الفصل السابع فی متعلَّق الأوامر و النواهی
هل الأوامر والنواهی تتعلّق بالطبائع أو الأفراد؟
لاتخلو کلمات القوم فی تحریر محلّ النزاع من اضطراب، فیظهر من بعضها أنّ المسألة عقلیّة صِرفة أو مبنیّة علیها، وأنّ الإرادة والاشتیاق والطلب لایمکن أن تتعلّق بما لایکون منشأ للآثار، فعلی القول بأصالة الوجود لابدّ من تعلُّقها به، وعلی القول بأصالة الماهیّة لابدّ أن تتعلّق بها.
أو أ نّها مبنیّة علی وجود الطبیعی وعدمه، فعلی الأوّل تتعلّق بها، وعلی الثانی بالفرد؛ لامتناع تعلُّقها بما لاوجود له.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 63
ویظهر من بعضها: أنّ النزاع فی أ نّها تتعلّق بالطبائع أو بالوجود الخارجی؛ حیث أبطل الثانی بأ نّه طلب الحاصل.
ومن بعضها: أ نّها مسألة لُغویّة؛ حیث تشبّث بالتبادر فی إثبات تعلّقها بالطبائع.
ومن بعضها: أن النزاع فی سرایة الإرادة للخصوصیّات اللاحقة للطبیعة فی الخارج وعدمها، إلی غیر ذلک.
والتحقیق: أنّ محطّ البحث لیس فی تعلُّقها بالکلّی الطبیعی أو أفراده ممّا هو المصطلح فی المنطق؛ فإنّ الماهیّات الاعتباریّة المخترعة کالصلاة والحجّ لیست من الکلّیّات الطبیعیّة، ولا مصادیقها مصادیق الکلّی الطبیعی؛ فإنّ الماهیّات المخترعة وکذا أفرادها، لیست موجودة فی الخارج؛ لأنّ المرکّب الاختراعی ـ کالصلاة والحجّ ـ لم یکن تحت مقولة واحدة، ولا یکون لمجموع اُمورٍ وجود حتّی یکون مصداقاً لماهیّة وکلّی طبیعی.
وبه یظهر أنّ المسألة أجنبیّة عن أصالة الوجود والماهیّة، بل المراد من الطبیعی هاهنا هو العنوان الکلّی، سواء کان من الطبائع الأصیلة أم لا.
ولایختصّ البحث بصیغة الأمر والنهی، بل الکلام فی متعلّق الطلب بأیّ دالّ کان؛ ولو بالجملة الإخباریّة فی مقام الإنشاء.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 64
ثمّ لایبعد أن یکون محطّ البحث: أنّ الأمر إذا تعلّق بماهیّة بالمعنی المتقدّم، هل یسری إلی الأفراد والمصادیق المُتصوّرة بنحو الإجمال منها؛ بحیث تکون الطبیعة وسیلة إلی تعلُّقه بالمصادیق الملحوظة بنحو الإجمال، لا بما هی ملحوظة ومتصوّرة بل بنفس ذاتها، کما فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فیکون معنی «صلِّ»: أوجد فردها ومصداقها، لا الفرد الخارجی ولا الذهنی، بل ذاته المتصوّرة إجمالاً، فإنّ الأفراد قابلة للتصوُّر إجمالاً قبل وجودها، کما أنّ الطبیعة قابلة له قبله، وما ذکرنا نزاع معقول.
والتحقیق: أنّ الأوامر والنواهی مطلقاً مُتعلِّقة بالطبائع؛ بمعنی أنّ الآمر قبل تعلُّق أمره بشیء یتصوّره بکلّ ما هو دخیل فی غرضه، ویبعث المکلّف نحوه لیوجده فی الخارج؛ ضرورة أنّ البعث الحقیقی لایمکن أن یتعلّق بما هو أوسع أو أضیق ممّا هو دخیل فی الغرض؛ للزوم تعلُّق الإرادة والشوق بغیر المقصود أو به مع الزیادة جُزافاً، فإذا لم تکن للخصوصیّات الفردیّة دخالة فی غرض الآمر لایمکن أن یبعث نحوها؛ لأنّ البعث تابع للإرادة التشریعیّة التابعة للمصالح، وتعلُّقها بما هو غیر دخیل فی تحصیلها ممتنع، کتعلُّقها ابتداءً بأمر بلا غایة.
وتوهُّم تعلُّقها تبعاً بما هو من ملازمات المراد باطل؛ لأ نّه مع خروجه عن محطّ البحث ـ لأنّ الکلام لیس فی استلزام إرادة لإرادة اُخری کباب المقدّمة، بل فی متعلّق الأمر ـ قد فرغنا عن بطلانه.
وإن شئت قلت: إنّ الطبیعة ـ أیّة طبیعة کانت ـ لا یُعقل أن تکون
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 65
مرآةً لشیء من الخصوصیّات الفردیّة اللاحقة لها فی الخارج، ومجرّد اتّحادها معها خارجاً لایوجب الکشف والدلالة، فلایکون نفس تصوُّر الماهیّة کافیاً فی تصوُّر الخصوصیّات، فلابدّ للآمر من تصوُّرها مستقلاً بصورة أو صور غیر صورة الطبیعی ولو بالانتقال من الطبیعی إلیها، ثمّ تتعلّق [بها مستقلاً إرادة اُخری] غیر الإرادة المتعلّقة بنفس الطبیعة، وهذه الإرادة جزاف محض.
بل یمکن أن یقال: إنّ تصوُّر الأفراد غیر تصوُّر الطبیعة؛ ضرورة أنّ تصوُّر الخاصّ الجزئیّ من شؤون القوی النازلة للنفس، وتعقُّل الطبیعة من شؤون العاقلة بعد تجرید الخصوصیّات، فربّما یتصوّر الأفراد مع الغفلة عن نفس الطبیعة وبالعکس.
فالآمر إذا أراد توجیه الأمر إلی الطبیعة لابدّ من لحاظها فی نفسها، وإذا أراد الأمر بالأفراد لابدّ من لحاظها: إمّا بعنوان إجمالیّ، وهو مباین لعنوان الطبیعة فی العقل، وإمّا تفصیلاً مع الإمکان، وهو ـ أیضاً ـ غیر لحاظ الطبیعة.
فإذا فُرض کون الطبیعة ذات مصلحة ولو بوجودها الخارجیّ، فلابدّ للآمر من تصوُّرها وتصوُّر البعث إلیها وإرادته، ففی هذا اللحاظ لاتکون الأفراد ملحوظة لا إجمالاً ولا تفصیلاً، ولاتکون ملازمة بین اللحاظین، وصِرفُ اتّحاد الخُصوصیّات الخارجیة مع الطبیعة خارجاً لایوجب الملازمة العقلیّة، فلابُدّ لتعلُّق الأمر بها من لحاظ مُستأ نَف وإرادة مُستأ نَفة جُزافاً.
ثمّ إنّ البعث نحو المأمور به، سواء کان بصیغة الأمر أو بدالّ آخر، وکذا
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 66
الزجر فی النهی، هل هو عبارة عن طلب الوجود فی الأمر، وطلب ترکه أو الزجر عنه فی النهی؛ بمعنی وضع الهیئة لطلب الإیجاد أو الوجود ـ مثلاً ـ أو استعمالها فیه.
أو أنّ البعث یتعلّق بوجود الطبیعة؛ بمعنی أنّ الهیئة موضوعة لنفس البعث، ولمّا کان البعث إلی الطبیعة لا معنی له قُدّر الوجود.
أو لاذا ولاذاک، بل البعث إلی الطبیعة لازمه العقلی أو العرفی تحصیلها فی الخارج، فقوله: «صلِّ» یفید البعث إلی الطبیعة، ولکن الطبیعة لاتکون طبیعة حقیقةً وبالحمل الشائع إلاّ بوجودها الخارجی، فنفس الطبیعة لیست بشیء، وفی الوجود الذهنی لیست هی هی حقیقة، فیکون البعث المتعلِّق بنفس الطبیعة بعثاً إلی تحصیلها، و هو لایکون إلاّ بایجادها خارجاً عقلاً وعرفاً. وبعبارة اُخری: أنّ إطاعة التحریک نحو الطبیعة والانبعاث عن البعث إلیها بإیجادها وتحصیلها خارجاً؟ وجوه.
الظاهر هو الأخیر؛ لأنّ الهیئة لم توضع إلاّ لإیقاع البعث نحو المادّة بحکم التبادر، والمادّة هی الطبیعة، والمتفاهم عرفاً من الأمر هو طلب المأمور به؛ أی البعث نحو المادّة؛ ولهذا لایفهم من مثل «أوجد الصلاة» إیجاد وجود الصلاة، بل یفهم منه البعث إلی الإیجاد.
تنبیه: فی کیفیّة تعلُّق الأمر بالماهیّة:
هل یتعلّق الأمر بنفس الماهیّة، أو بما هی ملحوظة مرآةً للخارج باللحاظ
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 67
التصوُّری وإن کان اللاحظ یقطع بخلافه بالنظر التصدیقی؟
قد یقال: إنّ محطّ البحث فی تعلُّق الأمر بالطبیعة هو الطبیعة علی النحو الثانی، وأ مّا نفس الطبیعة فلایُعقل تعلُّق الأمر بها؛ لأ نّها من حیث هی لیست إلاّ هی؛ لاتکون مطلوبة ولا مأموراً بها، فلابدّ أن تؤخذ الطبیعة بما هی مرآة للخارج باللحاظ التصوُّری؛ حتّی یمکن تعلُّق الأمر بها.
ولایخفی أنّ هذا ناشٍ من الغفلة عن معنی قولهم: الماهیّة من حیث هی لیست إلاّ هی، و لهذا زعم أنّ الماهیّة لایمکن أن یتعلّق بها أمر أو یلحقها شیء آخر، مع أنّ الأمر لیس کذلک، بل معنی هذا أنّ الأشیاء کلّها منتفیة عن مرتبة ذات الماهیّة، ولم یکن شیء عیناً لها ولا جزءً مقوِّماً، وأنّ کلّ ما ذکر یلحق بها وخارج عن ذاتها وذاتیّاتها، وهذا لایُنافی لحوق شیء بها، فالماهیّة وإن کانت من حیث هی لیست إلاّ هی ـ أی فی مرتبة ذاتها لاتکون إلاّ نفس ذاتها ـ لکن تلحقها الوحدة والکثرة والوجود وغیرها من خارج ذاتها، وکلّ ما یلحقها لیس ذاتاً ولا ذاتیّاً لها؛ أی ذاتیّ باب إیساغوجی.
فالأمر إنّما یتعلّق بنفس الماهیّة من غیر لحاظها متّحدة مع الخارج، بل لمّا رأی المولی أنّ الماهیّة فی الخارج منشأ الآثار ـ من غیر توجُّهٍ نوعاً إلی کون الآثار لوجودها أو لنفسها فی الخارج ـ ولم تکن موجودة، یبعث المأمور إلی إیجادها وصیرورتها خارجیّة، فالمولی یری أ نّها معدومة، ویرید
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 68
بالأمر إخراجها من المعدومیّة إلی الموجودیّة بوسیلة المکلَّف. فلحاظ الاتّحاد التصوُّری مع القطع بالخلاف تصدیقاً ـ مع کونه لامحصَّل له رأساً ـ لایفید شیئاً، ومع الغفلة عن القطع بالخلاف منافٍ لتعلّق الأمر وتحریک المأمور نحو الإیجاد.
وبالجملة: هذا التکلُّف ناشٍ من توهُّم عدم إمکان تعلُّق الأمر بالماهیّة؛ لتخیّل مُنافاة ذلک لما اشتهر بینهم من القول المتقدّم، مع أ نّه أجنبیّ عنه.
فالتحقیق الذی یساعد علیه الوجدان: أنّ الأمر متعلِّق بنفس الماهیّة فی حین توجّه الآمر إلیٰ معدومیّتها، ویرید بالأمر سدَّ باب إعدامِها، وإخراجَها إلی الوجود بوسیلة المکلّف.
هذا کلّه، مع أنّ مرآتیّة الماهیّة للأفراد غیر معقولة، کما مرّ مراراً.
نقد وتحصیل: فی المراد من وجود الطبیعی خارجاً:
قد استأنف بعض المحقّقین ـ بعد بنائه علی تعلُّق الأمر بالطبیعة ـ فصلاً محصّله: أ نّه إذا تعلّق الأمر بعنوان علی نحو صِرف الوجود، فهل یسری إلی أفراده تبادلاً، فتکون الأفراد بخُصوصیّاتها تحت الطلب، أم لا؟
وعلی الثانی فهل یسری إلی الحصص المقارنة للأفراد کما فی الطبیعة الساریة، أم لا، بل الطلب یقف علی نفس الطبیعة؟
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 69
قال: توضیح المراد یحتاج إلی مقدّمة: وهی أنّ الطبیعیّ حسب أفراده یتحصّص، وکلّ فرد منه مشتمل علی حصّة منه مغایرة للحصّة الاُخری، باعتبار محدودیّتها بالمشخّصات الفردیّة، ولا یُنافی ذلک اتّحاد تلک الحصص بحسب الذات، وهذا معنی قولهم: إنّ نسبة الطبیعی إلی أفراده نسبة الآباء إلی الأولاد، وإنّ مع کلّ فرد أباً من الطبیعیّ غیر الآخر، ویکون الآباء مع اختلافها بحسب المرتبة متّحدة ذاتاً.
ثمّ قال: التحقیق یقتضی وقوف الطلب علی نفس الطبیعة، وأقام علیه دلیلین، ثمّ قال: لایخفی أنّ عدم سرایة الطلب إلی الحصص إنّما هو بالقیاس إلی الحیثیّة التی تمتاز بها الحصص الفردیّة بعضها عن البعض الآخر المشترک معه فی الجنس والفصل القریبین، وأ مّا بالنسبة إلی الحیثیّة الاُخری التی بها تشترک تلک الحصص، وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر المشارکة لها فی الجنس القریب، وهی الحیثیّة التی بها قوام نوعیّتها، فلا بأس بدعوی السرایة إلیها، بل لعلّه لا محیص عنها من جهة أنّ الحصص بالقیاس إلی تلک الحیثیّة واشتمالها علی مقوّمها العالی، لیست إلاّ عین الطبیعیّ، ونتیجة ذلک کون التخییر بین الحصص شرعیّاً لا عقلیّاً.
إن قلت: إنّ الطلب تعلّق بالعناوین والصور الذهنیّة، لا المُعنونات الخارجیّة، فیستحیل سرایته إلی الحصص الفردیّة؛ حیث إنّها تباین الطبیعیّ ذهناً، وإن کان کلّ من الحصص والطبیعیّ ملحوظاً بنحو المرآتیّة.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 70
قلت: إنّ المدّعی هو تعلُّق الطلب بالطبیعیّ بما هو مرآة للخارج، ولا ریب فی أنّ وجود الطبیعیّ فی الخارج لایمتاز عن وجود الحصص، بل هو الجهة المشترکة الجامعة بین الحصص، والمرئیّ بالطبیعیّ الملحوظ مرآةً للخارج لیس إلاّ تلک الجهة الجامعة بین الحصص، وهذا مرادنا من سرایة الطلب من الطبیعیّ إلی حصصه، بل التعبیر بها مسامحیّ؛ إذ بالنظر الدِّقِّی یکون الطلب المتعلّق بالطبیعیّ الملحوظ مرآةً متوجّهاً إلی الجهة الجامعة بین الحصص، فمتعلّق الطلب فی الحقیقة هی تلک الجهة الجامعة بعینها. انتهی بطوله.
الظاهر أ نّه أشار فی تحقیق الکلّی الطبیعیّ إلی ما اشتهر بین تلامذته نقلاً عنه: من أنّ الحصص بالنسبة إلی الأفراد کالآباء والأولاد، والطبیعی هو أب الآباء، وهو الجهة المشترکة بین الحصص، ویکون الطبیعیّ مرآةً لهذه الجهة المشترکة الخارجیّة.
وزعم أنّ المراد بقول بعض أهل فنّ المعقول: ـ إنّ الطبیعیّ بالنسبة إلی الأفراد کالآباء والأولاد ـ هو حصصه، وافترض آباءً هی الحصص، وأب الآباء وهو القدر المشترک بینها الذی یکون الطبیعیّ مرآةً له، غفلةً عن أنّ ما ذکروا ـ من أنّ نسبة الطبیعیّ إلی الأفراد نسبة الآباء إلی الأبناء ـ فرار عن الأب الواحد الذی التزم به الرجل الهمدانیّ الذی صادف الشیخ الرئیس، ففی الحقیقة جمع هذا المحقّق بین الالتزام بمقالة الرجل الهمدانیّ وبین ما ذُکر جواباً له؛ غفلةً عن حقیقة الأمر.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 71
ولمّا کان ذلک منشأ لاشتباه کثیر منهم فی کثیر من المباحث، فلابأس بالإشارة الإجمالیّة إلی مُراد الرجل الهمدانیّ، ومراد القوم فی مُقابله، فنقول:
زعم الرجل أنّ معنی وجود الطبیعیّ فی الأعیان هو أنّ ذاتاً واحدةً بعینها مقارنة لکلّ واحد من المقارنات المختلفة موجودة بنعت الوحدة فی الخارج، وأنّ ما به الاشتراک الذاتیّ بین الأفراد متحقّق خارجاً بما هو الجهة المشترکة.
وکأ نّه توهّم ـ من قولهم: إنّ الأشخاص تشترک فی حقیقة واحدة هی الطبیعیّ، وقولهم: إنّ الکلّی الطبیعیّ موجود فی الخارج ـ أنّ مقصود القوم هو موجودیّة الجهة المشترکة بما هی کذلک فی الخارج، قائلاً: هل بلغ من عقل الإنسان أن یظنّ أنّ هذا موضع خلاف بین الحکماء؟! علی ما حکی عنه.
وربّما یُستدلّ لما توهّمه الرجل تارةً: بأنّ الطبیعیّ معنیً واحد منتزع من الخارج، ولایمکن أن یکون الکثیر بما هو کثیر منشأ لانتزاع الواحد، فلابدّ من جهة اشتراک خارجیّ بنعت الوحدة؛ حتّی یکون الطبیعی مرآةً لها ومُنتزعاً منها.
واُخری: بأنّ العلل المختلفة إذا فرض اجتماعها علی معلول واحد، لابدّ فیها من جهة وحدة خارجیّة مُؤثّرة فی الواحد بمقتضی قاعدة لزوم صدور الواحد عن الواحد.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 72
وربّما یُمثّل لذلک بأمثلة جزئیّة، کتأثیر بندقتین فی قتل شخص، وتأثیر قوی أشخاص فی رفع حجر، وتأثیر النار والشمس فی حرارة الماء.. إلی غیر ذلک من هوساتهم.
وهذا معنی کون الطبیعیّ کأب واحد بالنسبة إلی الأبناء؛ أی یکون بنعت الوحدة والاشتراک موجوداً فی الخارج.
وفی مُقابله قول المحقّقین، وهو أنّ الطبیعیّ موجود فی الخارج لا بنعت الوحدة والنوعیّة واشتراک الکثرة فیه، بل من حیث طبیعته وماهیّته، وأنّ العموم والاشتراک لاحق له فی موطن الذهن، والجهة المشترکة لیس لها موطن إلاّ العقل، والخارج موطن الکثرة، والطبیعیّ موجود فی الخارج بوجودات متکثّرة، وهی متکثّرة حسب تکثُّر الأفراد والوجودات، لابمعنی تحصُّصه بحُصص؛ فإنّه لامُحصَّل له، بل بمعنی أن کلّ فرد متّحد فی الخارج مع الطبیعیّ بتمام ذاته؛ لأنّ ذاته غیر مرهونة بالوحدة والکثرة، فهو مع الکثیر کثیر [ومع الواحد واحد].
فزید إنسان، لاحصّة منه، وعمرو إنسان آخر، لا حصّة اُخری منه، وهکذا، وإلاّ لزم کَون زید بعض الإنسان لا الإنسان، وعمرو کذلک، وهو
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 73
ضروریّ الفساد.
فلو وجدت الجهة المشترکة فی الخارج لزم أن تکون موجودة بنعت الوحدة، لأنّ الوجود مساوق للوحدة، فلزم إمّا وحدة جمیع الأفراد وجوداً وماهیّة، أو کون الواحد کثیراً، وکون کلّ فرد موجوداً بوجودین: أحدهما بحیثیّة الجهة المشترکة، فیکون کلّ الأفراد واحداً فی الوجود الخارجیّ من هذه الحیثیّة، و ثانیهما وجوده بالحیثیّة [المُمیِّزة له عن] قرنائه.
وهذا ـ أی کون الإنسان غیر موجود بنعت الوحدة والاشتراک بل بنعت الکثرة المحضة ـ مرادهم من أنّ الطبیعیّ مع الأفراد کالآباء مع الأولاد، لا الأب مع الأبناء.
وهذا الفاضل الاُصولیّ لمّا لم یصل إلی مغزی [کلامهم] جمع بین الآباء والأب، فجعل للأفراد أباً وجدّاً هو أب الآباء، ولهذا تراه صرّح فی جواب «إن قلت»: بأنّ وجود الطبیعیّ فی الخارج هو الجهة المشترکة، وأنّ المرئیّ بالطبیعیّ الملحوظ مرآةً للخارج لیس إلاّ تلک الجهة الجامعة بین الحصص، وهذا بعینه قول الرجل الهمدانیّ الذی أفرد شیخ المشّائین رسالة لردّه.
وقد نُقِل نصّ الشیخ بأنّ الإنسانیّة الموجودة کثیرة بالعدد، ولیست ذاتاً واحدة، وکذلک الحیوانیّة، لا کثرة باعتبار إضافات مختلفة، بل ذات الإنسانیّة المقارنة لخواصّ زید هی غیر ذات الإنسانیّة المقارنة لخواصّ عمرو، فهما إنسانیّتان: إنسانیّة قارنت خواصّ زید، وإنسانیّة قارنت خواصّ عمرو،
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 74
لاغیریّة باعتبار المقارنة حتّی تکون حیوانیّة واحدة تقارن المتقابلات من الفصول. انتهی.
وهذه العبارة ـ کما تری ـ ناصّة علی خلاف ما زعم هذا المحقّق، مع أنّ البرهان قائم علی خلافه.
وأ مّا ما أیّدنا به قول الهمدانی من حدیث انتزاع الواحد عن الواحد، فبعد الغضّ عن أنّ الطبیعیّ لیس من الانتزاعیّات ـ بل من الماهیّات المتأصّلة الموجودة فی الخارج تبعاً للوجود تحقّقاً وتکثُّراً، وأنّ معنی موجودیّتها موجودیّتها ذاتاً تبعاً للوجود، لا موجودیّة منشأ انتزاعها، وأنّ کثرة الوجود منشأ تکثُّرها خارجاً؛ لأ نّها بذاتها لا کثیرة ولا واحدة، فالکثرةُ تعرضها خارجاً؛ بمعنی صیرورة ذاتها کثیرة بتبع الوجود خارجاً، والوحدة تعرضها فی العقل عند تجریدها عن کافّة اللواحق ـ أنّ الانتزاع هاهنا لیس إلاّ عبارة عن إدراک النفس من کلّ فرد بعد تجریده عن الممیّزات ما تدرک من فرد آخر.
فإذا جرّدت النفسُ خصوصیّات «زید» تُدرک منه معنی الإنسان أی طبیعیّه من غیر اتّصافه بنعت الوحدة المشترکة النوعیّة، وکذا إذا جرَّدت خُصوصیّاتِ «عمرو» تنال منه ما تنال من «زید» بلاتفاوت، وبعد لحاظ کونه مشترکاً بین الأفراد تحکم بأ نّه الجهة المشترکة، فالوحدة تعرضه فی العقل عند التحلیل والتجزئة، لا فی الخارج ولا فی حاقّ الذهن.
وأ مّا حدیث تأثیر الواحد فی الواحد ففی غایة السقوط، منشؤه مقایسة الفاعل الإلهی البسیط بالفواعل الطبیعیّة، مع عدم التأمُّل فیها أیضاً؛ ضرورة
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 75
أنّ العلّة البسیطة الإلهیّة یکون معلولها عین التعلُّق بها، و [ما] یکون بتمام هویّته وحقیقته ربطاً محضاً بعلّته، لایمکن أن یکون له حیثیّة غیر مرتبطة بها، وإلاّ لزم الاستغناء الذاتی، وهو یُنافی الإمکان، وفی مثله لایمکن أن یجتمع علیه علّتان حتّی یبحث فی کیفیّته، ولا یُعقل تفویض الفاعلِ الإلهیّ أثرَه إلی غیره، أو تعلُّق المعلول بالذات بغیر علّته الخاصّة به.
وبالجملة: لا یُعقل ربط المعلول البسیط تارةً بهذه العلّة، واُخری بهذه، وثالثة بالجامع بینهما؛ للزوم الانقلاب الذاتیّ فی البسیط.
وأ مّا الفواعل الطبیعیّة، فهی بالنظر إلی شخص الأثر الخاصّ بها کذلک؛ فإنّ شخص الحرارة القائمة بشعاع الشمس لایمکن أن یکون متعلّقاً بالنار وبالعکس، فإذا اجتمعت الشمس والنار علی التأثیر فی ماء واحد یکون کلّ منهما مؤثّراً فیه بقدر أثره الخاصّ به، فإنّ الماء غیر بسیط، بل مرکّب ذو امتداد یتأثّر من هذه وهذه، ولا إشکال فی تأثّر مثل هذا الواحد الطبیعیّ ـ القابل للتجزئة والترکیب ـ بعلّتین، فأثر کلّ علّة غیر أثر الاُخری، وتأثّر الماء بکلٍّ غیر تأثُّره بآخر.
وهکذا الأمر فی اجتماع أشخاص علی رفع الحجر، فإنّ کلّ واحد یؤثّر فیه أثراً خاصّاً به، حتّی یحدث فی الحجر ـ بواسطة القواسر العدیدة ـ ما یغلب علی ثقله الطبیعیّ أو جاذبة الأرض، وهذا واضح جدّاً.
إذا عرفت ذلک اتّضح لک الخلل فیما زعمه ـ رحمه اللّٰه ـ من البناء علی هذا المبنی الفاسد.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 76
وأ مّا ما تری فی خلال کلامه: من أنّ الحیثیّة التی تشترک بها هذه الحصص، وتمتاز عن أفراد النوع الآخر، هی الحیثیّة التی بها قوام نوعیّتها، وهی متّحدة مع الصبیعیّ.
ففیه: أنّ الطبیعیّ لایمکن أن یتحصّص بنفس ذاته، بل التحصُّص یحصل عن تقیُّده بقیود عقلیّة، مثل الإنسان الأبیض والأسود. وبالجملة: لایمکن التحصّص ـ علی فرضه ـ بلا لحوق شیء للطبیعی، فحینئذٍ لایمکن أن تکون الحصص نفس الطبیعیّ فی اللحاظ العقلّی، والاتّحاد الخارجیّ کما یکون بین الحصص والطبیعیّ، یکون بین الأفراد والطبیعیّ، والاتّحاد الخارجیّ لایوجب سرایة الأمر، وما به الامتیاز ـ بین حصص نوع مع حصص نوع آخر ـ لیس الفصلَ المقوِّم فقط، بل به وبالتقیُّدات الحاصلة من القیود اللاحقة المحصِّلة للحصص، والامتیاز بالفصل المقوِّم فقط إنّما یکون بین نوع ونوع آخر، لا حصصهما.
فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ الأمر المتعلّق بالطبیعیّ لایمکن أن یسری إلی الأفراد، ولا إلی الحصص التی تُخیِّلت للطبیعیّ.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 77
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 78