المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

فذلکة المرام ونهایة الفکر فی المقام

فذلکة المرام ونهایة الفکر فی المقام

‏ ‏

‏هو السؤال من الأعلام عن مسألة کیفیّة أخذ النفس المفاهیم الاسمیّة من‏‎ ‎‏المعانی الحرفیّة، مع التباین والتفارق الجوهریّ بینهما، فکیف یؤخذ عنوان المعانی‏‎ ‎‏الحرفیّة من الروابط الخارجیّة التی نفس حقیقتها خارجیّة، مع أنّ العنوان المشار‏‎ ‎‏إلیه مفهوم اسمی؟ فهل هذا یشهد علیٰ عدم الفرق بین تلک المعانی إلاّ حسب‏‎ ‎‏الأوطان، فلا یکون الفرق جوهریّاً، أو یشهد علیٰ أنّ تلک المفاهیم حرفیّة؟‏

‏أو کیف تکون تلک المفاهیم حاکیة عن المباینات، فکیف یمکن الوضع العامّ‏‎ ‎‏والموضوع له الخاصّ؟! لأنّه لایعقل ذلک إلاّ بمرآتیّة العنوان الجامع الکاشف‏‎ ‎‏والحاکی عن مصادیقه؛ عرضیّة کانت، أو ذاتیّة، فعلیه لابدّ من تفویض الأمر إلی‏‎ ‎‏الملک العلاّم.‏

‏أو یقال بعد ذلک : بأنّ المعانی الحرفیّة فی الأعیان تباین المعانی الاسمیّة‏‎ ‎‏فیها، ولا شبهة فی أنّ الخارج مشغول بمعنیین: معنی اسمیّ ومعنی مرتبط‏‎ ‎‏واندکاکیّ، ولکنّه کما تکون الطبیعة الواحدة، مختلفة الحکم بالجوهریّة والعرضیّة‏‎ ‎‏فی الخارج والذهن، هنا الأمر نظیره؛ ضرورة أنّ ما هو فی الخارج وإن کان معنی‏‎ ‎‏اندکاکیّاً وربطیّاً، ولکنّ النفس القادرة علی التجزئة والتحلیل، وعلیٰ أنحاء‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 124
‏اللحاظات بالنسبة إلی الاُمور المختلفة علی الوجه الصحیح، لها لحاظ مفهوم الربط.‏

وإن شئت قلت :‏ مفهوم الربط والنسبة مأخوذ من الارتباطات المتعارفة‏‎ ‎‏العرفیّة، وهکذا غیره من المفاهیم؛ فإنّ کلّ مفهوم لابدّ له من مأخذ صحیح، ثمّ‏‎ ‎‏استعمل تلک المفاهیم فی المواقف الاُخر؛ للتوسّل إلی الأغراض والمقاصد‏‎ ‎‏الصحیحة، فعلیه یکون أخذ المفاهیم الاسمیّة من المعانی الاسمیّة، إلاّ أنّ‏‎ ‎‏للمناسبات الخاصّة تطلق لانتقال النفس إلیٰ ما هو غرض المتکلّم، وهذا کافٍ فی‏‎ ‎‏السببیّة لنقل الإنسان إلیٰ مقصده.‏

‏ولکنّه لیس موجباً للقول : بأنّ الموضوع له خاصّ، بل هذا یورث کون‏‎ ‎‏الابتداء أیضاً من تلک المفاهیم، وهو ممنوع؛ ضرورة أنّه لایؤخذ إلاّ من المعنی‏‎ ‎‏الحرفیّ، لعدم إمکان تعقّل المصداق الاسمیّ له، کما هو الظاهر.‏

‏فعلیه لابدّ من حلّ المعضلة، وهو لایمکن بالتوسّل بذیل الوضع العامّ‏‎ ‎‏والموضوع له الخاصّ کما عرفت‏‎[1]‎‏، مع امتناعه فی ذاته.‏

فیعلم منه :‏ أنّ ما هو الموضوع له هو أمر کلّی ذهنیّ، لو کان فی الخارج‏‎ ‎‏یکون جزئیّاً حرفیّاً، فکما أنّ ما هو فی الذهن عرض وکلّی، وإذا وجد فی الخارج‏‎ ‎‏یکون جوهراً جزئیّاً، کذلک مفهوم الابتداء والانتهاء والظرفیّة وغیرها.‏

‏وکما یکون الموضوع له فی الجواهر معنی جوهریّاً، لا عرضاً ذهنیّاً، کذلک‏‎ ‎‏الموضوع له هنا معنی اسمیّ وإن هو فی الخارج معنی حرفیّ.‏

‏وکما أنّ الموضوع له فی الجواهر عامّ، کذلک هنا عامّ، فلیتدبّر جدّاً.‏

إن قلت :‏ بناءً علیٰ هذا یکون الموضوع له فیها الجزئیّ؛ لأنّه الوجود، دون‏‎ ‎‏المفاهیم، ودون المصادیق الذاتیّة لها المقترنة بالخصوصیّات الزائدة علیٰ ذات‏‎ ‎‏الموضوع له، کما فی أسماء الإشارة، ودون الموضوع له الکلّی، کما فی أعلام‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 125
‏الأشخاص.‏

قلت :‏ نعم، وهذا هو الحقّ الصِرف، ولکنّه فرق بین کون الموضوع له بالوضع‏‎ ‎‏الإنشائیّ فی الحمل الأوّلی، والموضوع له بالحمل الشائع، فما هو الموضوع له‏‎ ‎‏بالذات هو العامّ والعنوان، إلاّ أنّ هذه العناوین لیست أنفسها حقیقة إلاّ بالمصداق‏‎ ‎‏والوجود.‏

وقد عرفت :‏ أنّ العناوین الذهنیّة بین ما تکون معتبرة فی الخارج والذهن‏‎ ‎‏حقیقة وبنفسها، کالماهیّات والطبائع، وبین ماهو المتّحد فی القضیّة مع الموضوع‏‎ ‎‏خارجاً، وإن کان الخارج ظرفاً له بالعرض، لا بالحقیقة، ولکنّه هو فی الخارج‏‎ ‎‏بمناشئ اعتباره واتخاذه‏‎[2]‎‏، ولو کان بین مفهوم الوجود والوجود تبایناً بالخارجیّة‏‎ ‎‏والذهنیّة، لما صحّ الحمل، وهکذا بین حیثیّة الابتداء التی هی الوجود الرابط، وبین‏‎ ‎‏الابتداء، لما صحّ الحمل، ولما صحّ الاستفادة من مشتقّات الابتداء مقام کلمة «من».‏

إن قیل :‏ مصادیق الحروف علیٰ ما تقرّر‏‎[3]‎‏، هی الوجودات الکامنة فی‏‎ ‎‏الموضوعات، المورثة لاعتبار العناوین الاشتقاقیّة الکمالیّة منها، فمن أین جاء‏‎ ‎‏مفهوم الکیف والکم؟!‏

قلنا :‏ لایلزم اتخاذ جمیع المفاهیم من الخارج، حتّیٰ یکون بحذائه فی‏‎ ‎‏الخارج حیثیّة تمتاز عن سائر الحیثیّات، ولذلک یصحّ الحکم علی الممتنعات‏‎ ‎‏الخارجیّة، مع أنّه لا واقعیّة لها فیها، فمن أین جاء تلک المفاهیم؟! فکما أنّ مفهوم‏‎ ‎‏«شریک الباری» متّخذ من «الشرکة» و «الباری» فی العقل، ومفهوم اجتماع الضدّین‏‎ ‎‏والنقیضین من البسائط التصوّریة، کذلک مفهوم الکیف والکم، یتّخذان من المتکمّم‏‎ ‎‏والمتکیّف بعدما صحّ التحلیل، وإلاّ فلا حذاء فی الخارج للکیف؛ للزوم کون ما فی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 126
‏الخارج وجوداً تابعاً للحاظنا، وهو واضح المنع.‏

وما اشتهر :‏ «من أنّ الفرق بین المبدأ والمشتقّ اعتباریّ، ویکون الأوّل بشرط‏‎ ‎‏لا، والثانی لا بشرط»‏‎[4]‎‏ ممّا لا أساس له، والتفصیل فی مقام آخر‏‎[5]‎‏.‏

فبالجملة :‏ المفاهیم المتّخذة من أنحاء الوجودات الخارجیّة التی تکون لها‏‎ ‎‏خارجات المحمول، وتحمل علیها بالحمل الشائع، ربّما یشکل کیفیّة نیل النفس لها.‏

وقد یقال :‏ بأنّه من أصعب الاُمور تناولاً؛ لأنّ ما لا إحاطة به للنفس، کیف‏‎ ‎‏یتمکّن من اعتبار أمر منها؟! فعلیه یمکن دعویٰ أنّ مبدأ اعتبار الوجود ملاحظة‏‎ ‎‏الوجودات الذهنیّة، وفقدانها لأمر، ووجدانها لأمر آخر، وعندئذٍ یعتبر مفهوم العدم‏‎ ‎‏والوجود. وقد خرجنا عمّا هو محطّ النظر فی المقام، فلیعذرنی الإخوان؛ لأنّه من‏‎ ‎‏مزالّ الأقدام.‏

‏وبذلک الذی أسمعناک وأسلفناک، تقدر علیٰ حلّ شبهة : وهی ما عرفت من‏‎ ‎‏استعمال الأدوات فی المادیّات والمجرّدات، مع عدم خصوصیّة حرفیّة قائمة بتلک‏‎ ‎‏الموجودات المجرّدة البسیطة، خصوصاً المبدأ الأعلیٰ.‏

‏وذلک لأنّ معنی «الابتداء» و «الانتهاء» و «الظرفیّة» وأمثال ذلک، بین ما هو‏‎ ‎‏الواقع فی نفس الأمر، کما فی قولنا: «زید فی الدار» وقولنا: «سرت من البصرة إلی‏‎ ‎‏الکوفة» وتکون الحروف ـ کالأسماء ـ ذات مدالیل خارجیّة بالضرورة والوجدان،‏‎ ‎‏وبین ما هو الملحق به ادعاءً، وفی التشبیه والتنظیر، وأمثال ذلک من التلاعبات‏‎ ‎‏المتعارفة فی أنحاء الاستعمالات.‏

‏ففی قولنا : «زید فی الخارج» أو قولنا : «الوجود من الله تعالیٰ نازل إلی‏‎ ‎‏الهیولیٰ» وهکذا، فإنّه لیس فی «زید» معنی حرفیّ کحرفیّة الابتداء والظرفیة فی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 127
‏المثال الأوّل، إلاّ أنّه من باب الادعاء والاتساع، لا الحقیقة، وهکذا الابتداء والانتهاء‏‎ ‎‏فی المثال الثانی، فإنّه من باب توهّم المبدئیّة الحرفیّة، وإلاّ فهو تعالیٰ حقیقة المبدئیّة‏‎ ‎‏لسائر الموجودات، إلاّ أنّه لیس خصوصیّة قائمة به تعالیٰ، بخلاف التحرّک من‏‎ ‎‏البصرة.‏

‏ولعدم نیل هذا قیل : «بأنّ المعانی الحرفیّة من عالم المفهوم، وتکون المعانی‏‎ ‎‏الحرفیة تضییق المعانی الاسمیّة»‏‎[6]‎‏ ظنّاً أنّه بذلک تنحلّ هذه الشبهة، غفلةً عن أنّ‏‎ ‎‏المعانی الحرفیّة الخارجیّة، من المبرهنات العقلیّة والمرتکزات الوجدانیّة.‏

فبالجملة :‏ ما تریٰ فی کتب الأدب من قولهم: «بأنّ کلمة من للابتداء، وکلمة‏‎ ‎‏إلی للانتهاء، وکلمة فی للظرفیّة، وکلمة علیٰ للاستعلاء» وهکذا، هو بظاهره موافق‏‎ ‎‏لاُفق التحقیق، وحقیق بالتصدیق. هذا تمام الکلام فی الحروف الحاکیة.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 128

  • )) تقدّم فی الصفحة 99 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 101 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 91 ـ 92 و 100 .
  • )) کفایة الاُصول : 75، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1: 116 ـ 118 .
  • )) لاحظ ما یأتی فی الصفحة 374 ـ 379 .
  • )) أجود التقریرات 1 : 18، التعلیقة 1، محاضرات فی اُصول الفقه 1 : 75 ـ 79 .