المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

الجهة الرابعة : فی وضع الحروف

الجهة الرابعة : فی وضع الحروف

‏ ‏

‏ظاهر القوم ابتناء المسألة علی التحقیق فی المعانی الحرفیّة، فإن کانت معانی‏‎ ‎‏کلّیة کالاسمیّة، فالموضوع له فیها عامّ، وإلاّ فهو خاصّ‏‎[1]‎‏.‏

والذی هو الحقّ :‏ أنّ المعانی الحرفیّة من أنحاء الوجودات، ولا تکون إلاّ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 120
‏جزئیّة خارجیّة، وسیتّضح لک حال الوضع فی أمثال حروف التمنّی والترجّی والنداء‏‎ ‎‏وأمثالها‏‎[2]‎‏، ومع ذلک یکون الموضوع له فیها عامّاً.‏

‏وهذا لا لما ذهب إلیه صاحب «المقالات»: من امتناع الوضع العامّ‏‎[3]‎‏ کما‏‎ ‎‏أشرنا إلیه، بل لو سلّمنا إمکان الوضع عامّاً، والموضوع له خاصّاً، لکان المتعیّن فی‏‎ ‎‏الحروف عموم الموضوع له، وقد عرفت: أنّه لا وجه لدعویٰ عموم الوضع‏‎[4]‎‏ بعدما‏‎ ‎‏عرفت إمکان ذلک؛ أی خصوصه‏‎[5]‎‏، فعلیه یکون التحقیق عموم الموضوع له،‏‎ ‎‏لا الوضع.‏

‏بل کما یمکن عمومه یمکن خصوصه.‏

بیان ذلک :‏ أنّک قد عرفت أنّ ما هو فی العین، لیس إلاّ الوجود جعلاً وتحقّقاً،‏‎ ‎‏والماهیّات الجوهریّة والعرضیّة هی العناوین المخترعة من الخارج بالملاحظات‏‎ ‎‏بین الموجودات، وما هو فی الخارج جعلاً لیس إلاّ الوجود المعلولیّ الذی هو الربط‏‎ ‎‏بالعلّة‏‎[6]‎‏، وأیّ ربط أعظم من ربط المعلول بعلّته؟! فإنّه أشدّ من ربط المقبول بقابله،‏‎ ‎‏والعرض بموضوعه، أو ربط القابل بمقبوله، کما فی الهیولیٰ والصورة، فعلیه کیف‏‎ ‎‏یعقل أخذ المفاهیم الاسمیّة من الوجودات الرابطة، بل التی هی نفس الربط؟! فإذا‏‎ ‎‏أمکن ذلک، فهذا یقتضی إمکانه فی المعانی الحرفیّة بالمعنی الأخصّ.‏

‏والذی هو السرّ فی ذلک : أنّ النفس الإنسانیّة، قادرة علیٰ أخذ المعانی الکلّیة‏‎ ‎‏بالملاحظات اللازمة بین الاُمور الخارجیّة، فإذا لاحظت أنّ الوجودات المعلولیّة‏‎ ‎‏الصادرة ـ المربوطة بالعلّة ربطاً صدوریّاً ـ هی لاتکون قائمة إلاّ بالعلّة، فمع قطع‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 121
‏النظر عن القیام بها وإن کان هو لیس شیئاً فی نفس الأمر، ولکنّه لایقتضی قصور‏‎ ‎‏النفس عن هذا اللحاظ، فتشاهد اشتراک المعالیل ـ بنحو الکلّی ـ فی ربطها بالعلّة،‏‎ ‎‏إلاّ أنّ منها ماهی الربط بها بلا وسط، أو مع الوسط، بلا أن یکون قائماً بها قیاماً‏‎ ‎‏حلولیّاً، فعندئذٍ تری الفرق بین أنحاء الوجودات:‏

فمنها :‏ ما هو الواجب عزّ اسمه.‏

ومنها :‏ ماهو وجود الجواهر.‏

ومنها :‏ ما هو وجود الأعراض.‏

‏فمفاهیم الجواهر مفاهیم مأخوذة من تلک الوجودات، ومصادیقها النفس‏‎ ‎‏الأمریّة لیست إلاّ الحروف والربطیّات الصرفة؛ ونفس تلک الوجودات القائمات‏‎ ‎‏بالعلل صدوراً.‏

‏ومن هذا القبیل المفاهیم فی المعانی الحرفیّة، التی هی الروابط لتلک‏‎ ‎‏الموضوعات المربوطة بذاتها، الحالّة فیها، والقائمة بها قیاماً حلولیّاً؛ فإنّ تلک‏‎ ‎‏المفاهیم وإن تکن کلّیة واسمیّة، إلاّ أنّ مصادیقها النفس الأمریّة، لیست إلاّ الروابط‏‎ ‎‏المخصّصة الفانیات فی محالّها، فکما للعقل أخذ معنی الجوهر من تلک الوجودات،‏‎ ‎‏له أخذ مفهوم الابتداء والانتهاء والظرفیّة والملکیّة والغایة والاستثناء وغیر ذلک من‏‎ ‎‏هذه الوجودات، وکما لاتکون مصادیق تلک المفاهیم إلاّ الربطیّات الصرفة، کذلک‏‎ ‎‏مصادیق هذه المفاهیم.‏

‏فلاینبغی الخلط بین مقام الواقع والتکوین، ومقام الوضع واللغات، فما هو‏‎ ‎‏الموضوع له أمر، وما هو مصداقه أمر آخر.‏

‏وتحت هذا سرّ جواز استعمال تلک المفاهیم الکلّیة مقام الحروف، فیصحّ أن‏‎ ‎‏یقال: «مبدأ سیری البصرة، ومنتهاه الکوفة» کما یصحّ جعل لفظةٍ حذاء المعنی‏‎ ‎‏المرکّب؛ وهو «السیر من البصرة» مثلاً، أو «الوصول الی الکوفة» وهکذا، فإنّه عندئذٍ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 122
‏یستغنیٰ عن تلک الأدوات، وما هذا إلاّ لأجل أنّ ماهو الرابط هی تلک المعانی؛ سواء‏‎ ‎‏اُلقیت بالحروف، أو الأسماء.‏

وتوهّم :‏ أنّ هذا من التوسّل إلی الهیئات، ویکون الموضوع له فیها خاصّاً،‏‎ ‎‏فاسد کما سیتّضح لک‏‎[7]‎‏. مع أنّه لو سلّمناه هناک لایلزم الأمر هنا؛ لما نجد أنّ الربط‏‎ ‎‏المخصوص بین السیر والبصرة، یمکن حکایته بتلک المفاهیم المتّخذة من تلک‏‎ ‎‏الوجودات.‏

‏نعم، قد یشکل ذلک بلزوم الاستعمال المجازیّ دائماً؛ لأنّ ماهو الموضوع له‏‎ ‎‏غیر ما هو المستعمل فیه.‏

‏ولکنّه مندفع : بأنّ ما هو الموضوع له هو الابتداء، ولیس الابتداء ابتداءً إلاّ‏‎ ‎‏بالوجود، وإذا کان هو فی الخارج معنی ربطیّاً، فما هو المستعمل فیه والموضوع له‏‎ ‎‏واحد، إلاّ أنّ الاختلاف بحسب الموطن، کاختلاف مفاهیم الجواهر ومصادیقها.‏

وتوهّم :‏ أنّ العناوین الذهنیّة علیٰ قسمین :‏

‏أحدهما : ما هی الماهیّات الأصیلة التی ظرف تحقّقها الذهن والخارج معاً.‏

‏ثانیهما : ما هی العناوین للمعنونات الخارجیّة، وتکون من قبیل خارج‏‎ ‎‏المحمول.‏

‏فما کانت کذلک فهی لا خارجیّة لها إلاّ بخارجیّة مبدأ انتزاعها، کالوجود‏‎ ‎‏مفهوماً ومصداقاً، ومعانی الابتداء والانتهاء والظرفیة والملکیة ـ وغیر ذلک من‏‎ ‎‏المتّخذات العقلیّة ـ کلّها لیست خارجیّة، بل تکون عناوین لما هو الخارج، فلابدّ‏‎ ‎‏من خصوص الموضوع له، بل ـ فی اصطلاحنا ـ من جزئیّة الموضوع له؛ للزوم کونه‏‎ ‎‏الوجودات، وهی تساوق الجزئیّة‏‎[8]‎‏.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 123
فی غیر محلّه؛‏ ضرورة أنّه لو لم یکن حیثیّة الابتداء خارجیّة، لما کانت‏‎ ‎‏الحکایة عنها بعنوانها الاسمیّ ـ کقولنا : «مبدأ سیری البصرة» ـ صحیحةً، مع أنّ‏‎ ‎‏الوجدان قاضٍ بصحّة ذلک، ولا یکون من الاستعمال المجازیّ، فیعلم منه أنّ ماهو‏‎ ‎‏فی الخارج وإن لایأتی فی النفس وبالعکس، إلاّ أنّ مثابته مثابة الجوهر والعرض؛‏‎ ‎‏فإنّ ماهو فی الذهن عرض قائم حالّ بالنفس، جوهر فی الخارج، من غیر لزوم‏‎ ‎‏کون الجوهر والعرض معنی واحداً، فافهم وتدبّر.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 124

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 33، نهایة الأفکار 1 : 38 ، نهایة الاُصول : 18 .
  • )) یأتی فی الصفحة 106 .
  • )) مقالات الاُصول 1 : 72 ـ 79 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 78 ـ 79 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 69 ـ 71 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 86 ـ 87 .
  • )) یأتی فی الصفحة 119 ـ 121 .
  • )) نهایة الدرایة 1 : 53 .