النظر الرابع : المراد من «الأعراض الذاتیّة» فی عبارة الأقدمین
فإن کانت هی ما أفاده المشهور إلی عصر صدر المتألّهین قدس سره فکثیر من مباحث العلوم خارج عن التفسیر المذکور؛ لأنّ موضوعات المسائل أنواع وأصناف ـ أو کالأنواع ـ لموضوع العلم، ولیس هذا ممّا یمکن الالتزام بخفائه علیهم، مع أنّهم أهل الفنّ، ومبتکرو العلوم وجامعو الفنون، خلافاً للفاضل الخوانساریّ فی «حواشی الشفاء».
فیعلم من ذلک : أنّ «الأعراض الذاتیّة» فی هذه العبارة لیست ما هی المصطلح علیها فی المنطق عندهم، خصوصاً بعد تصدّیهم لذلک البحث فی کتبهم الحکمیّة، ودیباجة المباحث العقلیّة، والمسائل الفلسفیّة.
وممّا ظنّه الحکیم المتألّه صاحب «الحکمة المتعالیة» أنّ المقصود من «العوارض الذاتیّة» فی تلک العبارة هو ذاک، ولمّا تذکّر الإشکال المتوجّه إلیهم بنیٰ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 46
علیٰ تفسیرها بوجه آخر؛ حتّیٰ تکون مسائل العلم أعراضاً ذاتیّة لموضوعه.
وقد عرفت : أنّ هذا لیس دفعاً للإشکال الظاهر علیهم، بل هو الالتزام به، والخروج عمّا هو الطریق المألوف والدأب المجبول علیه، کما لایخفیٰ.
مع أنّه ربّما لایمکن تتمیمه علیٰ تفسیره، قال فی کتابه الکبیر بعد البحث الطویل: «نعم، کلّ ما یلحق الشیء لأمر أخصّ، وکان ذلک الشیء مفتقراً فی لحوقه له إلیٰ أن یصیر نوعاً متهیّئاً لقبوله، لیس عرضاً ذاتیّاً، بل عرض غریب.
کما أنّ ما یلحق الموجود قبل أن یصیر کذلک، عرض ذاتیّ؛ ضرورة أنّ لحوق الفصول لطبیعة الجنس ـ کالاستقامة والانحناء للخطّ مثلاً ـ لیس بعد أن یصیر نوعاً متخصّص الاستعداد، بل التخصّص إنّما یحصل بها، لا قبلها، فهی مع کونها أخصّ من طبیعة الجنس، أعراض أوّلیّة» انتهیٰ.
فبالجملة : مجرّد الوساطة لایضرّ بالعرض الذاتیّ، بل المناط فی العرضین ـ الذاتی والغریب عنده ـ الوساطة الخارجیّة، لا المفهومیّة؛ أی جمیع أعراض النوع بالنسبة إلی الجنس، والفصل بالنسبة إلی الأجناس، وبالعکس، أعراض ذاتیّة، ولکن عوارض الجسم الطبیعیّ فی العلم الطبیعیّ، والجسم التعلیمیّ فی المجسّمات، والکمّ المنفصل فی الحساب، کلّها أعراض غریبة؛ للزوم الخصوصیّة فی الموضوع، لا من قبل المحمول.
وإن شئت قلت : الأعراض الذاتیّة ومعروضاتها موجودات بوجود واحد، والأعراض الغریبة ومعروضاتها موجودة بالوجودین : الجوهریّ، والعرضیّ، أو الموضوعیّ، والعرضیّ، فهناک جعل بسیط، وهنا جعل مرکّب، فجمیع الأعراض التحلیلیّة ذاتیّة، وجمیع الأعراض الخارجیّة غریبة بالنسبة إلیٰ موضوع العلم وإن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 47
کانت ذاتیّة لموضوعها.
أقول : فبالجملة تنحلّ الشبهة، وهو قدس سره یرید أنّ القدماء أیضاً مقصودهم من «العرض الذاتیّ» هو ذلک. فما اشتهر من نسبة التفسیر الأوّل إلیهم، والتفسیرِ الثانی إلیه، لایخلو من إشکال، کما فی کلامنا أیضاً تریٰ ذلک، والأمر سهل.
وعلیٰ هذا، یمکن دفع الإشکالات المذکورة علیهم :
تارة : بأنّ مباحث الماهیّات خارجة عن الفلسفة الاُولیٰ؛ لعدم کونها من الأعراض الذاتیّة، فإنّها عنده منها، بل فی خصوصها صرّح فی الکتاب الکبیر قائلاً: «ویتّضح لک من طریقتنا فی تحقیق مباحث الوجود التی هی دار الأسرار الإلهیّة: أنّ الماهیّات أعراض ذاتیّة لتلک الحقیقة» انتهیٰ.
اللهمّ إلاّ أن یقال : المسائل المعروفة فی العلم الإلهیّ من الأعراض الذاتیّة، ولکن کلّ ما یرجع إلی الموضوع فهو لیس منها، مثل البحث عن أصالة الوجود والماهیّة، وترکّبه وعدمه، وبساطته وعدمه، وأنّه لا حدّ له؛ لأنّ موضوع العلم لیس موضوع المسألة، بل موضوع المسألة عرض ذاتیّ للعلم، کالماهیّات، ویکون موضوع العلم نفس موضوعات المسائل المختلف معها عنواناً، والمتّحد خارجاً، کما مرّ.
هذا مع أنّ ما یثبت فی العلم عنده أنّه العرض الذاتیّ، لیس من الأعراض الذاتیّة فی العلم عند الأکثر، وهذا غیر تامّ؛ للزوم کون الشیء عرضاً ذاتیّاً علی المذهبین، ولذلک قیل واشتهر: «إنّ ما هو المفهوم المردّد فی المسألة هو العرض الذاتیّ» لأنّ المسألة بأیّ طرف منها ثبتت، تکون من مسائل العلم، ویکون
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 48
محمولها من عوارض الموضوع الکلّی فلیتدبّر.
واُخریٰ : بأنّ مباحث الجنّة والنار لیست من الأعراض الذاتیّة.
وفیه : أنّ البحث فیها بالنسبة إلی الجنّة والنار الخارجیّتین، یکون من عوارض الموجود المنقسم إلی الجوهر والعرض، والجوهر إلی المجرّد المحض، والمقدّر، والمادّی، والجنّة والنار من أنواع الموجودات المقدّرة فی القوس النزولیّ، وبالنسبة إلی الجنّة والنار غیر الخارجیّتین یکون البحث عن عوارض النفس؛ وأنّها باقیة بعد خراب البدن، وأنّها خلاّقة للصور المقدّرة فی القوس الصعودیّ، وقادرة علی إحضار الکائنات والمبتدعات بوجه تقرّر فی محلّه.
نعم، هذا لایتمّ علی الدقّة العقلیّة فی تفسیره «للعرض الذاتیّ» لتخصّص النفس التی من عوارض الموجود بخصوصیّة خارجیّة، وتهیُّئها من قبل غیر الوصف العارض فی عروض هذه الأوصاف علی الموجود المطلق. وما توهّمه المحشّی العلاّمة : من تمامیّة الشبهة علی التفسیر المزبور غیر صحیح.
هذا مع أنّ العوارض الذاتیّة للأجناس عوارض الأنواع؛ لأنّ الجنس مأخوذ لا بشرط، فالحکم «بأنّ الجوهر هو الموجود لا فی موضوع» ثابت لأنواعه، کما أنّ الحکم «بأنّ النفس موجود مجرّد ذاتاً، لا فعلاً» ثابت للموجود المطلق، فیلزم جواز کون موضوع المسألة أعمّ من موضوع العلم، وهذا یستلزم تداخل مسائل العلم الأعلیٰ فی العلم الأدنیٰ، کما لا یخفیٰ.
وثالثة : بأنّ القضایا السوالب المستعملة فی العلوم، غیر متقوّمة بالموضوعات فی الصوادق، فکیف تکون المحمولات فیها من الأعراض الذاتیّة؟!
وفیه : أنّ القضایا هی السوالب المحصّلة بعد اعتبار وجود الموضوع خارجاً، وهذا اعتبار لازم فی المسائل، وإلاّ فکثیراً ما لا یبحث عن شیء یکون موضوعه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 49
المعدوم، فالقضیّة سالبة محصّلة مع اعتبار وجود الموضوع.
نعم، نفی الحکم لیس من العوارض، إلاّ أنّه یستلزم إثبات نقیضه وضدّه، مثل «أنّ الوجود لیس بجوهر، ولا عرض» من مسائل العلم، ولیس المحمول إثبات الأمر العدمیّ حتّیٰ تکون القضیّة معدولة، بل الثابت بهذه القضیّة المحصّلة، بساطة الوجود فی الخارج والذهن، وإثبات أنّه الواحد بالوحدة الحقّة الحقیقیّة، فکأنّه تکون المسألة معنونة هکذا: «فی أنّ الوجود واحد بجمیع الوحدات المعتبرة فی العقل والخارج».
هذا، وتتمیم ما أفاده فی سائر العلوم خصوصاً العلوم الاعتباریّة ـ بحیث یستوعب جمیع المسائل ـ غیر ممکن، خصوصاً فی مثل علم الجغرافیا والتأریخ. بل فی مثل علم الفقه أیضاً مشکل؛ ضرورة أنّ الأحکام الوضعیّة من المسائل الفقهیّة، وإرجاعها إلی الأحکام التکلیفیّة غیر تامّ، کما تقرّر فی محلّه.
هذا مع أنّ ما یستفاد من کلام القوم : أنّ مقصودهم من «العرض الذاتیّ» هو ما ذکرناه. وإلحاق الأمر المساوی؛ لدعویٰ أنّ تساوق النسبتین فی الصدق کالاتّحاد فی الذات، وإلاّ فهو أیضاً عرض أجنبیّ عن الذات غیر مربوط بها.
وما أفاده الحکیم المزبور : من أنّ مقصودهم ذلک لا ذاک، غیر قابل للتصدیق؛ لأنّهم فی العبارة الواصلة عنهم فی تفسیره صرّحوا : بـ «أنّ ما یعرض للأمر المساوی من العرض الذاتیّ» وهذا ممّا لایمکن تفسیره بأمر آخر.
نعم ، إذا أجملوا فی التعبیر کان لاستکشاف العرض الذاتیّ ـ بالمعنی الأخیر من عبائرهم وجه، ولکنّه غیر ممکن جدّاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 50
وتصریح الشیخ فی بعض کتبه؛ بما یوافق مذهبه فی تفسیره، لایورث تعیّنه فیه، کما هو الظاهر البارز.
فعلیٰ ما تقرّر إلی هنا، تعیّن أن یکون المراد من «العوارض الذاتیّة» غیر ما اصطلح علیه فی المنطق والفلسفة.
إن قلت : ما المانع من تفسیرها بما یعرض للشیء حقیقة، قبال ما یعرض للشیء علیٰ نعت المجاز وبالعرض، کما اُشیر إلیه؟
قلت : هذا ما أفاده الحکیم السبزواریّ، ولعلّه یرجع إلیٰ ما رامه صدر المتألّهین.
قال فی «حواشی الأسفار» : «والحقّ فی معنی العرض الذاتیّ أن یقال: هو ما یکون عارضاً للشیء ووصفاً له بالحقیقة؛ بلا شائبة مجاز وکذب، أی یکون من قبیل ما یقال له عند أهل العربیة: الوصف بحال الشیء لا الوصف بحال متعلّق الشیء.
وبعبارة اُخریٰ : العرض الذاتیّ ما لا یکون له واسطة فی العروض، لکن بعض أنحائها التی کحرکة السفینة الواسطة لحرکة جالسها» انتهیٰ.
فعلیه تکون جمیع الأعراض للموضوعات الأعمّ والأخصّ أعراضاً ذاتیّة، کما صرّح به فی ذیل ذلک، وقال :
«والسبب فی أنّ أحوال الفصل هی أحوال الجنس؛ أنّ الجنس إذا اُخذ لا بشرط کان متّحداً مع الفصل، فکانت أحوال أحدهما هی أحوال الآخر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 51
بالحقیقة» انتهیٰ.
وأنت خبیر بما فیه کما اُشیر إلیه؛ ضرورة أنّ لازمه جواز إدخال مسائل العلم الأعلیٰ فی العلم الأدنیٰ؛ لأنّ عوارض الکمّ المطلق عوارض ذاتیّة للکمّ المنفصل، الذی هو موضوع الحساب، أو الکمّ المتّصل الذی هو موضوع الهندسة؛ لأنّ الجنس متّحد مع الفصل، وتکون هی ثابتة له علیٰ نعت الحقیقة، فافهم وتدبّر جیّداً.
فعلیٰ هذا لنا دعویٰ : أنّ «الموضوع» فی هذه العبارة کما أنّه لیس منحصراً بالموضوع فی مقابل المحمول، بل هو الأعمّ منه، والمقصود هی الرابطة الموجودة بین المسائل المختلفة، والجهة المشترکة بین القضایا المستعملة فی العلوم، سواء کان موضوع المسألة، أو جامع المحمولات، أو نفس موضوعات المسائل، أو کان بسیطاً، أو مرکّباً، أو مقیّداً.
ولا یعقل کون جمیع المسائل لموضوع النحو المرکّب، أعراضاً له، سواء کانت ذاتیّة، أو غریبة، خصوصاً بعد کونه مرکّباً من ثلاثة أجزاء: إعراب آخر الکلمة، وبناؤها، والکلام، وهکذا فی الصرف، فإنّه فیه صحّة الکلمة، واعتلالها، وهذه المفاهیم هی الحبال الداخلة فی حلق مسائل العلم، فتکون جامعة لها.
کذلک الأعراض الذاتیّة، لیست منحصرة بالأعراض الذاتیّة المصطلحة فی المنطق، بل هی الأعمّ منها وممّا یلحق بالشیء؛ لسنخیة هی أقویٰ من السنخیّة المقتضیة للبحث عنه فی العلم الآخر. ولذلک کثیراً ما یتّفق اتحاد المسألة، واختلاف العلم، فیبحث عنها فی العلوم الکثیرة؛ للسنخیّة التی تورث ذلک ولو مع الوسائط، فیقع البحث عن کلمة «الصعید» فی اللغة، وعنها فی التفسیر، وعنها فی الفقه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 52
وهذا لایرجع إلی أنّ اتحاد الغرض یوجب ذلک، حتّیٰ یقال: بأنّ الجهة المشترکة بین المسائل قد تکون اتحاد الأغراض؛ لما عرفت: من أنّ تلک السنخیّة فی المرتبة المتقدّمة، ولولا تلک السنخیّة لایعقل اتحاد الغرض، وعرفت الجهات الاُخر المؤدّیة إلی امتناع کونه سبباً للربط، فلاحظ.
فعلیٰ هذا، البحث عن عوارض الجنس فی العلم الأدنیٰ ـ بعد کون الجنس موضوعاً للعلم الآخر، أو عرضاً فی العلم الأعلیٰ ـ غیر صحیح؛ لأنّ تلک السنخیّة أقویٰ من السنخیّة الثابتة فی العلم الأدنیٰ، فلا وجه لجرّ مباحث الجوهر إلی العلم الطبیعیّ، ومباحث الکمّ المطلق إلی الحساب والهندسة؛ لکونها فی الفلسفة أولیٰ وأقرب.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 53