المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

المقام الأوّل : فیما تصوّره القوم

المقام الأوّل : فیما تصوّره القوم

‏ ‏

‏وهی علی المشهور ثلاثة؛ توهّماً أنّ الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ‏‎ ‎‏ممتنع‏‎[1]‎‏؛ ضرورة أنّ الأمر الموجود فی الذهن والملحوظ الذهنیّ، لایعقل أن یکون‏‎ ‎‏مرآةً ووجهاً للعامّ، لأنّ تلک الخصوصیّات تأبیٰ عن ذلک، وتمنع عن سریان الوضع‏‎ ‎‏إلی المصادیق المشترکة مع الملحوظ فیما اُرید فی الوضع.‏

مثلاً :‏ إذا أراد الواضع أن یضع «الإنسان» للحیوان الناطق، فتصوّر زیداً،‏‎ ‎‏فلایمکن له جعل اللفظ بإزاء المعنی المشترک؛ وهی الإنسانیّة الموجودة فی زید؛‏‎ ‎‏لأنّ تعریته من تلک الخصوصیّات، خروج عن مفروض البحث، وبقاءه فی اللحاظ‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 91
‏مع تلک الخصوصیّات، مانع عن إمکان إسراء الوضع إلیٰ جمیع المصادیق.‏

‏وهکذا إذا أراد أن یضع لفظ «الجسم» حذاء تلک الجسمیّة الموجودة فیه، أو‏‎ ‎‏الجوهریّة، وهکذا سائر ما یرید الواضع وضع اللغة حذاءه، فإنّه فی جمیع الفروض‏‎ ‎‏إمّا یلزم الوضع العامّ، لا الخاصّ، أو لایتمکّن الواضع من البلوغ إلیٰ أمله ومقصوده،‏‎ ‎‏وإن صنع ذلک بتخیّل إمکانه فلایقع علیٰ ماهو؛ لأنّ الممتنع لایصیر ممکناً بالخیال‏‎ ‎‏الماخولیائیّ.‏

‏ومن الممکن دعویٰ جعل ذلک اللفظ بحذاء زید؛ لأنّه ذو أبعاد ثلاثة، أو بما‏‎ ‎‏فیه الجسمیّة، أو لاشتماله علی الجوهریّة وهکذا، فإنّه لا یتعرّیٰ زید إلی الطبیعة‏‎ ‎‏والخصوصیّات حال اللحاظ. إلاّ أنّ النتیجة عموم الموضوع له.‏

وبعبارة اُخریٰ :‏ لا تعریة قبل الوضع ، بل التعریة بالتعلیل بعد الوضع .‏

‏ولیس هذا من الوضع الخاصّ، والموضوع له الخاصّ، ولا من المقالة‏‎ ‎‏المعروفة: «من أنّ الألفاظ موضوعة للمعانی العامّة؛ لتنصیص الواضع بالعموم»‏‎ ‎‏وسیظهر إن شاء الله تعالیٰ حال تلک المقالة من ذی قبل‏‎[2]‎‏.‏

فبالجملة :‏ ما أفاده المحقّق الرشتی ‏‏قدس سره‏‎[3]‎‏ ـ الذی هو عندی فی الصفّ الأوّل‏‎ ‎‏من علماء الغیبة الکبریٰ ، رضوان الله تعالیٰ علیهم ، ـ قابل للتصدیق؛ ضرورة أنّ‏‎ ‎‏جعل اللفظ حذاء زید، لیس إلاّ من الوضع الخاصّ؛ وهو لحاظ زید، ثمّ التسریة إلیٰ‏‎ ‎‏عموم الموضوع له بالتعلیل، فلا یلزم التجرید والتحلیل، حتّیٰ یکون من الوضع العامّ‏‎ ‎‏فیخرج عن موضوع الکلام.‏

‏وما قیل علیه فی کلام المدقّق المحشّی الأصفهانیّ ‏‏رحمه الله‏‏ : «من أنّ اللحاظ‏‎ ‎‏الذی لابدّ منه فی الوضع للکلّی، لحاظ نفسه، ولحاظ الفرد من حیث فردیّته، أو‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 92
‏لحاظ الکلّی الموجود فیه، لا دخل له بلحاظ الکلّی بما هو کلّی»‏‎[4]‎‏ انتهیٰ، غیر تامّ؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّ الملحوظ هنا یعلم من التعلیل، واللحاظ لا یتعلّق إلاّ بالخاصّ، فلا یلزم‏‎ ‎‏لحاظ الکلّی مستقلاًّ حین لحاظ الخاصّ.‏

‏وما أفاده العلمان؛ الاُستاذ الحائریّ، وتلمیذه المحقّق الوالد ـ عفی عنهما غیر‏‎ ‎‏تامّ:‏

‏أمّا ما فی «الدرر» من المثال المجرّد‏‎[5]‎‏، فلا یخلو من غرابة وخلط عظیم.‏‎ ‎‏فبالجملة ربّما یکون الواضع لاحظاً عنوان العامّ علیٰ نعت الإجمال، وهذا لیس من‏‎ ‎‏الوضع الخاصّ.‏

‏وأمّا ما فی «تهذیب الاُصول» من امتناع القسم الثالث والرابع بوجه،‏‎ ‎‏وإمکانهما بوجه‏‎[6]‎‏، فهو یتمّ فی الثالث، دون الرابع؛ ضرورة أنّ الواضع المرید إسراءَ‏‎ ‎‏الوضع إلی الخصوصیّة المشترکة، یلزم علیه قهراً تحلیل ما فی لحاظه من الخاصّ،‏‎ ‎‏وتعریته من الخصوصیّات قهراً وبلا اختیار، فیصیر من الوضع العامّ.‏

ولایخفیٰ :‏ أنّ الوضع العامّ، کما یمکن أن یتحقّق بالإرادة والتجزئة والتحلیل‏‎ ‎‏قبل إرادة الوضع، کذلک یتحقّق فی زمن إرادة التسریة، وإلاّ یکون الملحوظ‏‎ ‎‏واللحاظ واحداً، فیلزم خصوص الموضوع والوضع، فلابدّ من حیلة جامعة بین‏‎ ‎‏إسراء الوضع إلی العموم وهو الملحوظ، وعدم تعریة اللحاظ وهو الخصوص، وهذا‏‎ ‎‏لایمکن إلاّ بالوجه المزبور، من غیر لزوم الالتزام بالمقالة المشهورة بین أرباب‏‎ ‎‏المعقول فی بعض الفنون العقلیّة؛ لما اُشیر إلیه.‏

‏ثمّ إنّ هاهنا قسماً خامساً : وهو أنّ عموم الموضوع له، معناه العموم بالحمل‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 93
‏الشائع، وهی نفس الطبائع.‏

‏ولک لحاظ العموم بالحمل الأوّلی؛ فإنّه حینئذٍ یلزم الاستعمال المجازیّ‏‎ ‎‏دائماً، فلا واقع له وإن کان بحسب التصوّر ممکناً. وأمّا فی الخاصّ فما هو الموضوع‏‎ ‎‏له هو الخاصّ بعنوانه‏‎[7]‎‏، انتهیٰ.‏

‏ولک نقده : بأنّ ذلک معناه جعل اللفظ حذاء العامّ المجموعیّ، کلفظ «القوم»‏‎ ‎‏ونحوه، مع الفرق الآخر؛ وهو أنّ «القوم» موضوع بالوضع العامّ والموضوع له العامّ،‏‎ ‎‏وهو موضوع بالوضع والموضوع له الخاصّین، فیکون الأفراد بأسرها أجزاء‏‎ ‎‏الموضوع له فی المرکّب الاعتباریّ، واستعمال اللفظة الموضوعة للکلّ فی الجزء‏‎ ‎‏من المجاز المرسل، فلایکون قسماً خامساً. أو یکون لحاظ العموم موجباً لکونه‏‎ ‎‏أمراً ذهنیّاً، فلایکون الموضوع إلاّ خاصّاً وجزئیّاً ذهنیّاً.‏

‏ولیس فی الخاصّ الخصوص بما هو خصوص بالحمل الأوّلی، مورد الوضع‏‎ ‎‏واللحاظ، بل اللحاظ تعلّق بالجزئیّ من غیر لحاظ جزئیّته، فلاتغفل.‏

إن قلت :‏ لایعقل عموم الوضع؛ أی لحاظٌ متعلّق بأمر کلّی، لأنّ اللحاظ معنی‏‎ ‎‏حرفیّ قائم بالأمر الجزئیّ؛ وهو النفس، وطرفه لابدّ وأن یکون جزئیّاً، ففی جمیع‏‎ ‎‏المواقف یکون اللحاظ خاصّاً، ولو تمّ امتناع الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ،‏‎ ‎‏یلزم امتناع عموم الموضوع له رأساً.‏

قلت أوّلاً :‏ بالنقض، فیلزم امتناعه علیٰ کلّ حال؛ لأنّ الملحوظ أیضاً موجود‏‎ ‎‏فی النفس، فیکون جزئیّاً.‏

وثانیاً :‏ بالحلّ علیٰ ما فی الکتب العقلیّة تفصیله‏‎[8]‎‏، وإجماله هنا؛ وهو أنّ‏‎ ‎‏الموجودات الذهنیّة لیست جزئیّة حقیقیّة مادام لم یلحق بها أنحاء الوجودات التی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 94
‏تختصّ بها، المورثة لبروز آثارها، وأمّا ظلّ النفس فهو متعلّق بنفس الطبیعة، ولا‏‎ ‎‏یعقل تعلّقه بالموجود الذهنیّ؛ للزوم التسلسل أو الدور.‏

‏نعم، بعد تعلّقه بنفس الطبیعة، تکون الطبیعة ذهنیّة فی النظر الثانویّ.‏

وإن شئت قلت :‏ کما إنّ الوجود فی العین متعلّقه نفس الماهیّة، لا بما هی‏‎ ‎‏خارجیّة، بل تصیر خارجیّة بذلک الوجود، کذلک هی فی الذهن، إلاّ أنّ التعریة من‏‎ ‎‏إشراق النفس، تؤدّی إلیٰ إمکان الحکم علی الطبیعة بما هی هی، ولایمکن التحلیل‏‎ ‎‏فی الخارج؛ لأنّ الطبیعة فیها معروض الوجود المخصوص بها، فلاتخلط.‏

‏وللمسألة مقام آخر، وحولها «إن قلت قلتات» کثیرة، وقد تعرّضنا فی‏‎ ‎‏«القواعد الحکمیة» لبیان الفرق بین الطبیعة الذهنیّة والطبیعة الخارجیّة؛ بما لا غبار‏‎ ‎‏علیه‏‎[9]‎‏.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 95

  • )) کفایة الاُصول : 24 ، نهایة الدرایة 1 : 49.
  • )) یأتی فی الصفحة 109 .
  • )) بدائع الأفکار ، المحقّق الرشتی : 40 / السطر 23 ـ 36 .
  • )) نهایة الدرایة 1 : 50.
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری : 36.
  • )) تهذیب الاُصول 1 : 15 .
  • )) لاحظ تهذیب الاُصول 1 : 16.
  • )) الحکمة المتعالیة 1 : 272 ـ 274 و 2: 8 ـ 10 .
  • )) القواعد الحکمیّة، للمؤلف قدس سره (مفقودة).