المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

الناحیة الرابعة : فی وحدة العلوم وسائر أحکامها

الناحیة الرابعة 

فی وحدة العلوم وسائر أحکامها

‏ ‏

‏لا شبهة فی أنّها وحدة اعتباریّة؛ ضرورة أنّ المسائل المختلفة موجودة‏‎ ‎‏بالوجودات، ولیست الوحدة الحقیقیّة إلاّ مساوقة للوجود الحقیقیّ، وحیث إنّ العلم‏‎ ‎‏لیس إلاّ عدّة قضایا کثیرة، فتلک الوحدة اعتباریّة بالضرورة.‏

إن قلت :‏ قد یکون موضوع العلم، الواحدَ الحقیقیّ، کما فی علم العرفان، بل‏‎ ‎‏وعلم الفلسفة، فلا منع من الوحدة الحقیقیّة فی بعض العلوم.‏

قلت :‏ موضوع العلم لیس نفس العلم، بل العلم عبارة عن المسائل الکثیرة،‏‎ ‎‏فتلک الوحدة الثابتة للعلم اعتباریّة، إلاّ أنّ منشأ هذه الوحدة الاعتباریّة قد یکون‏‎ ‎‏الواحد الحقیقیّ، واُخریٰ یکون الواحد بالسنخ، کسائر العلوم، فلاینبغی الخلط بین‏‎ ‎‏وحدة الموضوع ووحدة العلم.‏

‏ثمّ إنّ العلوم مختلفة من هذه الجهة؛ فإنّ منها : ما یکون موضوعه الواقع‏‎ ‎‏المحفوظ إلیٰ زماننا، کعلوم الفلسفة والعرفان والنحو والصرف، وإن یمکن انقلابه‏‎ ‎‏وتکثّره فیما إذا تراکمت المسائل.‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 65
ومنها :‏ ما یکون موضوعه الواقع غیر المحفوظ کالطبّ، فإنّه کان موضوعه‏‎ ‎‏«بدن الإنسان» ثمّ تشعّب إلی الشعب الکثیرة، فصار کلّ عضو موضوعاً لعلم علیٰ‏‎ ‎‏حدة، ومثله النحو والصرف، فإنّهما کانا أوّلاً علماً واحداً، ثمّ صارا علمین.‏

‏ومن العلوم ما یکون موضوعه الأمر الاعتباریّ، ولا واقعیّة له.‏

ومنها :‏ ما یکون موضوعه الأمر الذهنیّ، کالمنطق.‏

ومنها :‏ ما یکون موضوعه الأمر الذهنیّ المتعلّق بالخارج، کالحساب. فوحدة‏‎ ‎‏العلم وکثرته اعتباریّة.‏

‏کما أشرنا سابقاً : إلیٰ إمکان رجوع العلوم الکثیرة إلی العلم الواحد، بل یمکن‏‎ ‎‏جعل جمیع العلوم من العلم الأعلیٰ؛ لأنّ البحث فیه عن أحوال الأعیان الخارجیّة‏‎ ‎‏وأحکامها، ویلحق به البحث عن آثارها وخواصّها البسیطة والمرکّبة‏‎[1]‎‏.‏

‏وأمّا العلم، فقد مضیٰ أنّه نفس المسائل المتشتّتة، ونسبة المسائل بعضها إلیٰ‏‎ ‎‏بعض مختلفة، وقد فصّلنا فی الناحیة الثانیة ما یتعلّق به‏‎[2]‎‏.‏

والذی یظهر :‏ أنّ مسائل العلوم هی الموضوعات والمحمولات قبل ثبوتها‏‎ ‎‏لها، لا بعدها؛ للزوم الخروج عن کونها مسألة قبل الإثبات. وقد مضیٰ فی کلام جمع‏‎ ‎‏من أهل المعقول جعل النسبة المردّدة محمول الموضوع‏‎[3]‎‏، ولکنّه غیر تامّ؛ لأنّ‏‎ ‎‏النسبة المردّدة کاذبة، وتامّ لأجل أنّ لفظة «المسألة» من «السؤال» ومعناه التردّد فی‏‎ ‎‏الأمر، فتدبّر.‏

‏وأمّا تمایز العلوم، فهو علیٰ ما عرفت بـ «الموضوعات» ؛ علی التفسیر الذی‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 66
‏ذکرناه‏‎[4]‎‏، وهذا أحسن شاهد علیٰ أنّ المشهور أرادوا من «الموضوعات» أمراً آخر‏‎ ‎‏غیر ما هو المقابل للمحمول.‏

وتوهّم :‏ أنّ من العلوم ما یکون تمایزها بالموضوعات، ومنها : بالأغراض،‏‎ ‎‏ومنها: بالحیثیّات، کما عن «الفصول»‏‎[5]‎‏ وجماعة آخرین‏‎[6]‎‏، فاسد بالضرورة؛ لأنّ‏‎ ‎‏الموضوع هو الأعمّ ، أوّلاً.‏

وثانیاً :‏ الأغراض فی الرتبة المتأخّرة عن العلم؛ فإنّ العلم علم مع قطع النظر‏‎ ‎‏عن المدوّن والمتعلّم، فلاینبغی الخلط بین الجهات الذاتیّة المتقدّمة، والجهات‏‎ ‎‏العرضیّة المتأخّرة، سواء کان المراد من «الغرض» القدرة علیٰ حفظ اللسان عن‏‎ ‎‏الخطأ فی علم النحو وهکذا فی أمثاله، أو الحفظ الفعلیّ والصون بالحمل الشائع؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّ السنخیّة فی نفس المسائل، تورث تمییز العلوم بعضها عن بعض، وتلک‏‎ ‎‏السنخیّة هی الموضوع فی العلم، علی التفصیل الذی عرفت.‏

‏فیصحّ حینئذٍ أن یقال کما هو المشهور المعروف : بأنّ تمایز العلوم‏‎ ‎‏بالموضوعات.‏

‏نعم، قد یندرج بعض المسائل من علم فی العلم الآخر :‏

وهذا تارة :‏ یکون من المبادئ التصوّریة أو التصدیقیّة فی العلم الآخر،‏‎ ‎‏کالبحث فی الفقه عن «الصعید» أو عن مسألة اُصولیّة، فإنّه لیس من مسائل العلم،‏‎ ‎‏إلاّ أنّ توقّف حکم المسألة فی هذا العلم علیه، یلزم الفقیه بالورود فی العلوم الاُخر.‏

‏ولو کان ما ذکره کثیر من فضلاء العصر ـ حفظهم الله تعالیٰ ـ والسابقین‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 67
‏ـ رحمهم الله تعالیٰ ـ : «من أنّ وحدة الغرض سبب للتمایز فی طائفة من العلوم»‏‎[7]‎‎ ‎‏یلزم تجویز إدراج جمیع المسائل من علم فی علم آخر؛ لتوقّف استکشاف الحکم‏‎ ‎‏فی علم علیٰ مسائل العلوم الاُخر، فهذا أحسن شاهد علیٰ فساد مختارهم.‏

واُخریٰ :‏ تکون السنخیّة مشترکة بین مسألة وعلمین، فإنّه لو کان السنخیّة‏‎ ‎‏أقویٰ فی أحدهما ـ کما مضی الإیماء إلیه‏‎[8]‎‏ـ فلابدّ أن تعدّ من مسائل ذلک العلم،‏‎ ‎‏والبحث عنها فی العلم الآخر؛ للاحتیاج إلیها فی فهم مسألة فیه.‏

‏وإن کانت السنخیّة فرضاً متقاربة، فلا منع من درجها فی العلمین، إلاّ أنّه‏‎ ‎‏مجرّد فرض. ولایلزم من ذلک تداخل المسائل من علمین؛ لأنّه یرجع إلیٰ وحدة‏‎ ‎‏العلم قهراً، کما عرفت.‏

‏وأمّا الغرض فی العلوم، فهو لیس معلول المسائل؛ لأنّها لیست علله الطبیعیّة،‏‎ ‎‏ولا الإلهیّة، بل هی الإعداد لقدرة النفس علی الاستیفاء منه إذا أراد، وقد مرّ شطر‏‎ ‎‏من الکلام حوله‏‎[9]‎‏، فما حکی العلاّمة العراقی ‏‏رحمه الله‏‏ من توهّم نسبة العلّیة بینهما‏‎[10]‎‏،‏‎ ‎‏واضح البطلان بالبرهان والوجدان.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 68

  • )) تقدّم فی الصفحة 27 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 13 ـ 20 و 30 ـ 31 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 27 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 31 ـ 32 .
  • )) الفصول الغرویّة : 11 / السطر 20 .
  • )) فرائد الاُصول 1 : 24 ـ 25، بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1: 19، منتهی الاُصول 1 : 11 ـ 13 .
  • )) کفایة الاُصول : 22، درر الفوائد، المحقّق الحائری : 34، نهایة الأفکار 1 : 11، حقائق الاُصول 1 : 10، منتهی الاُصول 1 : 7 ـ 9 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 30 ـ 31 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 19 ـ 20 .
  • )) لاحظ مقالات الاُصول 1 : 35، بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1: 3 ـ 6.