النظر الأوّل : فی المراد من «الموضوع»
فالمحکیّ عنهم : «هو أنّ موضوع کلّ علم ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة».
والمراد من «الموضوع» لیس ما نسب إلیٰ ظاهر الحکماء: «من أنّه نفس موضوعات مسائله عیناً، وما یتّحد معها خارجاً، وإن کان یغایرها مفهوماً تغایرَ الکلّی ومصادیقه، والطبیعیّ وأفراده». انتهیٰ، حتّیٰ ینتقض بالعلوم المشار إلیها،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 35
فکأنّهم لاحظوا بعض العلوم کعلم النحو، وظنّوا أنّ جمیع العلوم مثله، وما توجّهوا إلی أنّ موضوع العلم فی الفلسفة محمول فی المسائل، وموضوعَ العرفان واحد خارجاً ومفهوماً فی العلم والمسألة، ولا تغایر بینهما بنحو الکلّی والفرد.
بل ملاحظة موضوع علم النحو یعطی خلاف ظنّهم؛ لتعدّد الموضوع فی النحو. وتوهّم أنّ موضوعه «الکلمة اللابشرط» غیر تامّ؛ لأنّ بها لایحصل الکلام لتقوّمه بالنسبة والهوهویّة، فلاتغفل.
کما لیس المراد منه الموضوع فی مقابل المحمول، حتّیٰ ینتقض: بأنّ ماهو الموضوع فی الفلسفة محمول فی القضایا والمسائل، ویردّ النقض: بانقلاب القضیّة، کما صنعه الحکیم السبزواریّ رحمه الله فی مختصره.
وهکذا ینتقض بعلم الصرف والنحو، وسائر العلوم التی یمتاز موضوعها بالقید الوارد علی الجهة المجتمعة فیها العلوم؛ وهی قید الحیثیّة.
فمن هنا تعلم أنّ المراد من الموضوع ما هو الجهة الجامعة للمسائل، والرابطة بین المتشتّتات، المشار إلیها فی بعض العلوم بعناوین بسیطة، کـ «الوجود» فی الفلسفة، و«الجسم الطبیعیّ» فی الطبیعیّ، وفی بعضها بعناوین مرکّبة، کـ «الکلمة والکلام من حیث الإعراب والبناء» فی النحو، و«من حیث الصحّة والاعتلال» فی الصرف، وکـ «الأدلّة الأربعة» فی الاُصول.
وهکذا یمکن إضافة کلمة «أو ما یؤدّی إلیه» لموضوع الفقه؛ وهو «فعل المکلّف» حتّیٰ تجتمع فیه جمیع مباحث الفقه، ولایلزم النقوض المزبورة علیه.
وقد یتوهّم : أنّ العلوم علیٰ قسمین :
القسم الأوّل : ماهو الموضوع فیه معلوم کالفلسفة والعرفان والطبیعیّ، لأنّه هو الموضوع للمسائل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 36
والقسم الثانی : ما لا موضوع له، بل الغایة والغرض تکون جامعة للمسائل.
وهذا فاسد؛ ضرورة أنّ إضافة قید الحیثیّة إلی الکلمة فی موضوع الصرف والنحو، غیر الفائدة المترتّبة علیهما؛ وهو حفظ اللسان عن الخطأ فی المقال، کما هو الواضح، فما أصرّ علیه: من عدم الموضوع لبعض العلوم، غیر راجع إلیٰ محصّل.
وقال بعض السادة من أساتیذنا : «إنّ المراد من الموضوع فی الجملة المعروفة، مقابل المحمول، ولکن لا المحمول فی المسألة، بل الموضوع للعلم هو جامع المحمولات المبیّنة فی المسائل، ویکون فی الحقیقة موضوعاً لموضوعات المسائل، وتکون تلک الموضوعات محمولاته».
بیان ذلک مع رعایة الاختصار : أنّ موضوع العلم ما یجعل مصبّ النظر، ویبحث عن طوارئه وعوارضه وتعیّناته وشؤونه، وهو فی الفلسفة «الوجود والموجود» فإنّ البحث فیها حول تعیّنات الوجود ومظاهره، وأنّه هل یتعیّن بالتعیّن الجوهریّ، أو العرضیّ، أو المجرّد أو المادّی؟ ویکون فی الحقیقة القضیّة المستعملة فی العلم عکسَ ما یفرض فی المسائل؛ فإنّ المتعارف أن یقال: «الإنسان موجود» و«العقل موجود» مع أنّ التحقیق هو أن یقال: «الوجود جوهر» و«الوجود مجرّد» و«الوجود عرض» و«الوجود فلک وملک» فإنّ هذه الماهیّات عوارض الوجود عرضاً تحلیلیّاً، کما یأتی تفصیله فی ذیل العوارض الذاتیّة.
ففی الحقیقة طالب الفلسفة یتفحّص عن شوؤن الوجود وأطواره وأحکامه وتعیّناته وتشؤّناته، فما هو المحمول فی المسألة هو «الموجود» والذی یثبت
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 37
لموضوع المسألة حصّة من الوجود، أو مرتبة خاصّة منه، والذی هو جامع تلک الحصص والمراتب؛ هو الحقیقة المطلقة منه التی هو موضوع العلم، وتکون تلک الموضوعات والماهیّات المعروضة للوجود الخاصّ ـ فی الاعتبار والذهن ـ عوارض تلک الحقیقة، ومحمولات ذلک الموضوع فی التحلیل، وإلاّ فالکلّ متّحد حدّ الکون والخارج.
وهکذا فی النحو ماهو الموضوع جامع المحمولات وإن لایکون بعنوانه موضوعاً فیه، وذلک الجامع هو الإعراب والبناء، أو هی حالة آخر الکلمة، فتلک الحالة رفع ونصب وجرّ، ولها الأسباب المختلفة، فالرفع من شؤون تلک الحالة، وهکذا الضمّ والفتح والکسر، والقضیّة المنعقدة تکون هکذا: «حالة آخر الکلمة نصب ورفع وجرّ» والقضیّة المستعملة فی العلم «إنّ الفاعل مرفوع» و «المفعول منصوب» فما هو الجامع لتلک المحامیل فی الإعراب والبناء، هو تلک الحالة والحرکة التی هی فی الحقیقة موضوع العلم.
أقول : ظاهر ما نسب إلیه أنّه توهّم : أنّ جامع المحمولات موضوع لموضوعات المسائل، وتکون هی أعراضاً ذاتیّة له، مع أنّ الأمر لیس کذلک حتّیٰ فی علم النحو الذی مثّل به؛ فإنّ موضوع المسألة ـ وهو «الفاعل» و «المفعول» ـ لیس من عوارض ذلک الجامع، نعم فی الفلسفة، وبعض العلوم الاُخر ربّما یکون کذلک، ولکنّه لیس کذلک فی مثل علم العرفان؛ فإنّ محمولات المسائل جامعها موضوع العلم، وهو نفس موضوعات المسائل عیناً ومفهوماً.
بل الأمر حسب ما یؤدّی إلیه نظر المحقّقین، کذلک فی الفلسفة؛ لأنّ موضوعها لیس «مفهوم الوجود» بالضرورة، فإنّه من المعقولات الذهنیّة والمفاهیم الواضحة التی لا خارجیّة لها، فموضوعها «خارج الوجود وحقیقته الخارجیّة» وهی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 38
لیست محمول المسائل، فالموضوعات أعراض ذاتیّة لتلک الحقیقة، وهی الواحدة بالوحدة الشخصیّة؛ إذ القول بالحقائق المتباینة باطل عندهم، فیتّحد موضوع العلم وموضوعات المسائل.
ولو قیل : بناءً علیٰ هذا یلزم صحّة تفسیر «الکفایة» هنا.
قلت : هذا هو غیر موافق للتحقیق عندنا؛ علیٰ ما فسّرناه فی «القواعد الحکمیّة» وقلنا : إنّ القائلین بأصالة الماهیّة من أعظم الفلاسفة، مع إنکارهم تلک الحقیقة، فلیس «الوجود» ولا «مفهومه» موضوعها، بل موضوعها الأمر الجامع بین الوجود والماهیّة؛ وهی «الواقعیّة» بعد الفراغ عن ثبوتها فی الجملة.
وهکذا ربّما لایتمّ فی مثل علم الجغرافیا.
ولایمکن إتمامه فی علم النحو؛ بناءً علی أنّ موضوعه «الکلمة والکلام» ولایمکن إرجاع الثانی إلی الاُولیٰ؛ لأنّ الکلمة المطلقة لیست مورثة للکلام، والکلمةَ المقیّدة بالانتساب، لاتنطبق علی الکلمة المطلقة عن النسبة، کالحروف النواصب والجوازم.
فعلیٰ هذا، لایعقل الجامع بین محمولات العلوم التی یتعدّد موضوعها؛ ضرورة أنّ کثیراً من مباحث النحو ، مربوط بإعراب الجمل والإعرابات المحلّیة، وکثیراً مایقع البحث فی المعانی المربوطة بالجملة، کغیر الباب الأوّل من الأبواب الثمانیة فی «المغنی».
ودعویٰ : أنّ النحو علمان، ویکون الباب الأوّل من «مغنی اللبیب» علماً،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 39
وسائر الأبواب علماً آخر، فاسدة بالبدیهة.
ولایمکن الالتزام بما أفاده، فی علم المنطق؛ فإنّ موضوعه «المعقولات الثانیة» وجامع محمولات المسائل معقول رابع، فالبحث عن الذاتیّة والعرضیّة والقیاس والبرهان وأحکام القضایا ـ من الموجبات والسوالب فی البسائط والمختلطات ـ یجمعها فرضاً عنوان کلّی، ولیس هو موضوع المنطق، بل موضوعه «الطبیعة المعقولة».
مع أنّ تصویر الجامع بین محمولات مسائل المنطق غیر ممکن؛ لأنّ نسبة بعض مسائله ـ کالمعرّفیة والجنسیّة والفصلیّة وأمثالها ـ إلیٰ بعضها کالقیاس والبرهان، نسبة الکلمة إلی الکلام، ولا جامع بینها بنحو یفید تمام المطلوب، کما لایخفیٰ.
ولا فی علم الفقه؛ فإنّ موضوعه إذا کان جامع المحمولات، أهو «الحکم الأعمّ من الوضع أو التکلیف» أو هو الثانی فقط؛ بناءً علیٰ تأخّر الوضع عن التکلیف فی الاعتبار، کما قیل به، وهذا الحکم لیس من تطوّراته وشؤونه موضوعات المسائل، وهو الأفعال الخارجیّة التکوینیّة، فکیف یعقل ذلک مع أنّ الموضوع أمر اعتباریّ، والمحمول أمر خارجیّ فی الأعیان؟!
ولا فی علم الصرف، بل لا جامع بین الصحّة والاعتلال.
فعلیٰ ما عرفت من فساد المبنیین ـ وهما کون المراد من «الموضوع» فی العبارة الواصلة من الأقدمین، نفسَ موضوعات المسائل، أو جامعَ محمولات المسائل ـ تعرف أنّ المقصود من «الموضوع» ماهو الجامع الرابط بین المسائل المتشتّتة والقضایا المتباینة، ویکون نظر المتعلّم إلی الفحص عمّا یرتبط به ویتسانخ معه من الأعراض وغیرها.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 40
وهذا قد یکون نفس موضوعات المسائل، وقد یکون جامع المحمولات، وقد لایکون إلاّ العنوانین کـ «الکلمة والکلام» وقد یحتاج إلیٰ إیراد قید الحیثیّة، وقد یحتاج إلیٰ ذکر القیدین بعد ذکر الحیثیّة کـ «الإعراب والبناء» ولا برهان علیٰ أنّ الموضوع، لابدّ وأن یفسّر بمعنیٰ واحد ومفهوم فارد.
فتحصّل إلیٰ هنا : أنّ «الموضوع» فی العبارة المشار إلیها، ماهو المجعول للنظر فیه، ویکون مصبّ النفی والإثبات؛ للخصوصیّات المختلفة فیه، وهو الجامع بین الشتات.
إن قیل : هذا فی الحقیقة إنکار لموضوع العلم؛ لأنّ الغرض فی العلم قد یکون جامع الشتات.
قلنا : نعم، هذا ما قد یتوهّم، وقد اُشیر إلیه ، ولکنّه بمعزل عن التحقیق؛ ضرورة أنّ الغرض والغایة والفائدة، من العناوین الموجودة فی أنفس المدوّنین، وربّما تترتّب علیٰ تعلّم المتعلّمین، کما إذا أرادوا حفظ الکلام عن الغلط، فهذا أمر اقتضائیّ مترتّب ـ علیٰ نعت الاقتضاء ـ علی العلم، فلیست الجهة الجامعة التی هی الجهة الفعلیّة الموجودة فی العلم، هی ذلک الغرض.
وبعبارة اُخریٰ : العلم علم وإن لم یکن مدوّناً، ولا متعلّماً؛ أی لایعتبر لحاظهما فی وجود العلم.
ولذلک ماهو الجامع ـ بمعنیٰ الموضوع فی العلم ـ غیر الغرض فیه، وقد تصدّیٰ أرباب العلوم بعد ذکر الموضوع، لذکر الفائدة والثمرة والغرض والغایة.
وإن شئت قلت : ما هو الغایة هنا هی ما لأجله الحرکة، لا ما إلیه الحرکة، وما لأجله الحرکة لیس یترتّب علی الحرکة إلاّ أحیاناً، فلیست الغایة هی الجهة الجامعة المعبّر عنها بـ «الموضوع» بالضرورة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 41
هذا تمام الکلام فی النظر الأوّل ممّا یتعلّق بالعبارة الواصلة من الأقدمین.
بقی أنظار اُخر :
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 42