النظر الثالث : فی المراد من «العرض الذاتی»
بعدما عرفت جملة من أقسام الأعراض وتقسیماتها علی الاختصار، تصل النوبة لتفسیر العرض الذاتیّ، فعن القدماء تفسیر العرض الذاتیّ: «بما یعرض للشیء، بحیث یکون هو کافیاً فی العروض، أو تکون الواسطة مساویةً له فی الصدق» کالوحدة، والوجود، وسائر العناوین المساوقة معه؛ فإنّ نفی قابلیّة القسمة عن الوجود خارجاً؛ لأجل وحدته، وإثبات النورانیّة لتلک الوحدة؛ لأجل الوجود، وهذه السرایة لأجل الاتحاد.
ومن هذا القبیل النوع والفصل، فإنّ ما یثبت للفصل یثبت للنوع، وبالعکس، مع اختلافهما فی المفهوم. وهذا هو المعروف فی کلام جماعة بـ «الجزء الداخلیّ» فإنّ الفصل هو الجزء الداخلیّ للنوع المساوی معه فی الصدق.
وقال الآخرون : «بأنّ الأعراض الذاتیّة هی التی تعرض للشیء؛ بمعنیٰ أن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 44
تکون صفة له بحال نفسه، لا بحال متعلّقه، فإنّه بالعرض والمجاز».
ووجه الابتلاء بهذا التفسیر، توهّمهم أنّ المراد من «العوارض الذاتیّة» فی الجملة الواصلة إلینا فی تعریف موضوع العلم، هو العرض الذاتیّ المصطلح علیه فی العلم الأعلیٰ، مع أنّ الأمر لیس کذلک کما یأتی. ولو کان الابتلاء بالإشکال موجباً للتدخّل فی المراد من کلمات القوم، وتفسیرها بوجه آخر لحلّ الإشکال، لکان ذلک باباً واسعاً فی حلّ الشبهات، وربّما یأتی بعد زماننا هذا من یفسّرها بأمرٍ آخر؛ لاستلزامه لإشکالات اُخر، فتدبّر.
والذی أظنّه بعد التأمّل التامّ : أنّ الأعراض الذاتیّة قبال الأعراض الأجنبیّة والغریبة، فما کان من العوارض لاحقاً بذات من الذوات ـ بمعنیٰ أن تکون الذات کافیة بذاتها لعروضه علیها ـ فهو العرض الذاتیّ؛ أی یخصّ بذات دون الذوات الاُخر، ولا شریک لتلک الذات من أمر آخر یعرضه هذا العرض، ولا شریک لتلک الذات دخیل فی عروضه علیها من العلل.
فالعرض الذاتیّ ما یخصّ بذات، وقهراً تکون تلک الذات موضوع الاعتبار المذکور، وعلّةَ العرض المزبور، فلا یکون الزوجیّة من عوارض «الأربعة» الذاتیّة؛ لاشتراک «الستّة» معها فیها، ولا التعجّب من العوارض الذاتیّة للإنسان؛ لاشتراک الأنواع الاُخر المشابهة معه فی الإدراک الکلّی، فهذا العرض غریب وأجنبیّ عن الذات المعیّنة المخصوصة بالنظر.
وهکذا کلّ عرض یکون کذلک هو العرض الغریب، فما لا یعرض للشیء حقیقة، ویعرض له لأجل الجهة المعانقة معه من الأجزاء الداخلیّة، أو الاُمور
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 45
الخارجیّة ـ سواء کانت أعمّ، أو أخصّ، أو مباینة، کما مضیٰ أمثلتها ـ فهو الغریب.
وقد تصدّیٰ جمع لتفسیر الأعراض الذاتیّة والغریبة، ولکن الإنصاف أنّ الغور فیها بعد ذلک من «اللغو المنهیّ» .
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 46