، فعلیه لابدّ من تفویض الأمر إلی الملک العلاّم.
أو یقال بعد ذلک : بأنّ المعانی الحرفیّة فی الأعیان تباین المعانی الاسمیّة فیها، ولا شبهة فی أنّ الخارج مشغول بمعنیین: معنی اسمیّ ومعنی مرتبط واندکاکیّ، ولکنّه کما تکون الطبیعة الواحدة، مختلفة الحکم بالجوهریّة والعرضیّة فی الخارج والذهن، هنا الأمر نظیره؛ ضرورة أنّ ما هو فی الخارج وإن کان معنی اندکاکیّاً وربطیّاً، ولکنّ النفس القادرة علی التجزئة والتحلیل، وعلیٰ أنحاء
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 124
اللحاظات بالنسبة إلی الاُمور المختلفة علی الوجه الصحیح، لها لحاظ مفهوم الربط.
وإن شئت قلت : مفهوم الربط والنسبة مأخوذ من الارتباطات المتعارفة العرفیّة، وهکذا غیره من المفاهیم؛ فإنّ کلّ مفهوم لابدّ له من مأخذ صحیح، ثمّ استعمل تلک المفاهیم فی المواقف الاُخر؛ للتوسّل إلی الأغراض والمقاصد الصحیحة، فعلیه یکون أخذ المفاهیم الاسمیّة من المعانی الاسمیّة، إلاّ أنّ للمناسبات الخاصّة تطلق لانتقال النفس إلیٰ ما هو غرض المتکلّم، وهذا کافٍ فی السببیّة لنقل الإنسان إلیٰ مقصده.
ولکنّه لیس موجباً للقول : بأنّ الموضوع له خاصّ، بل هذا یورث کون الابتداء أیضاً من تلک المفاهیم، وهو ممنوع؛ ضرورة أنّه لایؤخذ إلاّ من المعنی الحرفیّ، لعدم إمکان تعقّل المصداق الاسمیّ له، کما هو الظاهر.
فعلیه لابدّ من حلّ المعضلة، وهو لایمکن بالتوسّل بذیل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ کما عرفت، مع امتناعه فی ذاته.
فیعلم منه : أنّ ما هو الموضوع له هو أمر کلّی ذهنیّ، لو کان فی الخارج یکون جزئیّاً حرفیّاً، فکما أنّ ما هو فی الذهن عرض وکلّی، وإذا وجد فی الخارج یکون جوهراً جزئیّاً، کذلک مفهوم الابتداء والانتهاء والظرفیّة وغیرها.
وکما یکون الموضوع له فی الجواهر معنی جوهریّاً، لا عرضاً ذهنیّاً، کذلک الموضوع له هنا معنی اسمیّ وإن هو فی الخارج معنی حرفیّ.
وکما أنّ الموضوع له فی الجواهر عامّ، کذلک هنا عامّ، فلیتدبّر جدّاً.
إن قلت : بناءً علیٰ هذا یکون الموضوع له فیها الجزئیّ؛ لأنّه الوجود، دون المفاهیم، ودون المصادیق الذاتیّة لها المقترنة بالخصوصیّات الزائدة علیٰ ذات الموضوع له، کما فی أسماء الإشارة، ودون الموضوع له الکلّی، کما فی أعلام
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 125
الأشخاص.
قلت : نعم، وهذا هو الحقّ الصِرف، ولکنّه فرق بین کون الموضوع له بالوضع الإنشائیّ فی الحمل الأوّلی، والموضوع له بالحمل الشائع، فما هو الموضوع له بالذات هو العامّ والعنوان، إلاّ أنّ هذه العناوین لیست أنفسها حقیقة إلاّ بالمصداق والوجود.
وقد عرفت : أنّ العناوین الذهنیّة بین ما تکون معتبرة فی الخارج والذهن حقیقة وبنفسها، کالماهیّات والطبائع، وبین ماهو المتّحد فی القضیّة مع الموضوع خارجاً، وإن کان الخارج ظرفاً له بالعرض، لا بالحقیقة، ولکنّه هو فی الخارج بمناشئ اعتباره واتخاذه، ولو کان بین مفهوم الوجود والوجود تبایناً بالخارجیّة والذهنیّة، لما صحّ الحمل، وهکذا بین حیثیّة الابتداء التی هی الوجود الرابط، وبین الابتداء، لما صحّ الحمل، ولما صحّ الاستفادة من مشتقّات الابتداء مقام کلمة «من».
إن قیل : مصادیق الحروف علیٰ ما تقرّر، هی الوجودات الکامنة فی الموضوعات، المورثة لاعتبار العناوین الاشتقاقیّة الکمالیّة منها، فمن أین جاء مفهوم الکیف والکم؟!
قلنا : لایلزم اتخاذ جمیع المفاهیم من الخارج، حتّیٰ یکون بحذائه فی الخارج حیثیّة تمتاز عن سائر الحیثیّات، ولذلک یصحّ الحکم علی الممتنعات الخارجیّة، مع أنّه لا واقعیّة لها فیها، فمن أین جاء تلک المفاهیم؟! فکما أنّ مفهوم «شریک الباری» متّخذ من «الشرکة» و «الباری» فی العقل، ومفهوم اجتماع الضدّین والنقیضین من البسائط التصوّریة، کذلک مفهوم الکیف والکم، یتّخذان من المتکمّم والمتکیّف بعدما صحّ التحلیل، وإلاّ فلا حذاء فی الخارج للکیف؛ للزوم کون ما فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 126
الخارج وجوداً تابعاً للحاظنا، وهو واضح المنع.
وما اشتهر : «من أنّ الفرق بین المبدأ والمشتقّ اعتباریّ، ویکون الأوّل بشرط لا، والثانی لا بشرط» ممّا لا أساس له، والتفصیل فی مقام آخر.
فبالجملة : المفاهیم المتّخذة من أنحاء الوجودات الخارجیّة التی تکون لها خارجات المحمول، وتحمل علیها بالحمل الشائع، ربّما یشکل کیفیّة نیل النفس لها.
وقد یقال : بأنّه من أصعب الاُمور تناولاً؛ لأنّ ما لا إحاطة به للنفس، کیف یتمکّن من اعتبار أمر منها؟! فعلیه یمکن دعویٰ أنّ مبدأ اعتبار الوجود ملاحظة الوجودات الذهنیّة، وفقدانها لأمر، ووجدانها لأمر آخر، وعندئذٍ یعتبر مفهوم العدم والوجود. وقد خرجنا عمّا هو محطّ النظر فی المقام، فلیعذرنی الإخوان؛ لأنّه من مزالّ الأقدام.
وبذلک الذی أسمعناک وأسلفناک، تقدر علیٰ حلّ شبهة : وهی ما عرفت من استعمال الأدوات فی المادیّات والمجرّدات، مع عدم خصوصیّة حرفیّة قائمة بتلک الموجودات المجرّدة البسیطة، خصوصاً المبدأ الأعلیٰ.
وذلک لأنّ معنی «الابتداء» و «الانتهاء» و «الظرفیّة» وأمثال ذلک، بین ما هو الواقع فی نفس الأمر، کما فی قولنا: «زید فی الدار» وقولنا: «سرت من البصرة إلی الکوفة» وتکون الحروف ـ کالأسماء ـ ذات مدالیل خارجیّة بالضرورة والوجدان، وبین ما هو الملحق به ادعاءً، وفی التشبیه والتنظیر، وأمثال ذلک من التلاعبات المتعارفة فی أنحاء الاستعمالات.
ففی قولنا : «زید فی الخارج» أو قولنا : «الوجود من الله تعالیٰ نازل إلی الهیولیٰ» وهکذا، فإنّه لیس فی «زید» معنی حرفیّ کحرفیّة الابتداء والظرفیة فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 127
المثال الأوّل، إلاّ أنّه من باب الادعاء والاتساع، لا الحقیقة، وهکذا الابتداء والانتهاء فی المثال الثانی، فإنّه من باب توهّم المبدئیّة الحرفیّة، وإلاّ فهو تعالیٰ حقیقة المبدئیّة لسائر الموجودات، إلاّ أنّه لیس خصوصیّة قائمة به تعالیٰ، بخلاف التحرّک من البصرة.
ولعدم نیل هذا قیل : «بأنّ المعانی الحرفیّة من عالم المفهوم، وتکون المعانی الحرفیة تضییق المعانی الاسمیّة» ظنّاً أنّه بذلک تنحلّ هذه الشبهة، غفلةً عن أنّ المعانی الحرفیّة الخارجیّة، من المبرهنات العقلیّة والمرتکزات الوجدانیّة.
فبالجملة : ما تریٰ فی کتب الأدب من قولهم: «بأنّ کلمة من للابتداء، وکلمة إلی للانتهاء، وکلمة فی للظرفیّة، وکلمة علیٰ للاستعلاء» وهکذا، هو بظاهره موافق لاُفق التحقیق، وحقیق بالتصدیق. هذا تمام الکلام فی الحروف الحاکیة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 128