الناحیة الثالثة فی موضوع علم الاُصول
فالمعروف إلی العصور الأخیرة : أنّ موضوعه «الأدلّة الأربعة بما هی أدلّة» کما یستظهر من الفاضل القمّی قدس سره.
وعدل عنه «الفصول» وقال : «موضوعه الأدلّة بذاتها» ظنّاً أنّ الإشکالات المتوهّمة فی المسألة تندفع بذلک.
وقال جماعة : بعدم الموضوع له.
وقیل : «موضوعه کلّ ما کان من عوارضه واقعاً فی طریق استنباط الحکم الشرعیّ، أو ما ینتهی إلیه العمل».
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 55
وقال فی «الکفایة» : «موضوعه هو الکلّی المنطبق علیٰ موضوعات مسائله المتشتّتة».
وذهب الوالد المحقّق ـ مدّظلّه وبعض السادة من أساتیذنا إلیٰ أنّه الحجّة فی الفقه، ظنّاً أنّه غیر ما نسب إلی الأکثر، مع أنّ الأمر لیس کذلک؛ فإنّ ماهو الموضوع عنوان «الدلیل بما هو دلیل» وهو صادق علی الأربعة.
نعم، لابدّ من التقیید بقولهم: «فی الفقه» لئلاّ یشترک معه العلوم الاُخری التی یحتجّ فیها بتلک الأدلّة.
وبعبارة اُخریٰ : موضوع الاُصول لیس مثل موضوع النحو مرکّباً، حتّیٰ یکون هی الأربعة، بل هو العنوان الواحد المقیّد؛ وهو الدلیل فی الفقه. وعدم ذکر القید فی کلام القائلین به لوضوحه.
إن قلت : یلزم خروج جمیع مباحث الاُصول إلاّ المباحث الراجعة إلیٰ تعارض الأدلّة؛ لأنّ البحث عن خصوصیّات الموضوع وأصل تحقّقه، لیس إلاّ من المبادئ التصوّریة فی العلم، وهذا ممّا لایمکن الالتزام به.
والعدول إلیٰ ما فی «الفصول» لایخلو من التأسّف؛ لأنّه مضافاً إلیٰ عدم حلّ الشبهة به ـ ضرورة أنّ البحث فی مباحث الملازمات العقلیّة، بل والاُصول العملیّة وهکذا، لیس من العوارض لذات الدلیل ـ أنّ مباحث المعارضة بین الأدلّة تکون خارجة، إلاّ بدعویٰ أنّ المراد من «الدلیل» هی الحجّة الفعلیّة، لا الأعمّ منها ومن الحجّة الذاتیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 56
قلت : هذا بناءً علی التوهّم المشهور : من کون موضوع العلم جامع موضوعات المسائل، وأمّا علیٰ ما عرفت: من أنّه جامع محمولات المسائل، فلایلزم الإشکال، وقد مرّ بیان الکبری الکلّیة فی ذلک.
وفی مقام تطبیقها علیٰ موضوع الاُصول نقول : موضوع کلّ علم إمّا هو الثابت بالضرورة، أو یثبت فی العلم الأعلیٰ، وأمّا فی نفس العلم فهو الأمر الواضح، ویکون البحث فی الجهات المجهولة والاُمور غیر المعلومة التی من عوارضه الذاتیّة.
فأصل وجود الحجّة علی الأحکام الثابتة فی الشریعة المقدّسة، ممّا لا شبهة فیه؛ فإنّا نعلم بالتکالیف، ونعلم بلزوم الخروج عن عهدة تلک الوظائف الإلهیّة، ولا نعلم أنّ ما هو الحجّة أی شیء، وأیّ أمر یکون هو الدلیل علیٰ تلک الوظائف، فیقع هذا مورد الفحص والبحث، فهل الخبر الواحد حجّة، أو الشهرة حجّة، أو الاستصحاب حجّة، أو الخبر المعارض حجّة... وهکذا؟
وکون الحجّة محمولاً فی تلک القضایا، لایستلزم عدم کون الجامع موضوعاً للعلم؛ لعدم البرهان علیٰ لزوم ذلک، کما عرفت.
وإن شئت قلت : ماهو موضوع العلم هنا أیضاً جامع الموضوعات، إلاّ أنّ حقیقة القضایا المستعملة فی العلم: «أنّ الحجّة المعلومة بالإجمال، هل هی الشهرة، أم الإجماع، أو السنّة، أو الکتاب، أو غیر ذلک؟» فالاُصولیّ یفحص عن تعیّنات الحجّة وتطوّراتها ومظاهرها، کما فی العلم الإلهیّ الأعظم.
إن قلت : الأمر کما اُشیر إلیه فی کثیر من مباحث العلم، کالظواهر، والاستصحاب وخبر الواحد، ولکن أکثر المسائل الاُصولیّة تکون خارجة، کالبحث عن مسألة اجتماع الأمر والنهی، ووجوب المقدّمة، ومسائل البراءة والاشتغال؛ ممّا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 57
لا اسم عن الحجّة فیها.
قلت : کلاّ؛ فإنّ المراد من «کون موضوع علم الاُصول هی الحجّة» هو أنّ الاُصولیّ یتفحّص عمّا یمکن أن یحتجّ به فی الفقه، سواء کان الاحتجاج لإثبات حکم، أو نفیه، کحجّیّة خبر الثقة والاستصحاب، أو لإثبات العذر أو قطعه، کمسائل البراءة والاشتغال.
وبعبارة اُخریٰ : مسائل علم الاُصول إمّا هی القواعد الشرعیّة، کحجّیة الاستصحاب، أو القواعد العقلائیّة، کحجّیة الظواهر، أو القواعد العقلیّة التی یثبت بها الحکم الشرعیّ، کمسائل الاجتماع، والمقدّمة، وحرمة الضدّ، أو القواعد العقلیّة لإثبات العذر وقطعه، کمسائل البراءة والاشتغال، وکلّ ذلک حجّة للفقیه فی الاستنباط، ولیس مسألة من المسائل الاُصولیّة إلاّ ویحتجّ بها فی الفقه بنحو من الاحتجاج، فیصدق علیها «أنّها هی الحجّة فی الفقه».
إن قیل : بناءً علیه وإن یندرج جلّ المسائل الاُصولیّة فیما هو الموضوع وهو «الدلیل فی الفقه» بل مباحث الاجتهاد والتقلید مندرجة؛ لأنّ الجهة المبحوث عنها هی حجّیة فتوی الفقیه لنفسه ولغیره، وحجّیة التقلید، وحجّیة العلم الإجمالیّ الکبیر والصغیر وهکذا، إلاّ أنّ مباحث الضدّ واجتماع الأمر والنهی خارجة عنه؛ لعدم البحث فیها حول الحجّیة، بخلاف مثل مباحث البراءة والاشتغال والتعارض والتخییر، کما هو الواضح.
قلنا : مناط کون المسألة من مسائل العلم؛ انطباق عنوان الموضوع علیها، وکونها من العوارض الذاتیّة له، سواء کانت مسألة ضروریّة، أو نظریّة؛ فإنّ فی العلوم مسائل مختلفةً، وفی تلک المسائل ماهی الضروریات الأوّلیّة، کمسألة امتناع إعادة المعدوم مثلاً، وهکذا مسألة حجّیة القطع، مع أنّهما من مسائل العلم، فعلیه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 58
لامانع من کون البحث فی حجّیة المفاهیم أیضاً من مباحث العلم؛ لأنّ کون النزاع صغرویّاً، لایورث عدم کونها من مسائل العلم.
نعم، البحث عن وجود المفهوم وعدمه، من المبادئ لتلک المسألة التی هی مفروغ عنها وثابتة بالضرورة، کمسألة القطع، بل والعلم الإجمالیّ، دون الحجّة الإجمالیّة، فلا تخلط.
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ الجهة المبحوث عنها فی المسائل المشار إلیها وإن لم تکن من مسائل العلم، إلاّ أنّ ذلک فی حکم الصغریٰ، ومن المبادئ لما هو الحجّة بالضرورة، فإذا ثبتت الملازمة مثلاً بین الإرادة الأصلیّة والإرادة المتعلّقة بالمقدّمة، فلابدّ أن یجب شرعاً ذلک، إلاّ أنّ ثبوت تلک الإرادة محلّ البحث، کثبوت القطع فی قطع القطّاع؛ فإنّه یبحث عنه فی أنّ قطعه هو القطع الحجّة، أو لیس هو ذلک.
فبالجملة : یمکن إدراج تلک المسائل فی موضوع العلم.
ولکنّه مع ذلک ربّما یشکل الأمر؛ لأنّ مناط المسألة الاُصولیّة، هو إمکان کونها واقعة فی طریق الاستنباط إمکاناً ذاتیّاً ووقوعیّاً واستعدادیّاً قریباً، لا بعیداً، وعند ذلک یخرج مباحث المعانی الحرفیّة، والوضع، والمشتقّات، والصحیح والأعمّ، وکثیر من مباحث الأمر والنهی، والمسائل المشار إلیها من هذا القبیل.
ولو صحّ إدراج تلک المسائل بالتقریب المزبور فی الموضوع المذکور، للزم إدراج مباحث اللغة والنحو والصرف أیضاً، التی ربّما یحتاج إلیها الاُصولیّ فی تحریر مسائله، فخروج هذه المباحث من علم الاُصول، ممّا لابدّ منه.
وإن شئت قلت : المراد من «الحجّة والدلیل» إن کان کلّ ما یمکن احتجاج الفقیه به فی إثبات محمول المسألة لموضوعها فی الفقه، فهو أعمّ من الکبریات الاُصولیّة بالضرورة.
وإن کان المراد منه هی الحجّة؛ بمعنی الوسط فی الإثبات، فمباحث البراءة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 59
والاشتغال خارجة، بل مباحث العامّ والخاصّ والمطلق والمقیّد وهکذا، أیضاً تخرج، فتدبّر جیّداً.
هذا مع شموله القواعد الفقهیّة، فلا یکون الموضوع المزبور جامعاً، ولا مانعاً.
والذی هو التحقیق : أنّ علم الاُصول دوّن لأجل الفقه، والمقصود فیه تحریر المسائل التی یبتلی بها الفقیه فی المسائل الفرعیّة، ولأجل الفرار من التکرار ولأغراض اُخر، بنوا علیٰ تدوین علم تکفّل لتلک المسائل والمباحث، وصار ـ بعد المختصرات السابقة ـ علماً کافلاً للعلوم المتشتّتة، راقیاً فی قضایاه.
وعلیٰ هذا، لاینبغی تصویر الموضوع الجامع بین تلک المسائل الشتّیٰ، بل لایعقل؛ للاختلاف الذاتی بین مباحث المعانی الحرفیّة والمشتقّات والصحیح والأعمّ، ومباحث الحجج العقلائیّة، کخبر الواحد والشهرة والقطع والظنّ وغیر ذلک، فإنّ الاُولیات إلی مباحث الأدب واللّغة من تلک المسائل أقرب، والسنخیّة الشدیدة بینها وبین تلک العلوم الأدبیّة موجودة بالضرورة.
فعلیٰ هذا، لابدّ من تصویر الجامع الصحیح الذی هو الرابطة بین مسائل الاُصول، ویکون أبعد من الإشکالات :
فنقول : أمّا توهّم کونها ذوات الأدلّة وذات الحجّة، فهو فاسد؛ ضرورة عدم الجامع بین الذوات المتباینة، حتّیٰ یکون هو الموضوع. وعنوان «الذات» بالنسبة إلیٰ ذوات موضوعات المسائل وإن کان جامعاً عرضیّاً، إلاّ أنّ المقصود هنا هو العنوان المشیر إلیٰ تلک الذوات؛ لعدم إمکان أخذ الذات المطلقة، وعدم إمکان أخذ الذات المقیّدة بالإضافة إلی الأدلّة؛ للزوم الإشکال أیضاً، فلابدّ أن یراد منه العنوان المشیر، فکیف یکون هو موضوع العلم؟! فلابدّیة کون الموضوع جامعاً ذاتیّاً أو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 60
عرضیّاً، منظور فیها، وإلاّ یلزم تعدّد العلم؛ لتعدّد الموضوع بتعدّد المسألة، کما لایخفیٰ. وهو الدلیل والحجّة.
إلاّ أنّه لابدّ من أن یقال : بأنّ موضوع علم الاُصول «هو الدلیل والحجّة علی المسألة الفقهیّة، أو ما یؤدّی إلیه تأدیة عامّة».
والمراد من «الحجّة» لیس ما یحتجّ به العبد علی المولیٰ وبالعکس فی مقام الامتثال؛ ضرورة أنّ من الممکن احتجاج بعضهم علیٰ بعض بالمسائل اللغویّة، فلو عصی العبد، وشرب الخمر؛ بدعویٰ أنّه لیس موضوعاً للمسکر، فیحتجّ علیه المولیٰ بتصریح اللغویّین : «بأنّه المسکر» وهکذا القواعد الفقهیّة. فما أفاده العلمان فی تحریر ما ذکراه لایتمّ.
فالمراد من «الحجّة» هی الوسط فی إثبات ماهو الحکم والمحمول فی المسألة الفقهیّة لموضوعها. والمراد من «المحمول» أعمّ من الأمر الإیجابیّ الثابت للموضوع، أو الأمر العدمیّ، أو سلب أمر من الاُمور المحتملة، فلو شکّ فی وجوب شیء فهو مسألة فقهیّة، والجواب عنها: «أنّه لیس بواجب أو بحرام؛ لأنّه مشکوک، وکلّ مشکوک مرفوع» أو «کلّ مشکوک قبیح العقاب علیه، فهو قبیح العقاب علیه».
فجمیع المسائل الاُصولیّة، تقع دلیلاً علی المسألة الفقهیّة، أو تؤدّی إلیٰ ذلک، کالمباحث الأدبیّة المشار إلیها، فإنّها تؤدّی إلیٰ تنجّز الحکم فی مورد، وعدمه فی آخر، وتمامیّة الحجّة وعدمها وهکذا، فلا تخلط.
وأمّا القواعد الفقهیّة، فهی وإن کانت تقع ـ حسب الشکل الأوّل ـ کبریٰ، إلاّ أنّ الاحتیاج إلیٰ تشکیل الشکل الأوّل ممنوع؛ لأنّ الفرق بین المسائل الاُصولیّة والقواعد الفقهیّة: هو أنّ الاُولیٰ تکون مورد النظر من حیث الخصوصیّات اللغویّة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 61
الملحوظة فیها، بخلاف الثانیة؛ فإنّ النظر فیها إلی المعنی الأعمّ من ذلک.
وبعبارة اُخریٰ : المسائل الاُصولیّة هی الواسطة فی الثبوت، والقواعد الفقهیّة هی الواسطة فی العروض؛ ضرورة أنّ الشهرة أجنبیّة عن موضوع المسألة وهو «فعل المکلّف» الذی اُرید إثبات الوجوب مثلاً له، وقاعدة «ما یضمن بصحیحه ...» منطبقة علیٰ مصادیقها الذاتیّة، وبعد الانطباق یثبت الحکم قهراً، فافهم واغتنم.
هذا، والذی یسهّل الخطب : أنّ علم الاُصول لیس بعلم کسائر العلوم الحقیقیّة أو الاعتباریة؛ وذلک لأنّ الذی کان فی أوّل الأمر مدوّناً هو الفقه، ولمّا کان الفقیه محتاجاً إلیٰ تحریر بعض المسائل التی یکثر الابتلاء بها فی الفقه، وکان یریٰ لزوم تکرارها فی الکتب العدیدة، بل والمسائل المختلفة من أوّل الفقه إلیٰ آخره، دوّن فی دیباجة الکتاب وفی مقدّمته ما یکون شاملاً لهذه المباحث، ثمّ بعد الاستکمال صار ذلک کثیرَ المسائل، فرآه أنّه بلغ إلیٰ حدّ یلیق بالاستقلال.
ولذلک تری المباحث فیه مختلفة تجمعها السنخیّة، إلاّ أنّ بینها الاختلاف؛ فإنّ منها ما هو لغویّ محض، ومنها ما هو عقلیّ محض، ولیس أحد من العلوم المدوّنة إلیٰ عصرنا، تکون مسائله متباعدة بعضها عن بعض إلیٰ هذا الحدّ.
ولذلک یشکل تصویر الموضوع له، فأنکر جماعة موضوع جمیع العلوم، أو طائفة منها، مع أنّ الأمر لیس کما توهّموه، وقال الآخرون بالإبهام والإجمال، کما مضیٰ تفصیله.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 62
وهکذا یشکل تعریفه، کما یأتی.
فعلیٰ ما ذکرنا، یمکن جعل المبادئ التصوّریة والتصدیقیّة التی لیست من العلم، داخلةً فیه، فیکون جلّ ـ لولا کلّ ـ المسائل المبحوث عنها فی علم الاُصول فعلاً، من العلم. وتوهّم تعدّد الموضوع فی العلم الواحد، مندفع بما سمعت منّا تفصیلاً فی تحریر موضوع العلوم ومعناه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 63
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 64