الناحیة الاُولیٰ أصل الحاجة إلی الموضوع فی الـعلـوم الحقیـقیّـة أو الاعتبـاریّـة
وقد اشتهر هذا بین أبناء التحقیق، وصار ذلک من الأصل المسلّم والأمر المفروغ عنه؛ وأنّ لکلّ فنّ وعلم موضوعاً یمتاز العلم به عن الآخر، ویکون هو مورد البحث بأحواله وأطواره وخصوصیّاته وآثاره وأحکامه.
وقد خالفهم الوالد المحقّق ـ مدّظلّه بإنکاره علیهم أشدّ الإنکار، ذاکراً أنّ العلوم ما کانت فی عصر التدوین إلاّ عدّة قضایا متشتّتة، تجمعها خصوصیّة کامنة فی نفس المسائل، بها امتازت عن سائر العلوم، ولم یعهد من أرباب التألیف والتصنیف، ذکر الموضوع الواحد بالعنوان الخاصّ حتّیٰ یکون موضوع العلم.
ویشهد لما أفاده : ما حکی عن المعلّم الأوّل: «من أنّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا فی الأقیسة إلاّ ضوابط غیر مفصّلة، وأمّا تفصیلها وإفراد کلّ قیاس بشروطه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 29
وضروبه، فهو أمر کددنا فیه أنفسنا، وأسهرنا أعیننا، حتّی استقام علیٰ هذا الأمر، فإن وقع لأحد ممّن یأتی بعدنا زیادة أو إصلاح فلیصلحه، أو خلل فلیسدّه» انتهیٰ.
وأیضاً یشهد له : خلوّ الکتب المدوّنة فی العلوم العصریّة عن ذکر الموضوع علیٰ حِدة، بل العلم عبارة عن عدّة مسائل مرتبطة.
وممّا یشهد له : أنّ کثرة المسائل وتراکم المباحث، تورث تکثّر العلم الواحد إلی العلوم الکثیرة، فیکون بدن الإنسان الذی کان موضوعاً للعلم الواحد، موضوعاتٍ للعلوم المختلفة، ویتخرّج من کلّ جامعة متخصّص فی المسائل المرتبطة بعضو دون عضو؛ بحیث تکون تلک المسائل المتسانخة معها فی العصر الأوّل، متخالفة بعضها مع بعض فی العصور المتأخّرة.
وهذا أعظم شاهد علیٰ أنّ الموضوع للعلم غیر محتاج إلیه، فلا وجه لما ارتکبه القوم فی المقام، فلیتدبّر؛ فإنّه مزالّ الأقدام.
ثمّ إنّ الذی یلجئه إلی الإنکار المزبور؛ عدم إمکان تصویر الموضوع بالمعنی المعروف بینهم: «من أنّه ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة. ونسبة الموضوع إلیٰ موضوع المسائل نسبة الکلّی إلیٰ مصادیقه، والطبیعیّ إلیٰ أفراده» ضرورة أنّ من العلوم ماهو المتّحد موضوع علمه ومسألته ذاتاً وعنواناً، کعلم العرفان، بل والفلسفة العلیا؛ لأنّ موضوعه «الوجود» بالوحدة الشخصیّة لا الوحدة السنخیّة؛ فإنّ الوجودات لیست عند المحقّقین منهم متباینات. ومن العلوم ماهو موضوعه الکلّ،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 30
کعلم الجغرافیا، ولایکون کلّیاً.
ثمّ إنّ کثیراً من مسائل العلوم، خارجة عن العوارض الذاتیّة، سواء فسّرناها بما اعتقده القدماء، أو بما علیه المتأخّرون، کصدر المتألهین وتلامیذه؛ بداهة أنّ مسائل الجغرافیا وأشباهها، لیست من العوارض الذاتیّة لموضوعها؛ وهی «الأرض».
وهکذا فی علم الفقه، فإنّ مباحث الإرث والنجاسات والطهارات وسائر الأحکام الوضعیّة ـ کالضمانات وغیرها ـ لیست من العوارض لفعل المکلّف.
وهکذا فی علم الفلسفة، فإنّ مباحث الماهیّات، بل والبحث عن نفس الموضوع فیها ـ وهو من أهمّ المسائل فی العلم الإلهیّ بالمعنی الأعمّ ـ خارج عن تلک العوارض. وهکذا مسائل المعاد والجنّة والنار، وغیر ذلک من مباحث علم النفس وشؤونها.
بل القضایا السالبة المعمول بها فی جمیع العلوم، تکون خارجة عنها؛ لأنّ التحقیق أنّ المسلوب فیها الربط، لا أنّ السلب فیها مربوط، فهی صادقة بانتفاء الموضوع، فکیف تکون من عوارض الموضوع؟!
مثلاً : فی الفصل المنعقد لأحکام الوجود یعقد باب «أنّه لیس بجوهر، ولا عرض، ولیس بمرکّب...» وهکذا، وهذه المسائل من الفلسفة، مع أنّها صادقة بلا استلزام لوجود الموضوع، کما هو الظاهر.
أقول : ما أفاده ـ دام ظلّه ـ لایورث إلاّ عدم الحاجة إلیٰ بیان الموضوع،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 31
وعدم تمامیّة ما أفاده القوم لموضوع العلم، فعلیه لا برهان علیٰ عدم الموضوع وإن صرّح فی آخر کلامه بذلک، ولکنّه غیر مبرهن فیما قرّره المقرّر.
والذی هو التحقیق : أنّ مسائل کلّ علم مرتبطة ومتسانخة بعضها مع بعض، وفیها ـ کما أقرّ به ـ سنخیّة وخصوصیّة کامنة فی نفسها.
مع أنّا إذا راجعنا مثلاً مسائل علم النحو، نجد أنّ بعضاً منها مع بعض متّحد فی الموضوع، فیقال: «المبتدأ مرفوع» و «المبتدأ لابدّ وأن یکون معرَّفاً» وبعضها متّحد مع البعض فی المحمول، کما یقال: «الحال منصوب» و «التمییز منصوب» وبعضها مختلف مع البعض فی الموضوع والمحمول، والنسبة فرعهما، کما یقال: «الفاعل مرفوع» و«المفعول منصوب».
وهکذا فی الفلسفة تختلف المسائل کثیراً مع الاُخریات منها فی الموضوع والمحمول.
فإذا کان الأمر کذلک فی تلک الخصوصیّة الکامنة فی نفس تلک المسائل المختلفة، حتّیٰ تکون المتشتّتات مرتبطة بها، وتکون هی کالخیط الداخل فیها والرابط بینها، فعندئذٍ لابدّ من الإقرار بوجود الجهة الجامعة بینها، وتکون المسائل واردة حولها، ومتعرّضة لما یرتبط بها، ویتسانخ معها، المعبّر عنها بـ «موضوع العلم» والفنّ المتصدّی له متکفّل بطرح تلک القضایا والمسائل، حتّیٰ یترتّب الغایة والغرض المقصود فی تحریرها وتنظیمها علیها، بعد الاطّلاع علیها، والغور فیها.
فبالجملة : عدم إمکان تصحیح تعریف القوم لموضوع العلم، وعدم إمکان تطبیق ما أفادوه فی ذلک علی المسائل المطروحة فی العلم، لایؤدّی إلیٰ إنکار تلک
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 32
الجهة الکامنة المصرّح بها فی کلامه ـ مدّظلّه التی هی الموضوع حقیقة.
وما عرفت من الشواهد فبعض منها لا شهادة لها، وبعض منها خلط بین موضوع العلم ووحدة العلم :
أمّا کلام المعلّم الأوّل، فهو لایشهد علیٰ أنّ القضایا الواصلة إلینا غیر متسانخة حتّیٰ لایکون لها الموضوع.
وتوهّم لزوم اطلاع الباحث علی الموضوع بخصوصیّته فاسد؛ ضرورة أنّ المتعلّمین یشتغلون فی أثناء المباحث بمسائل العلم، من غیر الاطلاع التفصیلیّ علی الموضوع، فلو جعل الإنسان «الوجود» مثلاً موضوعاً للعلم، ولایکون مطّلعاً علیٰ جمیع مسائله فما صنع قبیحاً، بل یحوّل العلم بعد إبداعه إلی الخلف الصالح بعده، ویصیر علماً کاملاً، فجهالة المتعلّمین بالموضوع تفصیلاً، لا تورث انتفاء الموضوع واقعاً.
وأمّا خلوّ الکتب العصریّة عن ذلک، فهو أیضاً لایشهد علی العدم؛ لأنّهم فی موقف طرح المسائل النافعة، دون مطلق المسائل؛ فإنّه دأب فضلائنا، فإنّهم لایبالون به، ویطرحون کلّ ما فیه نفع ولو کان لتشحیذ الأذهان.
وأمّا تشعّب العلم الواحد إلی العلوم الکثیرة کالطبّ، أو رجوع العلوم الکثیرة إلی العلم الواحد، کالجغرافیا بناءً علیٰ کون «المملکة فی ابتداء نشوئها» هی موضوعها، لا الأرض بأقالیمها الخمسة، فهو لایدلّ علیٰ ما قصده، بل هو دلیل أنّ وحدة العلم لیست واقعیّة بالواقع المحفوظ، بل لها الواقعیّة بالواقع المتبدّل حسب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 33
اختلاف الأزمان والموجبات الموجودة فیها، کما سیأتی تفصیله.
فعلیٰ ما تقرّر إلیٰ هنا، تبیّن لک لابدّیة الجهة الجامعة بین المسائل، والموضوع الوحدانیّ والفردانیّ بین القضایا المستعملة فی العلم.
وأمّا التمسّک بقاعدة امتناع صدور الواحد من الکثیر لإیجاب الموضوع فی العلم، فهو لایخلو من غرابة، ولعمری إنّ أرباب العلوم، لابدّ لهم من مراعاة الاحتیاط فی التدخّل فیما لیسوا أهلاً له، فلاتغفل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. ۱)صفحه 34