الأمر الرابع فی إمکان کون کلّ من المرجّحین مرجّحاً للصدور أو لجهته
قد اتّضح: أنّ المرجّح المنصوص منحصر فی موافقة الکتاب ومخالفة العامّة، فکلّ واحد منهما یمکن أن یکون ثبوتاً مرجّحاً لأصل الصدور، أو لجهته، ویمکن أن یکون کلّ لجهة؛ لأنّ الأخبار المخالفة للکتاب والسنّة، یمکن أن تکون غیر صادرة منهم نوعاً، فجعلت المخالفة أمارة علی عدم الصدور، أو صادرة لا لبیان الحکم الواقعیّ، بل للاحتشام عن ولاة الجور وتقیّة منهم.
وکذا الأخبار الموافقة للعامّة، یمکن أن لا تکون صادرة منهم، وإنّما دسّها الدسّاسون فی أخبارهم، ویمکن أن تکون صادرة منهم لأجل التقیّة، فلا یتمحّض شیء منهما بحسب الثبوت فی ترجیح الصدور أو جهته، بل یمکن إرجاع الترجیح بالأعدلیّة وما یتلوها وکذا الاشتهار، إلیٰ جهة الصدور بوجه.
کتابالتعادل و الترجیحصفحه 215
وأمّا بحسب مقام الإثبات، فالأخبار الواردة فی الترجیح بموافقة الکتاب مختلفة:
فمنها: ما یظهر منها أنّها مرجّحة لأصل الصدور، کروایة ابن الجهم حیث قال فی الجواب عن ورود الأحادیث المختلفة: «إنّ ما یشبه کتاب الله وأحادیثنا فهو منّا، وما لا یشبههما فلیس منّا».
والظاهر من قوله: «لیس منّا» أی لم یصدر منّا، لا أنّه صدر للتقیّة، وکذا روایته الاُخریٰ عن العبد الصالح.
ومنها: ما یظهر منها أنّها مرجّحة لجهة الصدور، کقوله فی روایة المیثمیّ: «لأ نّا لا نرخّص فیما لم یرخّص فیه رسول الله ، ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله إلاّ لعلّة خوف ضرورة...»، فإنّ الظاهر منه أنّ ما خالف رسول الله قد یصدر منهم تقیّة وخوفاً، فأمر فی أخبار العلاج بردّ ما خالف السنّة من المتعارضین لأجله أو للأعمّ منه.
وأمّا الأخبار الواردة فی الترجیح بمخالفة العامّة، فلا یظهر منها أنّها للترجیح الصدوریّ أو الجهتیّ.
کتابالتعادل و الترجیحصفحه 216
نعم، ربّما یرجح من بعض الأخبار الاُخر کونها من مرجّح أصل الصدور، کأخبار الدسّ کما أنّ کثرة صدور الأخبار تقیّة ممّا یرجّح کونها مرجّحة لجهة الصدور.
والإنصاف: أنّ کلاًّ من الاحتمالین ممکن، والجزم بأحدهما لا یخلو من جزاف.
ثمّ إنّک قد عرفت: أنّ مقتضیٰ مصحّحة عبد الرحمان بن أبی عبدالله ، أنّ الترجیح بموافقة الکتاب مقدّم علی الترجیح بمخالفة العامّة؛ ولا وجه لرفع الید عنهما.
وما قیل: من أنّ المرجّحات الصدوریّة مقدّمة علی المرجّحات الجهتیّة، وهی علی المرجّحات المضمونیّة؛ لتقدّم التعبّد بأصل الصدور علی التعبّد بجهته، وهی علی التعبّد بالمضمون.
ففیه ما لا یخفیٰ:
أمّا أوّلاً: فلأنّ تقدّم التعبّد بالصدور علیٰ جهته، وهو علیٰ مضمونه، ممّا لا أصل له ولا دلیل علیه؛ لأنّ بناء العقلاء علی العمل بخبر الثقة بعد تمامیّة أصل
کتابالتعادل و الترجیحصفحه 217
الصدور، وجهته، وظهوره، وسائر الاُصول العقلائیّة، ومع عدم جریان واحد منها لا یعملون به، ولا معنیٰ للتعبّد بالصدور إلاّ العمل به، وما لا عمل له بوجه لا یکون مورداً للاُصول العقلائیّة، ولا للأدلّة الشرعیّة علیٰ فرضها.
فما یقال: من أنّ التعبّد بالصدور مقدّم علی التعبّد بجهته، إن کان مراده هو التعبّد العملیّ شرعاً، أو البناء العملیّ لدی العقلاء، فلا معنیٰ له، وهو واضح، وإن کان غیر ذلک فلا محصّل له.
وأمّا ثانیاً: فلأ نّه لو سلّم، فإنّما هو فی غیر باب التعارض؛ ضرورة أنّ کافّة الاُصول اللّفظیة والعقلیّة تسقط بالمعارضة، وتکون الروایتان ساقطتین رأساً، فلا بدّ فی العمل بواحدة منهما تعییناً أو تخییراً، من التماس دلیل، ولیس إلاّ أخبار العلاج، وهی تدلّ علیٰ تقدّم الترجیح بموافقة الکتاب.
وأمّا ثالثاً: لو سلّم کلّ ذلک، فلا یقاوم بناءُ العقلاء المصحّحةَ المصرّحة بتقدّم الترجیح بموافقة الکتاب علی الترجیح بمخالفة العامّة؛ لأنّ الأدلّة الشرعیّة ـ علیٰ فرضها ـ والاُصولَ العقلائیّة، کلّها قابلة للتخصیص والردع فلا تغفل، هذا کلّه فی المرجّح المنصوص.
وأمّا غیره، فبناءً علیٰ أنّ الترجیح بمطلقه إنّما هو لأجل دوران الأمر بین التعیین والتخییر، فلا ترجیح لمرجّح علیٰ مرجّح إلاّ ما هو أتمّ ملاکاً وأقرب إلی الواقع.
کتابالتعادل و الترجیحصفحه 218
هذا تمام الکلام فی مهمّات باب التعادل والتراجیح، والحمد لله أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً. وقد وقع الفراغ من تألیفه لیلة الجمعة، تاسع شهر جمادی الأُولیٰ سنة 1370، فی بلدة «قم» حرم أهل البیت علیهم السلام ومن إخراجه إلی المبیضّة یوم الثالث والعشرین من شهر رمضان المبارک، سنة ألف وثلاثمائة وسبعین هجریّة قمریّة، علیٰ هاجرها الصلاة والسلام فی «محلاّت».
کتابالتعادل و الترجیحصفحه 219
کتابالتعادل و الترجیحصفحه 220