المقصد الأوّل موضوع الاُصول وتعریفه مع نبذة من مباحث الألفاظ

الناحیة الاُولیٰ : أصل الحاجة إلی الموضوع فی العلوم

الناحیة الاُولیٰ أصل الحاجة إلی الموضوع فی الـعلـوم الحقیـقیّـة أو الاعتبـاریّـة

‏ ‏

‏وقد اشتهر هذا بین أبناء التحقیق، وصار ذلک من الأصل المسلّم والأمر‏‎ ‎‏المفروغ عنه؛ وأنّ لکلّ فنّ وعلم موضوعاً یمتاز العلم به عن الآخر، ویکون هو‏‎ ‎‏مورد البحث بأحواله وأطواره وخصوصیّاته وآثاره وأحکامه‏‎[1]‎‏.‏

‏وقد خالفهم الوالد المحقّق ـ مدّظلّه بإنکاره علیهم أشدّ الإنکار، ذاکراً أنّ‏‎ ‎‏العلوم ما کانت فی عصر التدوین إلاّ عدّة قضایا متشتّتة، تجمعها خصوصیّة کامنة‏‎ ‎‏فی نفس المسائل، بها امتازت عن سائر العلوم، ولم یعهد من أرباب التألیف‏‎ ‎‏والتصنیف، ذکر الموضوع الواحد بالعنوان الخاصّ حتّیٰ یکون موضوع العلم‏‎[2]‎‏.‏

‏ویشهد لما أفاده : ما حکی عن المعلّم الأوّل: «من أنّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا‏‎ ‎‏فی الأقیسة إلاّ ضوابط غیر مفصّلة، وأمّا تفصیلها وإفراد کلّ قیاس بشروطه‏


کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 29
‏وضروبه، فهو أمر کددنا فیه أنفسنا، وأسهرنا أعیننا، حتّی استقام علیٰ هذا‏‎ ‎‏الأمر، فإن وقع لأحد ممّن یأتی بعدنا زیادة أو إصلاح فلیصلحه، أو خلل‏‎ ‎‏فلیسدّه»‏‎[3]‎‏ انتهیٰ.‏

‏وأیضاً یشهد له : خلوّ الکتب المدوّنة فی العلوم العصریّة عن ذکر الموضوع‏‎ ‎‏علیٰ حِدة، بل العلم عبارة عن عدّة مسائل مرتبطة.‏

‏وممّا یشهد له : أنّ کثرة المسائل وتراکم المباحث، تورث تکثّر العلم الواحد‏‎ ‎‏إلی العلوم الکثیرة، فیکون بدن الإنسان الذی کان موضوعاً للعلم الواحد،‏‎ ‎‏موضوعاتٍ للعلوم المختلفة، ویتخرّج من کلّ جامعة متخصّص فی المسائل‏‎ ‎‏المرتبطة بعضو دون عضو؛ بحیث تکون تلک المسائل المتسانخة معها فی العصر‏‎ ‎‏الأوّل، متخالفة بعضها مع بعض فی العصور المتأخّرة.‏

‏وهذا أعظم شاهد علیٰ أنّ الموضوع للعلم غیر محتاج إلیه، فلا وجه لما‏‎ ‎‏ارتکبه القوم فی المقام، فلیتدبّر؛ فإنّه مزالّ الأقدام.‏

‏ثمّ إنّ الذی یلجئه إلی الإنکار المزبور؛ عدم إمکان تصویر الموضوع بالمعنی‏‎ ‎‏المعروف بینهم: «من أنّه ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة. ونسبة الموضوع إلیٰ‏‎ ‎‏موضوع المسائل نسبة الکلّی إلیٰ مصادیقه، والطبیعیّ إلیٰ أفراده»‏‎[4]‎‏ ضرورة أنّ من‏‎ ‎‏العلوم ماهو المتّحد موضوع علمه ومسألته ذاتاً وعنواناً، کعلم العرفان، بل والفلسفة‏‎ ‎‏العلیا؛ لأنّ موضوعه «الوجود» بالوحدة الشخصیّة لا الوحدة السنخیّة؛ فإنّ‏‎ ‎‏الوجودات لیست عند المحقّقین منهم متباینات‏‎[5]‎‏. ومن العلوم ماهو موضوعه الکلّ،‏‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 30
‏کعلم الجغرافیا، ولایکون کلّیاً.‏

‏ثمّ إنّ کثیراً من مسائل العلوم، خارجة عن العوارض الذاتیّة، سواء فسّرناها‏‎ ‎‏بما اعتقده القدماء‏‎[6]‎‏، أو بما علیه المتأخّرون، کصدر المتألهین‏‎[7]‎‏ وتلامیذه‏‎[8]‎‏؛ بداهة‏‎ ‎‏أنّ مسائل الجغرافیا وأشباهها، لیست من العوارض الذاتیّة لموضوعها؛ وهی‏‎ ‎‏«الأرض».‏

‏وهکذا فی علم الفقه، فإنّ مباحث الإرث والنجاسات والطهارات وسائر‏‎ ‎‏الأحکام الوضعیّة ـ کالضمانات وغیرها ـ لیست من العوارض لفعل المکلّف.‏

‏وهکذا فی علم الفلسفة، فإنّ مباحث الماهیّات، بل والبحث عن نفس‏‎ ‎‏الموضوع فیها ـ وهو من أهمّ المسائل فی العلم الإلهیّ بالمعنی الأعمّ ـ خارج عن‏‎ ‎‏تلک العوارض. وهکذا مسائل المعاد والجنّة والنار، وغیر ذلک من مباحث علم‏‎ ‎‏النفس وشؤونها.‏

‏بل القضایا السالبة المعمول بها فی جمیع العلوم، تکون خارجة عنها؛ لأنّ‏‎ ‎‏التحقیق أنّ المسلوب فیها الربط، لا أنّ السلب فیها مربوط، فهی صادقة بانتفاء‏‎ ‎‏الموضوع، فکیف تکون من عوارض الموضوع؟!‏

مثلاً :‏ فی الفصل المنعقد لأحکام الوجود یعقد باب «أنّه لیس بجوهر، ولا‏‎ ‎‏عرض، ولیس بمرکّب...» وهکذا، وهذه المسائل من الفلسفة، مع أنّها صادقة بلا‏‎ ‎‏استلزام لوجود الموضوع، کما هو الظاهر.‏

أقول :‏ ما أفاده ـ دام ظلّه ـ لایورث إلاّ عدم الحاجة إلیٰ بیان الموضوع،‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 31
‏وعدم تمامیّة ما أفاده القوم لموضوع العلم، فعلیه لا برهان علیٰ عدم الموضوع وإن‏‎ ‎‏صرّح فی آخر کلامه بذلک، ولکنّه غیر مبرهن فیما قرّره المقرّر‏‎[9]‎‏.‏

والذی هو التحقیق :‏ أنّ مسائل کلّ علم مرتبطة ومتسانخة بعضها مع بعض،‏‎ ‎‏وفیها ـ کما أقرّ به ـ سنخیّة وخصوصیّة کامنة فی نفسها‏‎[10]‎‏.‏

‏مع أنّا إذا راجعنا مثلاً مسائل علم النحو، نجد أنّ بعضاً منها مع بعض متّحد‏‎ ‎‏فی الموضوع، فیقال: «المبتدأ مرفوع» و «المبتدأ لابدّ وأن یکون معرَّفاً» وبعضها‏‎ ‎‏متّحد مع البعض فی المحمول، کما یقال: «الحال منصوب» و «التمییز منصوب»‏‎ ‎‏وبعضها مختلف مع البعض فی الموضوع والمحمول، والنسبة فرعهما، کما یقال:‏‎ ‎‏«الفاعل مرفوع» و«المفعول منصوب».‏

‏وهکذا فی الفلسفة تختلف المسائل کثیراً مع الاُخریات منها فی الموضوع‏‎ ‎‏والمحمول.‏

‏فإذا کان الأمر کذلک فی تلک الخصوصیّة الکامنة فی نفس تلک المسائل‏‎ ‎‏المختلفة، حتّیٰ تکون المتشتّتات مرتبطة بها، وتکون هی کالخیط الداخل فیها‏‎ ‎‏والرابط بینها، فعندئذٍ لابدّ من الإقرار بوجود الجهة الجامعة بینها، وتکون المسائل‏‎ ‎‏واردة حولها، ومتعرّضة لما یرتبط بها، ویتسانخ معها، المعبّر عنها بـ «موضوع العلم»‏‎ ‎‏والفنّ المتصدّی له متکفّل بطرح تلک القضایا والمسائل، حتّیٰ یترتّب الغایة والغرض‏‎ ‎‏المقصود فی تحریرها وتنظیمها علیها، بعد الاطّلاع علیها، والغور فیها.‏

فبالجملة :‏ عدم إمکان تصحیح تعریف القوم لموضوع العلم، وعدم إمکان‏‎ ‎‏تطبیق ما أفادوه فی ذلک علی المسائل المطروحة فی العلم، لایؤدّی إلیٰ إنکار تلک‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 32
‏الجهة الکامنة المصرّح بها فی کلامه ـ مدّظلّه ‏‎[11]‎‏ التی هی الموضوع حقیقة.‏

‏وما عرفت من الشواهد فبعض منها لا شهادة لها، وبعض منها خلط بین‏‎ ‎‏موضوع العلم ووحدة العلم :‏

‏أمّا کلام المعلّم الأوّل، فهو لایشهد علیٰ أنّ القضایا الواصلة إلینا غیر‏‎ ‎‏متسانخة حتّیٰ لایکون لها الموضوع.‏

‏وتوهّم لزوم اطلاع الباحث علی الموضوع بخصوصیّته‏‎[12]‎‏ فاسد؛ ضرورة أنّ‏‎ ‎‏المتعلّمین یشتغلون فی أثناء المباحث بمسائل العلم، من غیر الاطلاع التفصیلیّ‏‎ ‎‏علی الموضوع، فلو جعل الإنسان «الوجود» مثلاً موضوعاً للعلم، ولایکون مطّلعاً‏‎ ‎‏علیٰ جمیع مسائله فما صنع قبیحاً، بل یحوّل العلم بعد إبداعه إلی الخلف الصالح‏‎ ‎‏بعده، ویصیر علماً کاملاً، فجهالة المتعلّمین بالموضوع تفصیلاً، لا تورث انتفاء‏‎ ‎‏الموضوع واقعاً.‏

‏وأمّا خلوّ الکتب العصریّة عن ذلک، فهو أیضاً لایشهد علی العدم؛ لأنّهم فی‏‎ ‎‏موقف طرح المسائل النافعة، دون مطلق المسائل؛ فإنّه دأب فضلائنا، فإنّهم لایبالون‏‎ ‎‏به، ویطرحون کلّ ما فیه نفع ولو کان لتشحیذ الأذهان.‏

‏وأمّا تشعّب العلم الواحد إلی العلوم الکثیرة کالطبّ، أو رجوع العلوم الکثیرة‏‎ ‎‏إلی العلم الواحد، کالجغرافیا بناءً علیٰ کون «المملکة فی ابتداء نشوئها» هی‏‎ ‎‏موضوعها، لا الأرض بأقالیمها الخمسة، فهو لایدلّ علیٰ ما قصده، بل هو دلیل أنّ‏‎ ‎‏وحدة العلم لیست واقعیّة بالواقع المحفوظ، بل لها الواقعیّة بالواقع المتبدّل حسب‏

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 33
‏اختلاف الأزمان والموجبات الموجودة فیها، کما سیأتی تفصیله‏‎[13]‎‏.‏

‏فعلیٰ ما تقرّر إلیٰ هنا، تبیّن لک لابدّیة الجهة الجامعة بین المسائل،‏‎ ‎‏والموضوع الوحدانیّ والفردانیّ بین القضایا المستعملة فی العلم.‏

‏وأمّا التمسّک بقاعدة امتناع صدور الواحد من الکثیر لإیجاب الموضوع فی‏‎ ‎‏العلم‏‎[14]‎‏، فهو لایخلو من غرابة، ولعمری إنّ أرباب العلوم، لابدّ لهم من مراعاة‏‎ ‎‏الاحتیاط فی التدخّل فیما لیسوا أهلاً له، فلاتغفل.‏

‎ ‎

کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 34

  • )) الشفاء ،قسم المنطق 3 : 150 ، شروح الشمسیّة 1 : 150 ـ 160، الفصول الغرویّة : 10، کفایة الاُصول : 21 .
  • )) تهذیب الاُصول 1 : 1 ـ 3 .
  • )) هذه العبارة قد تکرّرت فی الکتب نقلاً عن منطق الشفاء، وهو مضمون کلام الشیخ ، لاحظ الشفاء 4 : 110 ـ 115 وأیضاً شرح حکمة الإشراق ، قطب الدین الشیرازی : 21 .
  • )) الفصول الغرویّة : 10 ـ 12، کفایة الاُصول : 21 ، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) ، الکاظمی 1 : 20 ـ 22، .
  • )) الحکمة المتعالیة 1 : 35 ـ 37 ، شرح المنظومة ، قسم الحکمة 1 : 32 ـ 37 .
  • )) شروح الشمسیّة 1 : 150 ، شرح المطالع : 18 ، القواعد الجلیّة : 188 ، الشواهد الربوبیّة : 19 ، شرح المنظومة ، قسم المنطق : 6 ـ 7 .
  • )) الحکمة المتعالیة 1 : 30 ـ 32 .
  • )) شوارق الإلهام 1 : 5 ـ 6 . ومن تلامیذ مکتبه الحکیم السبزواری فی حاشیته علی الحکمة المتعالیة 1 : 32، الهامش1 .
  • )) تهذیب الاُصول 1 : 4 .
  • )) تهذیب الاُصول 1 : 1 .
  • )) نفس المصدر .
  • )) شرح المطالع : 18 ، شروح الشمسیّة 1 : 150 ـ 160، شوارق الإلهام : 3 / السطر4 و6 / السطر7.
  • )) یأتی فی الصفحة 43 ـ 44 .
  • )) حاشیة کفایة الاُصول ، القوچانی 1 : 2 ، الهامش 1، ولاحظ أیضاً حاشیة کفایة الاُصول، المشکینی 1 : 48 .