المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

الجهة الاُولیٰ : حقیقة الوضع

الجهة الاُولیٰ فی حقیقة الوضع

‏ ‏

‏المحکیّ عن ابن عبّاد : أنّ الأمر المتوسّط بین اللغات والمعانی مفقود، بل‏‎ ‎‏المعانی من لوازم ذات اللغات‏‎[1]‎‏، کلوازم الماهیّات.‏

أو یقال :‏ إنّ الأمر المتوسّط بینهما؛ هی السنخیّة الواقعیّة الخارجة عن قدرة‏‎ ‎‏الناس، والناس یتوهّمون أنّهم جاعلون الألفاظ حذاء المعانی، أو هم متخیّلون أنّ‏‎ ‎‏الأمر بیدهم فی تعهّدهم وتبانیهم، بل الواقع ونفس الأمر بید الله تعالیٰ، وبین الأسماء‏‎ ‎‏والمسمّیات جهات طبیعیّة وواقعیّة، یکون الواضع الجزء الأخیر من العلل المادّیة‏‎ ‎‏والغیبیّة فی الوضع والجعل؛ أی الإبراز والإظهار بتلک الطریقة الوهمیّة، وهو الإنشاء‏‎ ‎‏ف«الأسماء تنزل من السماء».‏

‏وممّا یعرب عن ذلک ؛ العلوم الغریبة التی هی من القطعیّات عند أربابها، ومن‏‎ ‎‏یطعن فیها فلعدم اطّلاعه؛ و «إنّ الإنسان عدّوّ لما جهله» فإنّ تلک العلوم علیٰ مبانی‏‎ ‎‏الأسماء کثیراً، بل کلاًّ، فلا تکون الروابط الطبیعیّة والسنخیّات الواقعیّة بین الأشیاء،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 79
‏کلّها مقطوعة.‏

‏نعم، هذا غیر الدلالة التی هی معلولة الجهات الاُخر غیر تلک السنخیّة‏‎ ‎‏الواقعیّة، وهذا لیس مراد مثل ابن عبّاد الذی کان من فضلاء الشیعة، بل ربّما یمکن‏‎ ‎‏تفسیر مقصوده بما اُشیر إلیه، فلاینبغی الخلط.‏

‏فعلیٰ هذا، فلا شبهة فی نحو ارتباط بمعنی الحاصل من المصدر، أو الحاصل‏‎ ‎‏من الاستعمال، من غیر کونه طبیعیّاً.‏

‏وقیل : «هو الأمر الواقعیّ، إلاّ أنّه لیس من قبیل الجواهر والأعراض، بل هو‏‎ ‎‏من قبیل أعراض الماهیّات»‏‎[2]‎‏ وفیه ما لا یخفیٰ علیٰ أهله.‏

‏فهی علی التحقیق ، من الاُمور الاعتباریّة المضافة بین الشیئین، من غیر النظر‏‎ ‎‏إلی اللحاظ الآخر وراءهما بذاتهما. والاُمور الاعتباریّة وإن لا ظرف لها وراء‏‎ ‎‏الأذهان، إلاّ أنّها تارة: تعتبر فی الخارج کالملکیّة، واُخریٰ: لایعتبر إلاّ نفسها، وهی‏‎ ‎‏مثل تلک الملازمة الجعلیّة الموجودة بین الألفاظ والمعانی المتباینة معها.‏

‏وتوهّم بقائها مع انتفاء طرفی الإضافة فاسد؛ لعدم إمکانه، فما عن العلاّمة‏‎ ‎‏العراقی ‏‏رحمه الله‏‎[3]‎‏ لایرجع إلیٰ محصّل بالضرورة.‏

‏إذا عرفت ذلک، یظهر لک: أنّ کلمات القوم مضطربة؛ فیظهر من جمع منهم أنّ‏‎ ‎‏الموضوع المتنازع فیه هی کلمة «الوضع» ومفاده بالحمل الأوّلی، ولذلک نفوا إمکان‏‎ ‎‏تقسیمه إلی التعیینیّ والتعیّنی، قائلین: «إنّه جعل الشیء علی الشیء للغایة‏‎ ‎‏المخصوصة، کوضع الحجر والعلم لإعلام الفرسخ والمیل»‏‎[4]‎‏. وهذا باطل، لما‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 80
‏عرفت فی المقدّمة‏‎[5]‎‏.‏

‏ویظهر من قوم آخرین : أنّه «التعهّد» و «التبانی» و «الهوهویّة» وغیر ذلک من‏‎ ‎‏العبائر‏‎[6]‎‏، وهذا أیضاً فاسد؛ ضرورة أنّ الوضع ـ بالمعنی المصدریّ ـ لیس هو‏‎ ‎‏التعهّد، ولا غیره، وبمعنی الحاصل من المصدر ـ وهو المعنی الذی یدرک بین اللفظ‏‎ ‎‏والمعنیٰ ـ أیضاً لیس متّحداً بمفهومه مع مفهوم هذه العبائر بالضرورة.‏

‏نعم، تلک العلاقة والملازمة التی کانت معدومة، وصارت موجودة، کما یمکن‏‎ ‎‏أن تحصل بکلمة «وضعت» و «جعلت» حصولاً بالتّبع، یمکن أن تحصل هی بذاتها؛‏‎ ‎‏بأن یقول الواضع بعد شرائطه الآتیة: «أوجدت علقة الدلالة بین اللفظ والمعنیٰ»‏‎ ‎‏فعندئذٍ توجد تلک العلاقة الاعتباریّة أوّلاً وبالذات، وتنالها ید الجعل؛ لکونها‏‎ ‎‏اعتباریّة، فما توهّمه العلاّمة الحائری من امتناعه‏‎[7]‎‏، ناشئ من الغفلة عن حقیقة‏‎ ‎‏الأمر وماهیّة المسألة.‏

‏وکما یمکن أن یتوصّل الواضع بنحو التعهّد والتبانی؛ بأن یقول: «تعهّدت بأن‏‎ ‎‏اُرید المعنی الکذائیّ عند إلقاء اللفظ الکذائیّ» یمکن أن یفید ذلک بالحمل الشائع‏‎ ‎‏الصناعیّ؛ فیقول: «هذا زید» فإنّ الاتحاد والهوهویّة لایمکن إلاّ بالاتحاد فی‏‎ ‎‏الوجود حقیقةً أو ادعاءً.‏

‏وهذا کما یمکن دعواه علیٰ أن یکون اللفظ من مراتب المعنی، له العکس؛‏‎ ‎‏بجعل المعنیٰ من لوازم ماهیّة اللفظ، فیحمل علیه؛ لأنّ لازم الشیء متّحد معه. فما‏‎ ‎‏عن النهاوندیّ وأتباعه، وبعض الفضلاء وأصدقائه‏‎[8]‎‏، غیر صالح.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 81
ودعویٰ‏ أنّ الألفاظ وضعت للمعانی بالجعل والتشریع نوعاً، لا بالوجوه‏‎ ‎‏الاُخر‏‎[9]‎‏، لو کان مسموعة لاتفید فیما نحن فیه شیئاً، کما لایخفیٰ. فما رامه العَلَمان؛‏‎ ‎‏الأصفهانیّ، والوالد ـ مدّظلّه ‏‎[10]‎‏ أیضاً غیر تامّ.‏

فبالجملة :‏ توهّم أنّ الدلالة اللفظیّة الوضعیّة متقوّمة بأحد الاُمور المذکورة‏‎ ‎‏وجوداً، أو هی إحداها مفهوماً، فاسد قطعاً، بل الدلالة اللفظیّة تعتبر من الدلالات‏‎ ‎‏الاُخر العقلیّة، کدلالة المعانی علی المعانی، بل الأضداد علی الأضداد، إلاّ أنّ أنحاء‏‎ ‎‏الدلالة مختلفة، واللفظیّة منها بالجعل والمعاهدة والقرار والتبانی وأمثالها.‏

‏ثمّ إنّ ظاهر «الکفایة» من تفسیر «الوضع» ـ وهو بالمعنی اللغویّ من مقولة‏‎ ‎‏الفعل ـ بـ «الاختصاص»‏‎[11]‎‏ وهو من مقولة الانفعال ـ علیٰ تسامح فیهما ـ ربّما کان‏‎ ‎‏لأجل الإیماء إلیٰ ما قرّرناه وحرّرناه، وإلاّ فهو من الواضح الذی لاینبغی صدوره‏‎ ‎‏منه ‏‏رحمه الله‏‏.‏

فتحصّل :‏ أنّ ما یصحّ أن یتنازع فیه لیس مفهوم «الوضع» لغةً؛ لعدم إمکان‏‎ ‎‏اختلاف المحقّقین فیه بعد صراحة أهل اللغة فیه، ولا هو تلک العلاقة والارتباط‏‎ ‎‏الموجود بین قافلة الألفاظ وسلسلة المعانی من حیث مفاد «کان» التامّة، ولا‏‎ ‎‏الناقصة.‏

‏نعم، فی أنّه طبیعیّ، أو واقعیّ، أو اعتباریّ، خلاف، إلاّ أنّ الظاهر أنّه لیس‏‎ ‎‏خلافاً واضحاً غیر راجع إلیٰ أمر واحد؛ لما عرفت: أنّ القول بالدلالة الذاتیّة‏‎ ‎‏والطبعیّة ممّا لایمکن استناده إلیٰ عاقل، فضلاً عن ابن عبّاد. والعجب من إطالة‏‎ ‎‏الکلام حول ردّه، والإصرار علیه من طلاّب الفضل وأرباب العقل؛ بإقامة البراهین‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 82
‏القطعیّة علیه!!‏‎[12]‎‏.‏

‏وأنّ من یقول : بأنّه الأمر الواقعیّ‏‎[13]‎‏، لایرید منه الأمر التکوینیّ والخارجیّ،‏‎ ‎‏بل أراد أنّه الأمر الاعتباریّ المحفوظ الذی لا یتبدّل بعد تمامیّة الاعتبار.‏

وقد عرفت :‏ أنّ الاُمور الاعتباریّة ـ سواء کانت من الاعتباریّات بعد‏‎ ‎‏الاجتماع، أو من الاعتباریّات الاُخر ـ لا واقعیّة لها إلاّ بالمعتبرین، فبانتفائهم تنتفی‏‎ ‎‏قهراً. وهذا لیس معناه أنّه متقوّم بهم مفهوماً، بل هو متقوّم فی الوجود والتحقّق.‏

‏فما هو الصحیح بأن یتنازع فیه؛ هو السبب الذی یتعقّبه التلازم والعلقة‏‎ ‎‏والربط المذکور؛ وأنّه أیّ شیء؟ وقد عرفت تحقیقه.‏

وما یظهر منهم :‏ من أنّ الوضع هو التبانی، أو هو التعهّد، أو هو الاختصاص،‏‎ ‎‏أو هو الجعل، أو غیر ذلک، کلّه بضرب من التسامح؛ لأنّ تلک العلاقة المفروغ عن‏‎ ‎‏وجودها بین القافلتین، لیست هی هذه الاُمور؛ لا بالحمل الأوّلی، ولا بالشائع‏‎ ‎‏الصناعیّ، من غیر فرق بین أن اُرید منه المعنی اللغویّ والمفهوم الأوّلی المصدریّ‏‎ ‎‏الحدثیّ، أو اُرید منه المعنی الحاصل منه؛ لأنّ المعنی الحاصل من الوضع لیس إلاّ‏‎ ‎‏الانجعال والاتضاع، دون الاختصاص والربط؛ فإنّه معلول الوضع بالتبع، فتدبّر.‏

إن قیل :‏ هذا تامّ بحسب مقام الثبوت، وأمّا بحسب مقام الإثبات؛ وأنّ تلک‏‎ ‎‏العلاقة حصلت بأیّ طریق من الأسباب المذکورة؟ فهو غیر واضح، واختلاف‏‎ ‎‏المحقّقین فی ذلک.‏

قلنا :‏ بعدما عرفت إمکان استناد الربط المزبور لأنحاء الأسباب المختلفة،‏‎ ‎‏لایمکن لنا کشف ماهو السبب من بینها؛ لإمکان اختلاف الواضعین فی ذلک، بل‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 83
‏الواضع الواحد. فعلیه یسقط النزاع المشهور فی الوضع، ویتبیّن أنّ الغفلة عن حقیقة‏‎ ‎‏المسألة، أوقعتهم فی ذلک.‏

إن قیل :‏ ظاهر القول بأنّ الوضع لیس إلاّ التبانی والتعهّد، إنکار وجود الربط‏‎ ‎‏الاعتباریّ بین اللفظ والمعنیٰ، فضلاً عن غیره.‏

قلنا :‏ هذا غیر ظاهر أوّلاً.‏

وثانیاً :‏ غیر تامّ؛ لأنّ حصول تلک العلقة لیس أمراً اختیاریّاً، بل هی تحصل‏‎ ‎‏قهراً، کما فی الاستعمالات الکثیرة.‏

وثالثاً :‏ هذا یرجع إلی النزاع الآخر غیر النزاعین المعروفین، فیلزم البحث فی‏‎ ‎‏مفاد «کان» التامّة؛ وأصل وجود العلقة، ثمّ فی أنّها واقعیّة، أو طبیعیّة، أو اعتباریّة،‏‎ ‎‏ثمّ بعد ذلک فی أنّ الأسباب المورثة لها، واحدة، أم کثیرة.‏

فتحصّل :‏ أنّ الجهة المتنازع فیها لیست مفهوم الوضع المصدریّ، ولا معنی‏‎ ‎‏الحاصل منه، ولا فی تحقّق العلاقة والربط المشهود بین الألفاظ والمعانی، بل ما‏‎ ‎‏یمکن أن یتنازع فیه إجمالاً؛ هو السبب الموجد لتلک العلقة الاعتباریّة، وهو أعمّ‏‎ ‎‏ممّا توهّم.‏

‏فعلیه یصحّ أن یقال : إنّ جمیع ما قیل فی معنی الوضع صحیح، وباطل:‏‎ ‎‏صحیح؛ لأنّه من الأسباب التی یمکن أن یتسبّب بها إلیها، وباطل؛ لأنّ حقیقة‏‎ ‎‏المسبب لیست السبّب بالحمل الأوّلی، حتّیٰ یصحّ تعریفه وتحدیده به.‏

وإن شئت قلت :‏ الوضع هو إنشاء الربط بین الألفاظ والمعانی، والإنشاء‏‎ ‎‏المذکور یتصوّر بطرق مختلفة:‏

منها :‏ التعهّد .‏

ومنها :‏ التبانی.‏

ومنها :‏ بقوله : «أنشأت علقة الدلالة بین اللفظ والمعنیٰ».‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 84
ومنها :‏ «جعلت ووضعت» .‏

ومنها :‏ الهوهویّة.‏

ومنها :‏ الجمل الخبریّة المفیدة للإنشاء.‏

ومنها :‏ الاستعمال.‏

ومنها :‏ کثرة الاستعمال.‏

ومنها :‏ غیر ذلک.‏

‏نعم، بناءً علیه لایعدّ الوضع التعیّنی من الوضع بهذا المعنیٰ.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 85

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقق النائینی) الکاظمی 1 : 31 .
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 29.
  • )) نهایة الأفکار 1 : 26.
  • )) نهایة الدرایة 1 : 44 ـ 48، مناهج الوصول 1 : 57 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 55 ـ 56 .
  • )) تشریح الاُصول : 25، درر الفوائد، المحقّق الحائری : 35، منتهی الاُصول 1: 15.
  • )) درر الفوائد، المحقّق الحائری : 35 .
  • )) تشریح الاُصول : 25 ، درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 35 ، محاضرات فی اُصول الفقه 1 : 44 .
  • )) أجود التقریرات 1 : 12 .
  • )) نهایة الدرایة 1 : 44 ـ 48، مناهج الوصول 1 : 57 ـ 58.
  • )) کفایة الاُصول : 24 .
  • )) مفاتیح الاُصول : 2، الفصول الغرویّة: 23، نهایة الأفکار 1 : 23 ـ 25، محاضرات فی اُصول الفقه 1 : 32.
  • )) نهایة الأفکار 1 : 25 ـ 27 .