حرمة الکذب فی الجملة من الضروریات ماهیة الصدق والکذب
المسألة الخامسة: فی الکذب. وقد اختلفوا فی ماهیّة الصدق والکذب. والمشهور أنّ الأوّل مطابقة الخبر للواقع، والثانی مخالفته له.
وقد یقال: إنّ الأوّل مطابقة الحکم للواقع، والثانی مخالفته له، وأنّ رجوع الصدق والکذب إلی الحکم أوّلاً وبالذات، وإلی الخبر ثانیاً وبالواسطة.
قال به التفتازانی. وهذا بوجه نظیر قول من قال: «إنّ الألفاظ موضوعة للمعانی المرادة» إن کان مراد التفتازانی بالحکم الإدراک الذهنی والحکم النفسی وسیجیء الاحتمالات فی کلامه.
أقول: لا شبهة فی أنّ الکلام بنفسه مع قطع النظر عن صدوره من متکلّم مرید دالّ علی المعنی. فلو نقشت بواسطة الحوادث الکونیّة کلمة: «السماء فوقنا»، و«السماء تحتنا» فلا یمکن أن یقال: إنّا لا نفهم منهما شیئاً أصلاً، أو هما لا یحکیان عن مدلولهما، أو یقال: إنّ المدلول منهما شیء واحد، أو إنّ مدلولهما لیس موافقاً
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 48
و لا مخالفاً للواقع. فعلیه تکون الجملة الاُولیٰ صادقة، والثانیة کاذبة.
وتوهّم أنّ ما یحکیان عنه لیس بنحو الدلالة، بل بنحو الخطور لاُنس الذهن، خلاف الوجدان. وهو أصدق شاهد علی عدم الفرق فی الدلالة بین الکلام الصادر من متکلّم شاعر وبین الصادر من غیره.
فبطل القول بأنّ الألفاظ موضوعة للمعانی المرادة، أو الوضع عبارة عن التعهّد بإرادة المعنی من اللفظ، أو أنّ الدلالة عبارة عن إبراز ما فی الضمیر وما فیه حاک عن الواقع.
مضافاً إلی أنّ الکلام الصادر من المتکلّم لا یحکی إلاّ عن الواقع ونفس الأمر مستقیماً، من غیر دلالة علی المعانی الذهنیّة وصورها، وهو وجدانیّ جدّاً. فیکون الصدق والکذب من صفات الخبر أوّلاً وبالذات، وإنّما یتّصف المتکلّم بکونه صادقاً أو کاذباً لأجل إخباره. فلا محالة تکون سعة اتّصافه بالصادق والکاذب تابعة لإخباره، لعدم إمکان أن یکون الخبر صادقاً وقد أخبر به المتکلّم ومع ذلک لا یکون صادقاً، وکذا فی الکذب.
لکن تری فی العرف والعادة عدم إطلاق الکاذب علی الخاطئ والمشتبه، فلا یقال لمن صنّف کتاباً مشتملاً علی أحکام اجتهادیة مخالفة للواقع: «إنّه کاذب»، ولا لمن أخبر بإعطاء شیء لزید غداً فمنعه مانع عنه: «إنّه کذب وإن کان معذوراً».
وبالجملة إنّ العرف یطلقون علی مثله الخطاء والاشتباه أو نحوهما، ولا یقال:
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 49
«إنّه کاذب» أو «کذب فلان». ولازم ذلک أن یکون أمثال ذلک خارجة عن الصدق والکذب بالمعنی المصدریّ، وإن لم تخرج عن أحدهما بمعنی حاصل المصدر أی نفس الکلام.
ویظهر من المنجد دخالة الاعتقاد فیه، قال: «کذب، ضدّ صدق: أخبر عن الشیء بخلاف ما هو مع العلم به».
ثمّ إنّ ما ذکرناه غیر مقالة النظّام، فإنّه لم یفرّق بین الکلام والمتکلّم، أی بین الصدق والکذب وبین الصادق والکاذب، بل الظاهر عدم التزام أحد به.
ویمکن أن یقال: إنّ عدم انتساب إلی المفتی بالأحکام المخالفة للواقع، وکذا غیره المخبر بمقالة کاذبة مع اعتقاده صدقها، وأمثال ذلک، إنّما نشأ من أدب العشرة واحتراز الناس عن استعمال لفظ یشعر بالذم أو یدلّ علیه، وانتسابه إلی غیره ولو مع إرادة خلاف ظاهره وإقامة قرینة علیه. والظاهر من قوله: «کذب فلان» أو «هو کاذب فی مقالاته» أ نّه کذب عمداً، ولا أقلّ من إشعاره بذلک، وهو نحو إهانة بالطرف أو خلاف أدب.
بل قد یکون سلب انتساب بعض القبائح موجباً للهتک والإهانة، فیحترز الناس عنه، فإنّ فی السلب أیضاً إشعاراً بالذم، فلا یقال للرجل الشریف: «إنّه لیس بسارق ولا زان».
فعدم انتساب الکذب، للاحتراز عن الإهانة. ولهذا نری احترازهم عن ذلک مختلفاً باختلاف عظمة الطرف، فاستعمل الخطاء والاشتباه ونحوهما مکانه وشاع الاستعمال فصار منشأ لتوهّم عدم الصدق، وإلاّ فلا ینبغی الإشکال فی
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 50
صدق الکاذب علی من أخبر بکلام مخالف للواقع.
وإنّما یختصّ ما ذکرناه بالکلام والأقوال دون الأفعال، فیقال لمن شرب الخمر خطاء: إنّه شربها،وهکذا. فلعلّه لکثرة الابتلاء بالأقوال المخالفة للواقع خطاء، فإنّ الکتب ملؤ من ذلک، فصارت کثرة استعمال الخطاء ونحوه منشأ لذلک، بخلاف الاشتباه فی الأفعال، فإنّ الابتلاء بها قلیل فی موارد الاستعمال، فتدبّر.
کلام التفتازانی فی المقام وما فیه من المناقشة
ثمّ إنّ التفتازانی فسّر قول صاحب التلخیص: «صدق الخبر مطابقته للواقع» بمطابقة حکمه.
فلا یخلو مراده منه عن أن یکون إمّا الحکم النفسانی والإدراک بأنّ هذا ذاک أو غیره، أو الإدراک بوقوع النسبة أو لا وقوعها. کما یؤیّده قوله بعد ذلک ـ فی مقام الجواب عن الإشکال بأنّ القضیّة المشکوک فیها لیست متّصفة بصدق ولا کذب لعدم الحکم فیها ـ: «إنّ الحکم بمعنی إدراک وقوع النسبة أو لا وقوعها، وحکم الذهن بشیء من النفی والإثبات وإن لم یتحقّق لکن إذا تلفّظ بالجملة الخبریّة مع الشکّ، بل مع القطع بالخلاف، فکلامه خبر لا محالة». انتهی ملخّصاً.
فیکون حاصل مراده أنّ إدراک النفس وحکمها بأنّ هذا ذاک، أو إدراکه بوقوع النسبة أو لا وقوعها متّصف بالکذب أوّلاً وبالذات، ولأجله یتّصف الخبر به.
وفیه ما لایخفی، فإنّ لازمه أنّ المخبر بقوله: «السماء تحتنا» مع اعتقاده بأ نّها فوقنا لا یکون صادقاً ولا کاذباً، ولا مقالته صدقاً ولا کذباً، لأنّ اعتقاده وإدراکه
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 51
موافق للواقع، وإخباره مخالف له ولاعتقاده، فلا یکون إخباره صادقاً لمخالفته لهما، ولا کاذباً لأنّ موصوفیّة الکلام بالکذب علی هذا المبنی یکون ثانیاً وبواسطة الإدراک النفسانی المخالف للواقع، ولیس الأمر کذلک هاهنا، فتدبّر.
أو کان مراده من الحکم إیقاع المتکلّم وجعله الخبر للمبتدأ.
وفیه أنّ هذا فعل المتکلّم ولیس له محکی یطابقه أو لا یطابقه.
أو کان مراده منه النسبة الحکمیّة.
وهو مع کونه خلاف ظاهرهم مقدوح فیه بأنّ النسبة الحکمیّة التصوریّة لیس لها واقع محکی یطابقها أو لا یطابقها، والتصدیقیّة منها عین الخبر، فإنّه لیس إلاّ ما یحکی عن کون هذا ذاک أو هذا لذاک.
ولو کان مراده منه الحکم بالوقوع أو اللا وقوع.
یرد علیه ـ مضافاً إلی ما تقدّم ـ أنّ الحکم الکذائی مجرّداً عن متعلّقه لایتّصف بالصدق والکذب، بل لا تحقّق له، وباعتبار متعلّقه یتّصف ثانیاً وبالعرض بهما، لما عرفت من أنّ الجملة الخبریّة تدلّ علی مفادها ولو لم یصدر من متکلّم شاعر، فالحکم بالوقوع واللا وقوع لا دخالة له لاتّصافها بهما.
الکذب غیر متقوّم بالقول واللفظ
ثمّ إنّ الظاهر أنّ الکذب لا یتقوّم بالقول واللفظ، بمعنی کونه قولاً خارجاً من الفم معتمداً علی المخارج مخالفاً مضمونه للواقع، حتّی لا تکون الإشارة والکتابة بل المبالغات والکنایات والمجازات کذباً، فإنّ الإشارة والکتابة لیستا ألفاظاً، بل الاُولی فعل والثانیة نقش حاک عن الواقع.
وفی المبالغات وتالیتیها لم تستعمل الألفاظ فی المعانی الّتی یراد الإخبار بها
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 52
جدّاً، ولیست من قبیل استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له حتّی المجازات، علی ما هو التحقیق من أ نّها من قبیل الحقائق الادّعائیّة، لا کما ذکره السکّاکی فی الاستعارة، بل باستعمال اللفظ فی معناه الموضوع له وتطبیق المعنی علی المراد الجدّی ادّعاءً.
ففی مثل «زید أسد» استعمل لفظ الأسد فی معناه، وادّعی أنّ زیداً مصداق لماهیّة الأسد، فعلیه لا یکون قوله ذلک مع عدم شجاعة زید کذباً.
أ مّا بالنسبة إلی المفاد الاستعمالی فلعدم تعلّق الإرادة الجدّیة به، وسیأتی اعتباره فی الصدق والکذب لا الجدّ مقابل الهزل بل مقابل الاستعمال.
وأ مّا بالنسبة إلی المعنی المراد، أی الإخبار بالشجاعة، فلعدم التلفّظ به.
وأوضح منها الحال فی الکنایات والمبالغات.
ولا مطلق الإیصال إلی خلاف الواقع والإفهام له والدلالة علیه ـ حتّی یکون مثل نصب علامة الفرسخ علی ما دونه للدلالة علی الفرسخ، وإظهار الکلام جزماً لإفهام اعتقاده بمضمونه، والأذان قبل دخول الوقت للإعلام بدخوله، والمشی علی زیّ الأشراف والأغنیاء لإراءة خلاف ما هو علیه ـ کذباً، ولازمه أن یکون فی بعض الأحیان کذب واحد أکاذیب کثیرة، بل غیر محصورة، کمن أخبر بأنّ الیوم الکذائی جمعة، وکان سبتاً، فإنّ لازم کونه جمعة أن یکون بعده سبتاً،وبعد بعده أحداً، وهکذا، وقبله خمیساً، وقبل قبله أربعاء، وهکذا، والالتزام بها کما تری.
بل الظاهر أنّ الکذب بالمعنی المصدری عرفاً عبارة عن الإخبار المخالف للواقع، والإخبار لم ینحصر باللفظ والقول الخارج من الفم، بل یشمل الکتابة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 53
والإشارة ونحوهما عرفاً کما یطلق علی ما فی الصحف والمجلاّت والیومیّات.
وفی مثل المجازات وتالیتیها یکون المتکلّم مخبراً عن لازم کلامه لا عن مضمونه.
فالقائل بأنّ زیداً کثیر الرماد أخبر عن سخائه. فلو لم یکن زید سخیاً ولم یکن فی کلامه تأوّل آخر یکون المخبر کاذباً والخبر کذبا، وکذا فی النظائر.
وفی مثل جعل النصب دون الفراسخ إذا لم یکتب علیها أنّ هذا رأس الفرسخ لم یکن مجرّد الوضع إخباراً وکذباً عرفاً، والمؤذّن قبل الوقت لم یخبر بالوقت، والماشی علی غیر زیّه لم یخبر بشیء ولا یقال: إنّه أخبرنی بکذا، ولوازم المخبر عنه لیست بإخبار، بل الإخبار إنّما هو عن الملزوم، وهی لوازم المخبر عنه.
وما ذکرناه هو الموافق لفهم العرف. فعلیه لیس الإخبار أو الخبر عبارة عن القول أو اللفظ المحتمل للصدق والکذب بل أعمّ منه وممّا قام مقامه، لکن لا بنحو یشمل مطلق ماله حکایة.
ولعلّ السرّ فیه أنّ الصدق والکذب عبارة عن إلقاء الجملة الخبریّة لإفادة مضمونها أو لإفادة جملة اُخری.
فتندرج فیهما المجازات والمبالغات والکنایات إذا اُرید بها الإخبار،وکذا یدخل الکتابة، وإن احتمل فیها ما یأتی فی الإشارة، وهو أنّ الإشارة المستعملة مکان الجملة الإخباریّة کالإشارة بـ «نعم» و«لا» فی جواب هل زید قائم؟ فالظاهر أنّ إطلاق الصدق والکذب علیها باعتبار قیامها مقام القول عرفاً، بخلاف سائر الأفعال الحاکیة عن خلاف الواقع، فإنّها لیست من مقولة الأخبار والأقوال ولا نائباً منابها، بل لها دلالة مستقیمة علی الواقع فی مقابل الأخبار.
فأذان المؤذّن قبل الوقت لیس بکذب، لأنّ مقالته، أی فصوله بما أ نّها حاکیة
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 54
عن معانیها، لا تحکی عن دخول الوقت لا مطابقة ولا التزاماً، بل إیقاع هذا العمل کاشف عن دخول الوقت للتعارف والعادة.
ففرق بین الأعمال القائمة مقام الأقوال، وغیرها ممّا هی کاشفة عن واقع لزوماً.
وأ مّا لوازم المخبر به فی المثال المتقدّم، أی الإخبار بأنّ هذا یوم السبت، فلا یقال فیها: إنّه أخبر باُمور غیر محصورة لأ نّه لم یخبر إلاّ عن یوم السبت ، واللوازم المذکورة لوازم المخبر عنه الوحدانی. ففی قوله: زید طویل النجاد، إخبار عن طول قامته أو شجاعته، لا عن طول النجاد، بخلاف قوله: هذا یوم السبت، فإنّه إخبار عن مضمونه، لا عن الأیّام الاُخر.
هل یتوقّف الکذب علی إفهام مخاطب أم لا؟
ثمّ إنّ الکذب هل یتقوّم علی إفهام الغیر مضمون الجملة، فلا یقال للجملة الّتی لا مخاطب لها: إنّها صدق أو کذب، أو لا یتوقّف إلاّ علی صدور الجملة المخالفة للواقع من المتکلّم؟
یمکن أن یقال: إنّ الصدق والکذب متفرّعان علی الحکایة عن الواقع، والحکایة فرع الدلالة أو هی هی، ومعنی الدلالة الفعلیة علی شیء کون الکلام هادیاً ومرشداً إلی الواقع أو إلی مفاد الجملة المنطبق علیه، والدلالة الفعلیّة بما أ نّها من الاُمور الإضافیّة تحتاج إلی الأطراف من الدالّ والمدلول والمدلول علیه، فلا یتّصف الکلام بالدلالة الفعلیّة إلاّ إذا کان عند المتکلّم مخاطب مهدی بکلامه بالفعل إلی مضمون الجملة الحاکیة عن الواقع، ومع فقد المهدی بالفعل لا تکون الدلالة والهدایة فعلیّة، لأنّ المتضایفین متکافئان قوّة وفعلاً، بل یکون الکلام دالاً اقتضاءً، أی له اقتضاء الدلالة لا فعلیتها، ولیس المتکلّم مهدیّاً وهادیاً باعتبارین،
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 55
لأنّ کلامه لیس هادیاً له إلی الواقع أو إلی مدلوله التصدیقی.
ویؤیّد ذلک ما قال المحقّق الطوسی ـ رحمه اللّٰه ـ بلفظه: «دلالة اللفظ لمّا کانت وضعیّة کانت متعلّقة بإرادة المتلفّظ، الجاریة علی قانون الوضع، فما یتلفّظ به ویراد به معنی مّا ویفهم عنه ذلک المعنی یقال: إنّه دالّ علی ذلک المعنی».
وقول شارح حکمة الإشراق: «فالدلالة الوضعیّة تتعلّق بإرادة اللافظ، الجاریة علی قانون الوضع. حتّی إنّه لو أطلق وأراد به معنی وفهم منه لقیل: إنّه دالّ علیه، وإن فهم غیره فلا یقال: إنّه دل علیه».
وهما کما تری ظاهران فی أنّ الدلالة کما هی متوقّفة علی إرادة اللافظ، متوقّفة علی فهم المخاطب، فإذا لم یدلّ الکلام علی مضمونه فعلاً لا یعقل مطابقته للواقع ومخالفته، لکونهما متفرّعتین علی الحکایة والدلالة، ومع فقدهما لایتّصف الکلام بالصدق والکذب، والمتکلّم بالصادق والکاذب، بل لازم ذلک عدم الکذب فی الأخبار الّتی لا تفید المخاطب فائدة خبریة، کقوله: «السماء تحتنا» لمن یعلم مخالفته للواقع. فیعتبر فیه أن یکون الکلام دلیلاً وهادیاً بالفعل إلی الواقع، ومع العلم لیس کذلک.
ویمکن أن یناقش فیه بأنّ الکذب لیس عبارة عن مخالفة مضمون الجملة بعد الدلالة بهذا المعنی الّذی ظاهر کلام العلمین المتقدّمین، أی بعد إرادة المتکلّم وفهم السامع، بل الصدق والکذب عبارة عن موافقة مضمونها ومخالفته للواقع فحینئذٍ یقال: إنّ جملة «السماء تحتنا، والسماء فوقنا» لا محالة یکون لهما مضمون ومعنی مع قطع النظر عن فهم السامع، وإلاّ لزم أن لا یفهم منهما معنی إلاّ علی
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 56
وجه دائر، فإذا کان لهما مضمون فلا محالة یکون معنی تصدیقی لا تصوری، ولازمه مخالفة الاُولی للواقع دون الثانیة، وهما الصدق والکذب، فإذا صدرتا من المتکلّم بنحو الجدّ یتّصف لا محالة بالصادق والکاذب.
فالدلالة بالمعنی المتقدّم غیر دخیلة فی صدق الکلام والمتکلّم وکذبهما.
ولو سلّمت دخالتها فیهما فیمکن أن یقال: إنّ الدلالة عبارة عن کون الشیء بحیث یلزم من العلم به العلم بشیء آخر، فهذا المعنی التعلیقی حقیقة الدلالة، فلا تکون الدلالة اقتضائیّة وتعلیقیّة، بل معناها عبارة عن أمر تعلیقی حاصل بالفعل، فالکلام بهذا المعنی دالّ بالفعل علی معناه، لأ نّه بحیث یلزم من فهمه فهم المعنی، وهو أمر فعلی، أی هذا الأمر التعلیقی حاصل بالفعل.
ولعلّ مراد العَلَمَین لیس ما یوهم ظاهر کلامهما، بل یکون مرادهما أنّ اللفظ إذا اُطلق وأرید به المعنی بالإرادة الاستعمالیّة وکان بحیث یفهم منه المعنی علی قانون الوضع، کان دالاً. فقوله: «رأیت أسداً» إذا اُرید به الرجل الشجاع من غیر قیام قرینة لا یدلّ علیه، لعدم کونه مفهماً للمعنی المقصود، بخلاف ما إذا عمل المتکلّم بقانون الوضع وأقام القرینة، فإنّه یدلّ علی المعنی. وکذا الحال فی مخالفة قانون الوضع لو أطلق اللفظ وأراد المعنی الحقیقی لکن أقام قرینة المجاز.
فعلیه لا یکون مرادهما ممّا ذکرا تبعیة الدلالة للإرادة ولا تبعیّتها لفهم المخاطب فعلاً بوجه، تأ مّل.
ثمّ إنّ ما ذکرناه أخیراً متفرّعاً علی ما تقدّم غیر وجیه، لأنّ باب دلالة الألفاظ علی معانیها غیر باب مطابقة مضمون الکلام لنفس الأمر، والثانی لیس من باب الدلالة فی شیء، وما هو من بابها عبارة عن إحضار المعانی فی ذهن المخاطب بإلقاء الکلام، وهو حاصل فی الإخبار الضروری الصدق أو الکذب.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 57
ولو قلنا: بأنّ الدلالة عبارة عن إرشاد المخاطب إلی معانی الألفاظ تکون فی المقام حاصلة أیضاً، فإنّها لا محالة تحضر المعانی فی ذهن المخاطب، وکونها ضروریّاً غیر مربوط بالدلالة.
هل تتّصف المبالغات والمجازات والکنایات بالصدق والکذب أم لا؟
ثمّ إنّ المبالغات والمجازات والکنایات إنّما تتّصف بالصدق والکذب إذا اُرید بها الإخبار عن واقع ولو کان لازماً لها، دون ما اُرید بها إنشاء المدح والذم، فإنّها لا تتّصف بهما بالغة ما بلغت. وفهم المعنی التصدیقی عن الإنشاء لیس بمخبر به، نظیر إنشاء البیع الّذی ینتقل الذهن منه إلی کون البائع سلطاناً علیه ، وإنشاء الزواج الدالّ علی کون المرأة خلیّة، فلا تتّصف لأجله بهما.
وأ مّا قضیّة جواز مدح من یستحقّ الذم أو العکس فهی أمرآخر.
المیزان فی صدق المتکلّم وکذبه
ثمّ إنّ التحقیق أنّ المیزان فی صدق المتکلّم وکذبه استعمال الجملة الإخباریّة فی معنی موافق أو مخالف للواقع، فمع عدم الاستعمال فیه، أو الاستعمال فی معنی مخالف لظاهر الکلام المخالف للواقع لم یکن کاذباً إذا کان المعنی المراد موافقاً للواقع.
فالمتلفّظ بألفاظ مهملة لا یکون کاذباً إذا لم یستعملها فی معنی. وکذا المتلفّظ بألفاظ لا یعلم اللافظ أ نّها موضوعة أو مهملة، أو لا یعلم مضمون الجملة مطلقاً، أو لا یعلم أ نّها إنشائیّة أو إخباریة، کلّ ذلک بشرط عدم الاستعمال فی خصوص معنی مخالف للواقع ولو غلطاً وعلی خلاف قانون الوضع.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 58
ولو علم أنّ لها معنی کاذباً إجمالاً من غیر العلم بخصوص المعنی ولو إجمالاً، فلا یبعد عدم الاتّصاف به، ویحتمل الاتّصاف إذا ألقی الکلام لإفادة المعنی الواقعی، ولو علم أنّ مضمونها إمّا هذا أو ذاک وکان أحدهما موافقاً والآخر مخالفاً، فإن اُلقی الکلام بلا استعمال فی المعنی الکاذب أو فی المعنی الواقعی لا یکون کاذباً، وإلاّ فعلی الأوّل کاذب وعلی الثانی لو صادف المخالفة لا یبعد أن یکون کاذباً.
ولو علم أنّ الجملة موضوعة لخصوص معنی غیر موافق للواقع لکن لا یعرف معنی ألفاظها، بأن لا یعلم أنّ فی قوله: «رأیت أسداً» أیّ لفظ بمعنی الحیوان المفترس وإن علم أنّ مضمون الجملة مفید لرؤیته، فحینئذٍ إن استعمل مجموع الجملة فی المعنی یکون کاذباً مع عدم الموافقة، وإن لم یکن استعماله علی قانون الوضع وکان غلطاً، نظیر أن یستعمل الأسد فی رجل بلا نصب قرینة وقال: «رأیت أسداً» وأراد زیداً وکان مخالفاً للواقع، فإنّه کاذب بلحاظ هذا الاستعمال، وإن کان صادقاً بحسب ظاهر لفظه بأن رأی أسداً.
وبالجملة المیزان فی الکذب والصدق مخالفة المعنی المستعمل فیه وموافقته للواقع، لا صحّة الاستعمال.
هذا إن استعمل مجموع الجملة فی المعنی بلا لحاظ استعمال المفردات.
وأ مّا إن لاحظ استعمالها، فإن استعمل خصوص بعض الألفاظ فی خصوص بعض المعانی و إن کان الاستعمال خطأ یتّصف بالکاذب والصادق.
وإن ألقی الکلام بلا إرادة استعمال ألفاظه فی معانیه بل لغایة فهم المخاطب العارف بالمعنی لا یکون کاذباً علی إشکال.
ولو ألقی الکلام لیکون کلّ لفظ منه حاکیاً عن معناه الواقعی فالظاهر
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 59
الاتّصاف إن أراد من الألفاظ معانیها الواقعیّة وإن لم یعرفها، نظیر الاستعمال فی المعلوم بالإجمال أی واقعه المعلوم عند اللّٰه تعالی.
هل تکون التوریة وخلف الوعد من الکذب أم لا؟
وممّا ذکرناه من اعتبار الاستعمال فی المعنی المخالف للواقع فی الکذب لا یبقی إشکال فی عدم کون التوریة کذباً، ضرورة أنّ المورّی استعمل الجمل فی المعانی الموافقة للواقع ولو علی خلاف قانون الوضع والمحاورات، کاستعمال اللفظ المشترک فی غیر المعنی المسؤول عنه مثلاً، فإن قال فی جواب قوله أزید فی الدار؟: لیس زید فی الدار، مریداً غیر ما فی السؤال، أو قال: لیس فی الدار، مریداً غیره، لیس کاذباً، لأنّ المستعمل فیه موافق للواقع فرضاً، والظاهر المخالف له غیر مستعمل فیه.
بل لو استعمل الألفاظ فی معانیها وأراد بحسب الجدّ غیرها بنحوٍ من الادّعاء لا یکون کاذباً، وهو ظاهر .
کما أنّ خلف الوعد لیس کذباً وهو معلوم، وکذا الوعد ولو مع إضمار عدم الإنجاز لأ نّه إنشاء لا إخبار .
هذا جملة من الکلام فی موضوعه.
حرمة الکذب فی الجملة ضروریة
وأ مّا حکمه، فحرمته فی الجملة ضروریّة لا تحتاج إلی إقامة الدلیل علیها وإن کان فی دعوی حکم العقل بها نظر.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 60
فالأولی البحث عن خصوصیّات اُخر:
منها: الظاهر أنّ الأدلّة منصرفة عن الکذب عند نفسه مع عدم مخاطب.
بل الظاهر انصرافها عن التکلّم به عند مخاطب لم یسمع الکلام لصممه، أو لم یفهم معناه لعدم تمیّزه أو جهله به، فإنّ المتکلّم بالجملة الکاذبة عند المذکورین لیس بمخبر وإن صدر منه الکذب.
والمنع عنه باحتمال أن یکون مراد الشارع عن المنع عنه تنزّه لسان المتکلّم عن التقوّل بالکذب، احتمال عقلی غیر مناف لانصرافها. وفی الروایات إشعارات وتأییدات لذلک:
کقوله: «الکاذب علی شفا مخزاة وهلکة».
وقوله: «من کثر کذبه ذهب بهاؤه».
وقوله: «إنّ ممّا أعان اللّٰه به علی الکذّابین النسیان».
وقوله: «إنّ الکذّاب یکذب حتّی یجیء بالصدق فلا یُصدَّق».
وقوله: «الکذب یسوّد الوجه».
وقوله: «اجتنبوا الکذب وإن رأیتم فیه النجاة فإنّ فیه الهلکة». إلی غیر
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 61
ذلک.
هل یلحق التوریة ونحوها بالکذب بإلغاء الخصوصیة أم لا؟
وهل یلحق بالخبر الکاذب ما یفید فائدته، کالتوریة والإنشاء، کما حکی الشیخ الأنصاری عن بعض الأساطین: «إنّ الکذب وإن کان من صفات الخبر إلاّ أنّ حکمه یجری فی الإنشاء المنبئ عنه، کمدح المذموم، وذمّ الممدوح، وتمنّی المکاره، وترجّی غیر المتوقّع...».
وکالأفعال المفیدة فائدته، کتأوّه السالم لإفادة العلّة، وتلبّس الغنی لباس الفقیر لإفادة فقره، وتلبّس الجاهل لباس العلماء لإفادة کونه منهم، ونصب العلامة دون الفرسخ لإفادة کونها رأسه، ونصب الرایات والبیارق لإفادة إقامة العزاء مع مخالفتها للواقع، وأمثال ذلک؟
ففی الجواهر: «قد یقال: إنّه وإن کان من صفات الخبر لکن یجری حکمه فی الإنشاء المنبئ عنه مع قصد الإفادة. وأ مّا الکذب فی الأفعال فلا یخلو من إشکال. والتوریة والهزل من غیر قرینة داخلان فی اسمه أو حکمه». انتهی.
أو لا یلحق شیء منها به مطلقاً، أو یفصّل بین الأخبار المفیدة فائدته، کالتوریة والهزل، وبین غیرها، أو بین الکلام المفید فائدته وغیره، فلا تلحق به الأفعال؟
غایة ما یمکن الاستشهاد به لإلحاق الجمیع، أن یقال: إنّ العرف مساعد
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 62
لإلغاء الخصوصیّة عن الکذب إلی کلّ ما یفید فائدته، فإنّه عبارة عن جملة إخباریّة متقوّمة بألفاظ وهیئة خاصّة حاکیة عن معنی تصدیقیّ مخالف للواقع. فإذا قیل: إنّ الکذب قبیح عقلاً أو حرام شرعاً، لا یری العقل والعرف قبحه وحرمته متعلّقین علی الألفاظ الخاصّة والهیئات المخصوصة والمعانی التصدیقیة، لا بنحو تمام الموضوع ولا جزئه، سیّما مع أنّ الظاهر أن تکون الحرمة شرعیّة بملاک القبح العقلی، وإن کان العقل لا یحکم بالقبح المستلزم لصحّة العقوبة، لکن یدرک أ نّه قبیح ومذموم ولو أخلاقاً، و بعد حکم الشرع یری أ نّه بمناطه، مع أ نّه من الواضح لدی العقول أن لا دخالة للألفاظ هیئة ومادّة وکذا للمعانی بما أ نّها مستفادة من خصوص تلک الألفاظ فی القبح والمذمومیّة، بل یدرک أنّ الذم والقبح لإراءة خلاف الواقع وإلقاء ما یکون مخالفاً له.
وعلی هذا کلّ کلام أو فعل یفید فائدته ملحق به إذا أوجده الفاعل لإفادة خلاف الواقع، کالتوریة والهزل والإنشاءات والأفعال المفیدة خلاف الواقع.
لا أقول: إنّ العلّة هی الإغراء حتّی یمنع ذلک بدعوی الإجماع علی حرمة الکذب ولو لم یوجبه.
بل أقول: إنّ تحریمه بملاک قبحه، وهو موجود فیما یفید فائدته.
أو أقول: إنّ العرف یری أنّ الألفاظ ومعانیها التصدیقیّة غیر دخیلة فی موضوع الحکم ولو بنحو جزء الموضوع، وأنّ تمام الموضوع للحرمة هو ما یحکی عن خلاف الواقع بأیّ دالّ کان.
روایات التوریة والجمع بینها
ویمکن تأیید المدّعی أو الاستشهاد له بما وردت فی التوریة وما یقتضی
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 63
الجمع بینها:
کما روی عن الاحتجاج أ نّه سئل الصادق ـ علیه السّلام ـ عن قول اللّٰه عزّوجلّ فی قصّة إبراهیم ـ علیه السلام ـ : «قالَ بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرهُمْ هذا فَاسأ لُوهُمْ إنْ کانُوا یَنْطِقُون»؟ قال: «ما فعل کبیرهم، وما کذب إبراهیم ـ علیه السّلام ـ». قیل: وکیف ذلک؟ فقال: «إنّما قال إبراهیم: «فَاسأ لُوهُمْ إنْ کانُوا یَنْطِقُون»، إن نطقوا فکبیرهم فعل، وإن لم ینطقوا فلم یفعل کبیرهم شیئاً، فما نطقوا وما کذب إبراهیم». ثمّ ذکر توریة یوسف ـ علیه السّلام ـ وإبراهیم ـ علیه السّلام ـ فی قضیّة اُخری وکیفیة المواراة فیها.
ویظهر منها أ نّهما ما کذبا موضوعاً بل أخبرا توریة.
والظاهر من عدّة من الروایات أ نّهما أرادا الإصلاح فلم یکن قولهما کذباً حکماً.
کروایة الحسن الصیقل، قال: قلت لأبی عبداللّٰه ـ علیه السّلام ـ: إنّا قد روینا عن أبیجعفر ـ علیه السّلام ـ فیقول یوسف ـ علیه السّلام ـ: «أَیَّتُهَا العِیرُإِنَّکُمْ لَسارِقُونَ»؟ فقال: «واللّٰه ما سرقوا وما کذب». وقال إبراهیم ـ علیه السّلام ـ: «بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا فَاسأ لُوهُمْ إنْ کانُوا یَنْطِقُون»؟ فقال: «واللّٰه ما فعلوا وما کذب» قال: فقال أبو عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ: «ما عندکم فیها یا صیقل؟» قال: فقلت: ما عندنا فیها إلاّ التسلیم. قال: فقال: «إنّ اللّٰه تعالی أحبّ اثنین، وأبغض اثنین: أحبّ الخطر فیما بین الصفّین وأحبّ الکذب فی الإصلاح، وأبغض الخطر فی الطرقات وأبغض
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 64
الکذب فی غیر الإصلاح، إنّ إبراهیم ـ علیه السّلام ـ إنّما قال: «بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا» إرادة الإصلاح ودلالة علی أ نّهم لا یفعلون، وقال یوسف ـ علیه السّلام ـ إرادة الإصلاح».
وروایة عطاء عن أبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ ، قال: «قال رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم: لا کذب علی مصلح». ثمّ تلا: «أَیَّتُهَا العِیرُ إِنَّکُمْ لَسارِقُونَ» ثمّ قال: «واللّٰه ما سرقوا وما کذب». ثمّ تلا: «بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرهُمْ هذا فَاسأ لُوهُمْ إنْ کانُوا یَنْطِقُون» ثمّ قال: «واللّٰه ما فعلوه وما کذب».
ویمکن الجمع بأن یقال: إنّ المنفی فی روایة الاحتجاج موضوع الکذب کما هو صریحها، وفی الروایتین وما بمعناهما حکم الکذب، فیکون المراد أنّ التوریة محکومة بحکم الکذب إذا لم تکن للإصلاح، ومع کونها له لیست بکذب أی حکماً أیضاً کما لیست به موضوعاً.
ویؤیّده ما دلّت علی أنّ المصلح لیس بکذّاب، کما فی صحیحة معاویة بن عمّار
وعن کتاب الإخوان بسنده عن الرضا ـ علیه السّلام ـ ، قال: «إنّ الرجل لیصدق علی أخیه فیناله عنت من صدقه فیکون کذّاباً عند اللّٰه، وإنّ الرجل لیکذب علی أخیه، یرید به نفعه، فیکون عند اللّٰه صادقاً».
وعن أبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ ، قال: «الکلام ثلاثة: صدق، وکذب، وإصلاح
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 65
بین الناس».
وبالجملة مقتضی الجمع بین روایة الاحتجاج وغیرها أنّ التوریة لا تجوز إلاّ مع إرادة الإصلاح، وفی مورده مع إمکانها تجب أو ترجّح، فیستفاد من مجموع الروایات عدم جواز التوریة إلاّ فی مورد الاستثناء، ولیس ذلک إلاّ لأجل إلحاق الصدق المفید فائدة الکذب والموجب لإفادة خلاف الواقع بالکذب، فیتعدّی إلی الإنشاء المفید فائدته، بل الأفعال إذا أفادت فائدته.
ویمکن تأیید ذلک بروایة أبی بصیر الّتی قد یقال: إنّها موثّقة، قال: قیل لأبی جعفر ـ علیه السّلام ـ وأنا عنده: إنّ سالم بن أبی حفصة وأصحابه یروون عنک أ نّک تکلّم علی سبعین وجهاً لک منها المخرج؟ فقال: «ما یرید سالم منّی، أیرید أن أجیء بالملائکة؟ واللّٰه ما جاءت بهذا النبیّون ـ علیهم السلام ـ ، ولقد قال إبراهیم ـ علیه السلام ـ: «إِنّی سَقیمٌ» وما کان سقیماً وما کذب. ولقد قال إبراهیم ـ علیه السّلام ـ: «بَلْ فَعَلهُ کَبِیْرُهم هذا» وما فعله وما کذب، ولقد قال یوسف ـ علیه السّلام ـ: «أَیَّتُهَا العِیرُ إنَکُمْ لَسارِقُونَ» واللّٰه ما کانوا سارقین وما کذب».
فإنّ الظاهر أنّ سالماً أراد الإیراد علی أبی جعفر ـ علیه السّلام ـ بأ نّه یورّی فی الکلام ویأتیه علی وجوه لیمکن له المفرّ عند الإیراد علیه، فأجاب عنه بأ نّه لا بأس به فی مورد تقتضی المصلحة کما فعل إبراهیم ویوسف ـ علیهما السلام ـ .
لکنّ الأظهر أنّ الروایة بصدد دفع الإشکال عن أصل التوریة، فیظهر منها
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 66
أنّ قول إبراهیم ـ علیه السّلام ـ ویوسف ـ علیه السّلام ـ من قبیل التوریة. فیکون مفادها نحو روایة الاحتجاج.
فتحصّل ممّا مرّ أنّ مقتضی روایة الاحتجاج وأبی بصیر کون کلام إبراهیم ویوسف ـ علیهما السلام ـ توریة. ومقتضی الروایات المتقدّمة أ نّهما أرادا الإصلاح فما کذبا. ومقتضی المجموع أنّ التوریة کذب فی وعاء التشریع، ولها مصداقان: محبوب ومبغوض، وإنّما سمّاها کذباً، لادّعاء کونها ذلک.
ویؤیّد ما ذکرناه بل یدلّ علیه ما وردت فی استثناء عِدَة الرجل أهله ـ إذا لا یرید أن یتمّ لهم ـ من الکذب:
کروایة عیسی بن حسان، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ یقول: «کلّ کذب مسؤول عنه صاحبه یوماً إلاّ کذباً فی ثلاثة: رجل کائد فی حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بین اثنین یلقی هذا بغیر ما یلقی به هذا یرید بذلک الإصلاح ما بینهما، أو رجل وعد أهله شیئاً وهو لا یرید أن یتمّ لهم».
و روایة المحاربی عن جعفر بن محمّد ـ علیه السّلام ـ ، عن آبائه ـ علیهم السلام ـ ، عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال: «ثلاثة یحسن فیهنّ الکذب: المکیدة فی الحرب، وعدتک زوجتک، والإصلاح بین الناس».
وفی روایة الحارث الأعور: «ولا أن یعد أحدکم صبیّه ثمّ لا یفی له، إنّ الکذب یهدی إلی الفجور، والفجور یهدی إلی النار...».
بأن یقال: إنّ حقیقة الوعد والوعید لیست إخباراً عن واقع یطابقه أو لا یطابقه، بل تعهّد وتهدید وإن کانا علی نحو الإخبار وإلقاء الجملة الخبریّة، نظیر
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 67
الجعل بنحو الإخبار فی باب الجعالة، فإذا قال: «من ردّ ضالّتی أعطیه کذا» لیس إخباراً بل إنشاء بصورة الإخبار أو إخبار بداعی الإنشاء.
فقوله: «إنّی أعطیک غداً کذا» لیس إخباراً بل إنشاء قرار وعهد، وله إنجاز وخلف، لا صدق وکذب، وإطلاق صادق الوعد والوعد المکذوب أو غیر المکذوب لیس باعتبار الإخبار عن واقع، بل بنحو من المشابهة والتأوّل، کقوله: یبکی کذباً، ویتأوّه ویتمنّی ویترجّی کذباً، ونظائرها.
فتحصّل من ذلک أنّ عِدَة الرجل أهله لیست من قبیل الإخبار، ومع ذلک استثناه من الکذب، فیستکشف منه أنّ الکذب فی المستثنی منه أعمّ من الکذب الحقیقی والحکمی الادّعائی، فیصحّ الاستثناء منه، فیستفاد منها أنّ کلّ ما کان له نحو کشف عن الواقع، ولو کان من قبیل الإنشاءات، داخل فی الکذب حکماً، ومحرمّ إلاّ ثلاثة.
ویؤیّد أیضاً بما دلّ علی أنّ الهزل محرّم:
کمرسلة سیف بن عمیرة عن أبی جعفر ـ علیه السّلام ـ ، قال: «کان علیّ بن الحسین ـ علیه السّلام ـ یقول لولده: اتّقوا الکذب، الصغیر منه والکبیر، فی کلّ جدّ وهزل».
وروایة الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمیر المؤمنین ـ علیه السّلام ـ: «لا یجد عبد طعم الإیمان حتّی یترک الکذب، هزله وجدّه».
بدعوی أنّ الهزل مقابل الجدّ، والجدّ إخبار حقیقة، والهزل لیس بإخبار جدّاً، بل إلقاء الجملة الخبریة، لا بداعی الإخبار، بل بداعی المزاح والهزل، فلا یکون له واقع لا یطابقه.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 68
ودعوی أنّ المراد من الکذب هزلاً الإخبار عن الواقع بداعی الهزل خلاف الظاهر، لأنّ الإخبار الحقیقی جدّ، لأیّ غایة کان، فالهزل المقابل له هو ما لا یکون إخباراً جدّاً، لا أ نّه إخبار جدّاً لغایة الهزل.
فاتّضح منها أنّ ما یفید فائدة الخبر کذب فی عالم التشریع، وإن لم یکن إخباراً عن الواقع.
هذا غایة ما یمکن الاستشهاد علیه لإلحاق غیر الکذب به إنشاء کان أو فعلاً.
ویمکن المناقشة فی الأوّل بأنّ إلغاء الخصوصیّة إنّما هو فی موارد یفهم العرف أنّ الموضوع الملقی لیس موضوعاً للحکم، وإنّما أتی به للمثالیّة، أو لجری العادة، ونحو ذلک.
کقوله: «رجل شک بین الثلاث والأربع»، وقوله: «أصاب ثوبی دم رعاف»، أو «رجل أفطر یوماً من شهر رمضان»، ونظائرها ممّا یری العرف أنّ الحکم للشکّ والدم والإفطار، لا للرجل والثوب.
وأ مّا إذا کان الحکم متعلّقاً بموضوع واُرید إسراؤه منه إلی موضوع آخر بوجوه ظنّیة کما نحن فیه، حیث تعلّق الحکم علی الکذب، ولا یفهم العرف منه غیره، لکن اُرید إسراؤه منه إلی ما یفید فائدته بالوجوه الظنّیة والاعتباریّة، فهو قیاس،
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 69
لا إلغاء خصوصیّة عرفاً.
وفی الثانی: بأنّ إثبات کون مناط الحرمة هو القبح العقلی غیر ممکن فی المقام، لعدم دلیل علیه بل یحتمل أن یکون عنده مناط آخر مجهول عندنا، والکشف الظنّی لا یغنی من الحقّ شیئاً.
وبالجملة لا دلیل علی أنّ ما أدرکه العقل من القبح هو العلّة للحکم وهو یدور مدارها توسعة وتضییقاً، وصرف إحراز الاقتضاء لا یفید شیئاً.
مع إمکان منع القبح فی الأفعال والإنشاءات الکاشفة عن خلاف الواقع بمجرّد ذلک إذا لم ینطبق علیها عناوین اُخر. فمثل مدح من لا یستحقّ المدح، وذمّ من لا یستحقّه، وسؤال غیر الفقیر، ونظائرها، لیس قبحها بمناط الکشف عن غیر الواقع، بل نفس تلک العناوین قبیحة بذاتها لا بملاک الکذب، ولهذا لا قبح فی التعفّف،وإن کان بغرض إفهام الغنیٰ وأن یحسبه الجاهل غنیّاً من التعفّف، ولا قبح فی إنشاء البیع الکاشف عن مالکیّة المنشئ، وإن کان بغرضه.
وبالجملة إنّ الوجه المذکور ممنوع صغری وکبری.
وفی الروایات الواردة فی عِدَة الرجل أهله، والواردة فی الجدّ والهزل بوقوع التعارض بین عنوان الکذب المأخوذ فیها الظاهر فی الإخبار المخالف للواقع، وبین عنوانی العِدَة والهزل الظاهرین فی غیر الإخبار. ولا یبعد تحکیم الصدر علی الذیل، وحمل العدة والهزل علی نوع من الإخبار المخالف للواقع، ولا أقلّ من التعارض الموجب للإجمال.
وفیما قلنا فی وجه الجمع بین روایات التوریة بأنّ هذا الجمع غیر مقبول
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 70
لدی العقلاء، ولا یصحّ إثبات حکم شرعی بهذا النحو من الملازمات العقلیة الخارجة عن فهم العرف.
مع أنّ لازم ما ذکر من الجمع دعوی کون التوریة کذباً، لیترتّب علیها آثاره من الجواز عند إرادة الإصلاح وعدمه عند عدمها، ثمّ دعوی أنّ ما اُرید بها الإصلاح لیس بکذب أی لیس بکذب ادّعاء لإثبات جوازها عند إرادة الإصلاح ، وهو کما تری أمر منکر مخالف للمحاورات العقلائیّة لإفهام المعانی.
بیانه أنّ قول أبی جعفر ـ علیه السّلام ـ علی ما فی روایة الصیقل: «ما کذب إبراهیم ویوسف ـ علیهما السلام ـ»، وما عن رسول اللّٰه6 فی روایة عطاء: «لا کذب علی مصلح» ثمّ تلا الآیة المربوطة بقضیتهما ونفی الکذب عنهما الظاهر فی نفیه حکماً لا موضوعاً، إنّما یصحّ ـ فی فرض کون قولهما بنحو التوریة ـ إذا اُرید بنفی الموضوع النفی ادّعاء، مع أنّ التوریة لیست بکذب حقیقة، فلابدّ فی تصحیح ذلک أن یقال: إنّ التوریة مطلقاً کذب ادّعاءً، والمراد من نفیه عنهما فی الروایتین نفی الحکم بلسان نفی الموضوع الادّعائی ادّعاء، فتدبّر.
مع أنّ مقتضی دعوی کونها کذباً جوازها عند إرادة الإصلاح، فإنّ الکذب کذلک. ومقتضی دعوی عدم کونها کذباً ادّعاء عند إرادة الإصلاح عدم کون حکمها حکم الکذب الإصلاحی، فیلزم منه نفی الجواز لإرادة الإصلاح، لا إثباته لذلک. بل لازمه التعارض بین الروایات.
والإنصاف أنّ ما ذکرناه من الاستنتاج للتعمیم، غیر وجیه خارج عن المحاورات.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 71
دلالة بعض الروایات علی جواز التوریة ونحوها
فتحصّل من جمیع ذلک عدم قیام دلیل علی إلحاق ما لیس بکذب به، توریة کان أو إنشاء أو فعلاً، مع أ نّه قد وردت التوریة فی روایات ظاهرة فی جوازها مطلقاً:
کروایة محمّد بن إدریس فی مستطرفات السرائر نقلاً من کتاب عبد اللّٰه بن بکیر بن أعین عن أبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ فی الرجل یستأذن علیه، فیقول للجاریة: قولی: لیس هو هاهنا. قال: «لا بأس، لیس بکذب».
والظاهر أنّ المشار إلیه کان محلاً خالیاً، حتّی یخرج الإخبار عن الکذب.
ومقتضی إطلاقها جواز التوریة ولو لا لإرادة الإصلاح.
نعم فی سند الروایات الّتی نقلها ابن إدریس من بعض الاُصول ککتاب البزنطی وابن بکیر وغیرهما کلام، وهو أ نّه لم یثبت عندنا أنّ تلک الاُصول کانت معروفة فی عصر ابن إدریس نحو کتاب الکافی والتهذیب وغیرهما ممّا هی معروفة واضحة الصدور من أربابها بحیث لم نحتج إلی العنعنة فی إثبات کونها منهم، ولم یذکر ابن إدریس طریقه إلیها، ومن المحتمل أنّ ثبوت کونها منهم عنده بوجوه اجتهادیة وقرائن لو قامت عندنا لم نتکل علیها لاختلاف اجتهادنا معه، ولیس ابن إدریس ومن فی طبقته ونظائره عندنا کصدوق الطائفة ونظائره ممّن کان عصره قریباً من عصر صاحب الاُصول ولم یکن دأبه الاجتهاد وإعمال النظر والاتّکال علی القرائن الاجتهادیة لإثبات شیء. ولهذا لا یبعد الاعتماد
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 72
علی مرسلاتهم الّتی أرسلوها إرسال المسلّمات دون مرسلات أضراب محمّد بن إدریس رحمه اللّٰه.
مضافاً إلی أنّ فی مستطرفات السرائر: ومن ذلک ما استطرفناه من کتاب عبد اللّٰه بن بکیر الحسین عنه عن أبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ ، ثمّ ساق الحدیث ویظهر من الأحادیث المذکورة بعده أنّ أحادیثه منقولة عن عبد اللّٰه بواسطة الحسین، وهو یحتمل أن یکون الحسین بن سعید الأهوازی، لکنّه مجرّد احتمال أو ظنّ بذلک، فلا حجّیة فی الروایة وإن أغمضنا عن الإشکال الأوّل .
وکروایة عبد الأعلی مولی آل سام، قال: حدّثنی أبو عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ بحدیث، فقلت له: جعلت فداک، ألیس زعمت لی الساعة کذا وکذا؟ فقال: «لا». فعظم ذلک علیّ، فقلت: بلی واللّٰه زعمت. قال: «لا واللّٰه ما زعمت». قال: فعظم ذلک علیّ، فقلت: بلی واللّٰه قد قلته. قال: «نعم قد قلته، أما علمت أنّ کلّ زعم فی القرآن کذب؟».
فإنّها ظاهرة الدلالة فی جواز التوریة مطلقاً، فإنّ دفع عبد الأعلی عن إطلاق کلمة زعمت ـ الّتی بمعنی قلت وتستعمل فی حقّ وباطل ـ لیس من الإصلاح الّذی یجوّز الکذب أو ما بحکمه، ولهذا لا یجوز الکذب فی نظیره.
وکروایة أبی بصیر المتقدّمة الواردة فی قصّة سالم بن أبی حفصة، فإنّ
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 73
أبا جعفر ـ علیه السّلام ـ لم یعلّل جواز إلقاء کلام ذی وجوه وکذا توریة إبراهیم ـ علیه السلام ـ ویوسف ـ علیه السّلام ـ بإرادة الإصلاح، فیفهم منها أنّ إلقاء کلام ذی وجوه وإرادة بعض الوجوه المخفیّة لا مانع منه کما فعل یوسف وإبراهیم ـ علیهما السلام ـ .
ویظهر من ذیل روایة سوید بن حنظلة المنقولة فی کتاب الطلاق ـ وعن المبسوط روایتها ـ جوازها أیضاً، قال: خرجنا ومعنا وائل بن حجرنرید النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فأخذه أعداء له، وتحرّج القوم أن یحلفوا، فحلفت باللّٰه أ نّه أخی، فخلّی عنه العدوّ، فذکرت ذلک للنبی صلی الله علیه و آله وسلم فقال: «صدقت، المسلم أخو المسلم».
فإنّ الظاهر منها وإن کان حلفه علی الأخوّة النسبیّة لکن یظهر منها نفی الکذب عن التوریة، ویفهم منه جوازه لذلک، لا لإرادة الإصلاح وإن کان المورد کذلک. فلو کانت التوریة غیر جائزة إلاّ مع إرادة الإصلاح، لکان علیه التنبیه علیه لا الحکم بالجواز لمجرّد نفی الکذب.
فتحصّل ممّا مرّ أنّ التوریة وکذا الإنشاءات والأفعال المفیدة فائدة الکذب لا تکون محرّمة، للأصل وقصور الأدلّة، بل دلالة بعض الروایات علی الجواز.
ثمّ إنّه قد یستشکل علی روایة الاحتجاج فی توجیه توریة إبراهیم بأنّ کسر الأصنام صدر من إبراهیم ـ علیه السّلام ـ وإن کانت الأصنام ینطقون، فیلزم الکذب بالإخبار بالملازمة، فإنّ ملاک الصدق والکذب فی الشرطیّات صدق الملازمة وکذبها.
وفیه مالایخفی، فإنّ کلام إبراهیم ـ علیه السّلام ـ من قبیل التعلیق علی أمر محال
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 74
لإثبات أنّ المعلّق علیه محال، لا لإثبات الملازمة، فالکلام سیق لنفی العمل لکونه معلّقاً علی محال، لا لتحقّقه بتحقّق المعلّق علیه، نظیر قوله تعالی: «وَلاٰ یَدْخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّیٰ یَلجَ الْجَمَلُ فِی سَمِّ الخِیاطِ»، فإنّه لیس بصدد الإخبار بالملازمة بین دخول الجنّة وولوج الجمل فی سمّ الخیاط، ضرورة عدم التلازم بینهما، بل بصدد بیان استحالة دخولهم الجنّة بالتعلیق علی محال عادیّ.
وبالجملة نظائر هذا الکلام کنایة عن عدم التحقّق أو استحالته لا إخبار بالملازمة کما هو واضح.
انصراف المطلقات عن الکذب فی مقام الهزل
ثمّ إنّ الظاهر أنّ الأخبار المطلقة منصرفة عن الکذب فی مقام الهزل، وإن فرض الإخبار بالواقع لهذا الغرض، لکن مع قیام قرینةٍ حالیّةٍ أو مقالیّةٍ شاهدةٍ علی الهزل، کما لو کان المجلس من المجالس التی اُعدّت له.
بل لا یبعد الانصراف عن أخبار غیر مفیدة، کما لو أخبر بخلاف واقع واضح لا یؤثّر فی المخاطب شیئاً، کالإخبار ببرودة النار وحرارة الثلج. بل ولو کان غیر مفید لمخاطب خاصّ، کما لو علم المتخاطبین کذب القضیة، فإنّ المتفاهم من أخبار الباب والإشعارات التی فیها هو حرمة الکذب فی الأخبار المتداولة المعمولة بین الناس لإفادة مضمونها:
کقوله: «ممّا أعان اللّٰه به علی الکذّابین النسیان» وقوله: «إنّ الکاذب علی شفا مخزاةٍ وهلکةٍ». وقوله: «العبد إذا کذب کان أوّل من یکذّبه اللّٰه، ونفسه تعلم
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 75
أ نّه کاذب». إلی غیر ذلک.
وبناءً علی انصراف الأخبار عن الهزل لا یمکن إثبات حرمته بما وردت فی الکذب هزلاً، فإنّها وإن کانت مستفیضةً، فلا ینظر إلی ضعف أسنادها مع أنّ بعضها لا یخلو من حُسنٍ کروایة الأصبغ، لکن فیها ما لا تدلّ علی الحرمة: کروایة الأصبغ، والحارث الأعور، بل مرسلة سیف بن عمیرة. فإنّ قول علیّ بن الحسین ـ علیه السّلام ـ علی ما فی الروایة لولده فی مقام النصیحة لتهذیبهم عن الذمائم، لا یدلّ علی التحریم، مع أنّ فی مادّة التقوی أیضاً إشعاراً بعدمه، فلا یبعد أن یکون الأمر لمجرّد الرجحان.
بل یمکن الخدشة فی دلالة روایة أبی ذر، وفیها: «یا أباذر، ویل للذی یحدّث فیکذب لیضحک به القوم. ویل له، ویل له». فإنّ إنشاء الویل أعمّ من التحریم، ولو سلّمت دلالتها کما یأتی بیانها ـ إن شاء اللّٰه تعالی ـ فلا تصلح لإثبات الحکم، لضعفها سیّما فی مثل المقام الذی ادّعی الأعلام السیرة علی ارتکابه کما لا تبعد.
فالأقوی عدم الحرمة فی الهزل مع قیام القرینة. ولا یخلو عدمها من رجحان فی الأخبار غیر المفیدة مطلقاً، لکن الأحوط الاحتراز سیما فی الثانی.
وقد ادّعی بعض المدقّقین فی تعلیقته علی مکاسب شیخنا المرتضی الإجماع علی حرمته ولو لم یکن فیه إغراء لکون المخاطب مثلاً عالماً بعلم المتکلّم بعدم
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 76
مطابقة کلامه للواقع.
حکم الإخبار عن قضیّة مشکوک فیها
ثمّ إنّ مقتضی الاُصول العقلیّة والنقلیّة جواز الإخبار عن قضیّة مشکوک فیها، فلو شکّ فی أنّ زیداً قائم یجوز له الإخبار بقیامه، لأ نّه من الشبهة المصداقیّة لأدلّة الکذب.
إلاّ أن یدّعی وجوب الصدق، لا بمعنی وجوبه مطلقاً، بل بمعنی أ نّه لو أراد المتکلّم الإخبار یجب علیه أن یصدق فلا بدّ له من إحراز کونه صدقاً بعلم أو أمارة.
لکن إثبات ذلک مشکل بل ممنوع، وإن أفتی به صاحب الوسائل ومستدرکه، فإنّ الأخبار لا تصلح لإثباته، إمّا لقصور الدلالة کما هو کذلک غالباً، أو لقصور السند، فراجعها.
أو یقال بإلغاء الخصوصیّة ممّا وردت متواترةً بحرمة الفتوی بغیر علم، وما وردت بحرمة القضاء وکذا الشهادة کذلک.
وفیه أنّ غایة مایمکن إلغاؤها هوالکذب علی اللّٰه تعالی وعلی رسوله صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة ـ علیهم السلام ـ فی خصوص الأحکام ولو کان بنحو الإخبار لا الفتوی. فلو أخبر عن اللّٰه أو عن رسوله صلی الله علیه و آله وسلم بأ نّه قال کذا فی مورد الشبهة الحکمیّة، یکون محرّماً
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 77
لفحوی أدلّة حرمة الفتوی بغیر علم، دون الإخبار بالاُمور الاُخر، کالإخبار بأنّ للنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم صفةً کذائیّة أو نحو ذلک، فضلاً عن الإخبارات العادیّة بالنسبة إلی غیرهم.
أو یقال: إنّ الإخبار فی مورد الشکّ جزماً إخبار عن علم المخبر، وهو کذب أو له مفسدته.
وفیه منع کونه إخباراً عنه، بل ینتقل السامع منه إلیه. وقد تقدّم عدم الدلیل علی حرمة مثله ومنع کون مناط الکذب فیه.
والأولی الاستدلال علیه ـ مضافاً إلی العلم الإجمالی المنجّز فی الموارد المشکوک فیها، فإنّ فی کلّ مورد منها یعلم إجمالاً بأ نّه إمّا الإخبار عن الثبوت کذب محرّم، أو الإخبار عن عدمه، فلا یجوز عقلاً الإخبار بأحد الطرفین ـ بجملة من الروایات:
کحسنة علیّ بن جعفر، عن أخیه موسی بن جعفر ـ علیه السّلام ـ ، عن آبائه فی حدیث قال: «لیس لک أن تتکلّم بما شئت، لأنّ اللّٰه عزّ وجلّ یقول: «وَ لاٰ تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ»».
فإنّ الظاهر منها أنّ الآیة الکریمة تشمل القول بغیر علم، فتکون هی مضافاً إلی الروایة دلیلاً علی المطلوب.
وفی المجمع أ نّها أعمّ من القول بغیر علم، والاعتقاد بما لا یعلم، وغیرهما. والمتیقّن من الروایة هو القول بغیر علم بقرینة استشهاده بالآیة الشریفة،
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 78
ومقتضی إطلاقها عموم الحکم لجمیع مصادیق الإخبار بغیر علم، ولا دلیل علی اختصاصها بالإخبار عن اللّٰه تعالی.
وصحیحة هشام بن سالم، قال: قلت لأبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ: ما حقّ اللّٰه علی خلقه؟ قال: «أن یقولوا ما یعلمون ویکفّوا عمّا لا یعلمون، فإذا فعلوا ذلک فقد أدّوا إلی اللّٰه حقّه»، ونحوها روایة زرارة.
ویمکن المناقشة فیها بأنّ مطلق ثبوت حقّ منه ـ تعالی ـ علی خلقه لایدلّ علی وجوب أدائه، إذ لعلّه من الحقوق المستحبّة، أو یقال: إنّ الحقّ فیها منصرف إلی ما هو من قبیل أحکام اللّٰه تعالی، لا مطلق القول بغیر علم.
وموثّقة زیاد بن أبی رجاء، عن أبی جعفر ـ علیه السّلام ـ ، قال: «ما علمتم فقولوا، وما لم تعلموا فقولوا: اللّٰه أعلم. إنّ الرجل لینتزع الآیة من القرآن یخرّ فیها أبعد ما بین السماء والأرض».
إلاّ أن یناقش فیها بأنّ ذیلها قرینة علی أنّ المراد من القول بغیر علم مثل الفتوی والإخبار عن اللّٰه تعالی لا مطلقاً.
إلاّ أن یقال: إنّ ذکر مصداق أهمّ المصادیق لا یصیر قرینة علی الاختصاص، فالعبرة بإطلاق الصدر.
وأ مّا المناقشة فیها باشتمالها علی ما لا یجب جزماً وهو القول بأنّ اللّٰه أعلم، ففی غیر محلّها، لأ نّه کنایة عن عدم جواز القول بغیر علم. فالظاهر المتفاهم منها عدم جوازه.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 79
وتؤیّد المطلوب روایة أبی یعقوب إسحاق بن عبد اللّٰه ـ والظاهر صحّتها ـ عن أبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ «إنّ اللّٰه تعالی خصّ عباده بآیتین من کتابه: أن لا یقولوا حتّی یعلموا، ولا یردّوا ما لم یعلموا، وقال تعالی: «أَلَمْ یُؤْخَذْ عَلَیْهِمْ مِیثاقُ الکِتاب أَنْ لا یَقُولُوا عَلَی الله إِلاّ الحَقّ» وقال: «بَلْ کذّبوا بما لم یُحیطُوا بِعِلْمِهِ وَ لمّا یَأْتِهِمْ تَأْویله»».
ولکن الظاهر اختصاصها بالأحکام ونحوها.
وروایة زرارة: «إنّ من حقیقة الإیمان أن لا یجوز منطقک علمک».
ویؤیّده أیضاً فحوی صحیحة محمّد بن مسلم عن أبی عبد اللّٰه ـ علیه السّلام ـ ، قال: «إذا سئل الرجل منکم عمّا لا یعلم فلیقل: لا أدری، ولا یقل: الله أعلم، فیوقع فی قلب صاحبه شکّاً. وإذا قال المسؤول: لا أدری، فلا یتّهمه السائل». فتأ مّل.
مضافاً إلی قبح الإخبار بغیر علم، بل الظاهر عدم جوازه فی ارتکاز المتشرعة، وکان منزلته منزلة الکذب لدیهم.
هذا مع قطع النظر عن الاستصحاب فی بعض الموارد، وإلاّ فقد یمکن التمسّک به لإحراز الموضوع. فإذا شکّ فی طلوع الشمس بعد الیقین بعدم طلوعها یقال: إنّ الإخبار بطلوعها کان کذبا، والآن کما کان فینقّح به موضوع الحرمة، وهذا لیس باستصحاب تعلیقیّ بل تنجیزیّ علی عنوان کلیّ قبل تحقّق مصادیقه،
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 80
کاستصحاب حرمة شرب الخمر وأکل الربا، واستصحاب وجوب صلاة الجمعة الذی یرجع إلی فعل المکلّف أی عنوانه. ویجری الأصل الحکمی مع الغضّ عن الموضوعی علی عنوان کلّی، فینحلّ العلم الإجمالی حکماً.
نعم استصحاب عدم طلوع الشمس لا یثبت کون الإخبار بالطلوع کذباً ومحرّماً، کما لا یخفی.
هذا بالنسبة إلی أصل المسألة. وأ مّا لو قلنا بحرمة القول بغیر علم هل یجری الاستصحاب ویقوم مقام العلم الموضوعی بدلیله فیستصحب عدم طلوعها ویخبر به أو لا؟
الظاهر جریانه، لما قلنا فی محلّه من قیامه مقامه بدلیله.
هذا إذا قلنا بأنّ العلم المأخوذ فی أدلّة حرمة القول بغیر علم العلم
الوجدانی، وأ مّا إن قلنا بأنّ المراد به فی نظائر المقام الحجّة، کما هو الحقّ، فلا إشکال فی وروده علیها وإخراج موضوعه عن القول بغیر علم.
المکاسب المحرمةج. 2صفحه 81