الفصل الرابع هل التخییر بدویّ أو استمراریّ؟
بعد البناء علیٰ تخییر العامّی فی الرجوع إلی مجتهدین متساویین، هل یجوز له العدول بعد تقلید أحدهما؟
اختار شیخنا العلاّمة التفصیل بین العدول فی شخص واقعة بعد الأخذ والعمل فیه، کما لو صلّیٰ بلا سورة بفتویٰ أحدهما، فأراد تکرار الصلاة مع السورة بفتوی الآخر، وبین العدول فی الوقائع المستقبلة التی لم تعمل، أو العدول قبل العمل بعد الالتزام والأخذ.
فذهب إلی عدم الجواز مطلقاً فی الأوّل، وعدم الجواز فی الأخیرین إن قلنا: بأنّ التقلید هو الالتزام والأخذ، والجواز إن قلنا: بأنّه نفس العمل مستنداً
کتابالاجتهاد و التقلیدصفحه 151
إلی الفتویٰ.
ووجّهه فی الأوّل: بأنّه لا مجال له للعدول بعد العمل بالواجب المخیّر؛ لعدم إمکان تکرار صِرْف الوجود، وامتناع تحصیل الحاصل، ولیس کلّ زمان قیداً للأخذ بالفتویٰ، حتّیٰ یقال: إنّه لیس باعتبار الزمان المتأخّر تحصیلاً للحاصل، بل الأخذ بالمضمون أمر واحد ممتدّ، یکون الزمان ظرفاً له بحسب الأدلّة.
نعم، یمکن إفادة التخییر فی الأزمنة المتأخّرة بدلیل آخر، یفید التخییر فی الاستدامة علی العمل الموجود، ورفع الید عنه والأخذ بالآخر، وإذ هو لیس فلیس.
وإفادته بأدلّة التخییر فی إحداث الأخذ بهذا أو ذاک ممتنع؛ للزوم الجمع بین لحاظین متنافیین، نظیر الجمع بین الاستصحاب والقاعدة بدلیل واحد.
ولا یجری الاستصحاب؛ لأنّ التخییر بین الإحداثین، غیر ممکن الجرّ إلی الزمان الثانی، وبالنحو الثانی لا حالة سابقة له، والاستصحاب التعلیقیّ لفتوی الآخر غیر جارٍ؛ لأنّ الحجّیة المبهمة السابقة، صارت معیّنة فی المأخوذ، وزالت قطعاً، کالملکیّة المشاعة إذا صارت مفروزة.
ووجه الأخیرین هذا البیان بعینه إن قلنا: إنّ المأموربه فی مثل قوله: (فارجعوا فیها إلی رواة أحادیثنا) وغیره، هو العمل الجوانحیّ؛ أی الالتزام
کتابالاجتهاد و التقلیدصفحه 152
والبناء القلبیّ.
وإن قلنا: بأنّه العمل، فلا إشکال فی بقاء الأمر التخییریّ فی کلا القسمین بلا محذور، ومع فقد الإطلاق لا مانع من الاستصحاب، انتهیٰ ملخّصاً من تقریر بحثه.
أقول: ما یمکن البحث عنه فی الصورة الاُولیٰ، هو جواز تکرار العمل بعد الإتیان به مطابقاً لفتوی الأوّل، وأمّا البحث عن بقاء التخییر، وکذا جواز العدول بعنوانهما، فأمر غیر صحیح؛ ضرورة أنّ التخییر بین الإتیان بما أتیٰ به، والعمل بقول الآخر، ممّا لا معنی له، وطرح العمل الأوّل وإعدامه غیر معقول بعد الوجود، حتّیٰ یتحقّق ثانیاً موضوع التخییر، وکذا لایعقل العدول بحقیقته بعد العمل، فلابدّ وأن یکون البحث ممحّضاً فی جواز العمل بقول الثانی بعد العمل بقول الأوّل.
قد یقال: بعدم الجواز؛ لأنّ الإتیان بأحد شقّی الواجب التخییریّ، موجب لسقوط التکلیف جزماً، فالإتیان بعده ـ بداعویّة الأمر الأوّل، أو باحتمال داعویّته، أو بداعویّة المحتمل ـ غیر معقول.
ومع العلم بالسقوط لا معنیٰ لإجراء الاستصحاب: لا استصحاب الواجب التخییریّ، وهو واضح، ولا جواز العمل علی طبق الثانی؛ لفرض عدم احتمال أمر آخر غیر التخییریّ الساقط، وکأنّ الظاهر من تقریرات بحث شیخنا ذلک.
کتابالاجتهاد و التقلیدصفحه 153
وفیه: أنّ ذلک ناشئ من الخلط بین التخییر فی المسألة الفرعیّة، والمسألة الاُصولیّة، فإنّ ما ذکر وجیه فی الأوّل، دون الثانیّ؛ لأنّ الأمر التخییریّ فی الثانی لا نفسیّة له، بل لتحصیل الواقع ـ بحسب الإمکان ـ بعد عدم الإلزام بالاحتیاط، فمع الإتیان بأحد شقّی التخییر فیه، یبقیٰ للعمل بالآخر مجال واسع وإن لم یکن المکلّف ملزماً به؛ تخفیفاً علیه.
نعم لو قلنا: بحرمة الاحتیاط، أو بالإجزاء فی باب الطرق ولو مع عدم المطابقة، لکان الوجه ما ذکر، لکنّهما خلاف التحقیق.
وبهذا یظهر: أنّ استصحاب جواز الإتیان بما لم یأتِ به، لا مانع منه لو شکّ فیه.
نعم، لایجری الاستصحاب التعلیقی؛ لأنّ التعلیق لیس بشرعیّ.
وأمّا الصورتان الأخیرتان، بناءً علی کون التقلید الالتزام والعقد القلبیّ، فقیاسهما علی الصورة الاُولیٰ مع الفارق؛ لإمکان إبطال الموضوع وإعدامه بالرجوع عن الالتزام وعقد القلب، فصار حینئذٍ موضوعاً للأمر بإحداث الأخذ بأحدهما، من غیر ورود الإشکال المتقدّم ـ أی لزوم الجمع بین اللحاظین ـ علیه، ولیس الکلام هاهنا فی إطلاق الدلیل وإهماله، بل فی إمکانه بعد الفراغ عن فرض الإطلاق.
ومّما ذکرنا یظهر: أنّ ما أفاده رحمه الله؛ من أنّ الالتزام وعقد القلب أمر وجدانیّ
کتابالاجتهاد و التقلیدصفحه 154
ممتدّ، إذا حصل فی زمان لایعقل حدوثه ثانیاً، غیر وجیه؛ لأنّ الالتزام بعد انعدام الالتزام الأوّل، إحداث لا إبقاء؛ لامتناع إعادة المعدوم.
هذا مع قطع النظر عن حال الأدلّة إثباتاً، وإلاّ فقد مرّ: أنّه لادلیل لفظیّ فی باب التقلید یمکن الاتکال علیه ـ فضلاً عن الإطلاق ـ بالنسبة إلی حال التعارض بین فتویین.
وإنّما قلنا: بالتخییر؛ للشهرة والإجماع المنقولین. وهما معتبران فی مثل تلک المسألة المخالفة للقواعد، والمتیقّن منهما هو التخییر الابتدائیّ؛ أی التخییر قبل الالتزام.
والتحقیق: عدم جریان استصحاب التخییر ولا الجواز؛ لاختلاف التخییر الابتدائیّ والاستمراریّ موضوعاً وجعلاً، فلا یجری استصحاب شخص الحکم، وکذا استصحاب الکلی؛ لفقدان الأرکان فی الأوّل، ولکون الجامع أمراً انتزاعیّاً، لا حکماً شرعیّاً، ولاموضوعاً ذا أثر شرعیّ، وترتیب أثر المصداق علی استصحاب الجامع مثبت، ولافرق فی ذلک بین استصحاب جامع التخییرین، أو جامع الجوازین الآتیین من قبلهما.
کتابالاجتهاد و التقلیدصفحه 155
کتابالاجتهاد و التقلیدصفحه 156