الفصل الثانی فی اسم الجنس والماهیة وأقسامها
بناءً علی ما مرّ یکون تحقیق اسمِ الجنس وعَلَمِهِ وغیرِهما، وکذا تحقیق الماهیّة اللابشرط وأقسامها، والفرق بین المَقْسمی والقِسمی، غیرَ مُحتاج إلیه، بل أجنبیّاً عن مبحث الإطلاق والتقیید، لکن نذکر إجمالاً منه تبعاً للقوم، فنقول:
إنّ اسم الجنس کالإنسان، والفرس، والسواد، والبیاض، وغیرها موضوع لنفس الماهیّات بلا اعتبار شیء، ومن غیر دخالة قید وجودیّ أو عدمیّ أو اعتباریّ فیها، فالموضوع لها نفس الماهیّة من حیث هی، وهذه الماهیّة وإن لم تکن مجرّدة عن کافّة الوجودات قابلةً للتعقُّل والتحقُّق، لکن یمکن تصوُّرها مع الغفلة عن کافّة الوجودات واللواحق؛ لأنّ الماهیّة الملحوظة وإن کانت موجودة بالوجود اللحاظیّ، لکن لحاظ هذا اللحاظ یحتاج إلی لحاظ
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 317
آخر، ولا یمکن أن یکون ملحوظاً بهذا اللحاظ، فلا محالة یکون مغفولاً عنه، فیصیر المعنی الموضوع له هو نفس الماهیّة، لا بما هی موجودة فی الذهن وملحوظة، فاللفظ موضوع للماهیّة بلا لحاظ السریان واللاسریان فیها، وإن کانت بنفسها ساریة فی المصادیق ومتّحدة معها، لا بمعنی انطباق الماهیّة الذهنیّة علی الخارج، بل بمعنی کون نفس الماهیّة متکثّرة الوجود، توجد فی الخارج بعین وجود الأفراد.
والعجب من بعض أهل التدقیق؛ حیث زعم أنّ الموضوع له نفس المعنی، لا المعنی المطلق بما هو مطلق، لکن وجب لحاظه مطلقاً تسریةً للوضع إلی الأفراد، کما أ نّه زعم ـ فی باب المطلق ـ أنّ فی قوله: «أعتق رقبة»، لوحظت الرقبة مرسلة مطلقة لتسریة الحکم إلی جمیع أفراد موضوعه، إلاّ أنّ ذات المحکوم بالوجوب عتق طبیعة الرقبة، لا عتق أیّة رقبة.
وأنت خبیر بما فیه فی المقامین؛ لأنّ الموضوع له إذا کان نفس المعنی لا یُعقل سرایته إلی الأفراد، ویکون لحاظ الواضع لغواً بلا أثر، إلاّ أن یجعل اللفظ بإزاء الأفراد، وکذا إذا کان موضوع الحکم نفس الطبیعة لا یمکن سرایته إلی خُصوصیّات الأفراد، لاحظَ الحاکم أفرادها أم لا.
ثمّ إنّ القوم قسّموا الماهیّة إلی لا بشرط، وبشرط شیء، وبشرط لا،
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 318
وظاهر کلمات أکابر فنّ المعقول أنّ تقسیمها إلیها ـ وکذا إلی الجنس والمادّة والنوع ـ بالاعتبار واللحاظ، وکذا الافتراق بینها، وأ نّها إن لوحظت مجرّدة عن اللواحق تکون بشرط لا، وإن لوحظت مقترنة بشیء تکون بشرط شیء، وإن لوحظت بذاتها لا مقترنة ولا غیر مقترنة تکون لا بشرط شیء، وأنّ الفرق بین اللا بشرط المَقْسمی والقِسْمی بتقیید الثانی باللا بشرطیّة دون الأوّل، وکذا حال الجنس وأخویه، وأنّ الفرق بینها باللحاظ، فإذا لوحظ الحیوان بشرط لا یکون مادّة، ولا بشرط یکون جنساً، وبشرط شیء یکون نوعاً.
وقد اغترّ بظاهر کلماتهم أعاظم فنّ الاُصول، ووقعوا فی حیصَ بیصَ فی أقسامِ الماهیّة، والفرقِ بین اللا بشرط المَقْسمی والقِسْمی، حتّی قال بعضهم: إنّ التقسیم إنّما هو للحاظ الماهیّة، لا لنفسها.
ولا یسع لنا الإذعان بأنّ أعاظم الفلاسفة قد اقترحوا هذه التقسیمات فی باب الماهیّة والجنس والفصل من غیر نظرٍ إلی نفس الأمر ونظام الکون، وإنّما کان نظرهم صِرفَ التلاعب بالمفاهیم، ومحضَ اعتبارات ذهنیّة من غیر أن تکون حاکیة عن الواقع.
ثمّ لا ینقضی تعجّبی من أنّ صِرف اعتبار شیء لا بشرط کیف یؤثّر فی الواقع، ویجعل الشیء قابلاً للاتّحاد والحمل، وأخذه بشرط لا یوجب
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 319
انقلاب الواقع عمّا هو علیه؟! ولو کانت هذه التقسیمات بصِرف الاعتبار لجاز أن یعتبرها أشخاص مختلفون، ویصیر الواقع مختلفاً بحسب اعتبارهم، فتکون ماهیّة واحدة متّحدة مع شیء ولا متّحدة معه بعینه، وهو کما تری.
والذی یُؤدّی إلیه النظر الدقیق ـ وإن لم أرَ المصرّح به ـ أنّ کلیّة التقسیمات التی فی باب الماهیّة والأجناس والفصول تکون بلحاظ نفس الأمر ومرآةً إلی الواقع، والاختلاف بین المادّة والجنس والنوع واقعیّ؛ لأنّ المادّة متّحدة مع الصورة التی تبدّلت بها، والترکیب بینهما اتّحادیّ، وتکون المادّة المتّحدة بالصورة نوعاً من الأنواع، والمادّة القابلة لصورة اُخری تکون منضمّة إلی الصورة الموجودة، والترکیب بینهما انضمامیّ لا اتّحادیّ، وتکون بالنسبة إلی الصورة المتحقّقة بشرط لا؛ لعدم إمکان اتّحادها بها، وبالنسبة إلی الصورة التی تستعدّ لتبدُّلها إلیها لا بشرط شیء، فالمادّة التی تبدّلت بصورة النواة نوع، وترکیبها معها اتّحادیّ، وبالنسبة إلیها بشرط شیء، والمادّة المستعدّة فی النواة لقبول الصورة الشجریّة تکون منضمّة إلی الصورة النواتیّة، وترکیبهما انضمامیّ، وتکون لا بشرط بالنسبة إلی الصورة الشجریّة وما فوقها، وبشرط لا بالنسبة إلی تلک الصورة النواتیّة المتحقّقة. والتفصیل موکول إلی أهله ومحلّه.
وکذا الحال فی أقسام الماهیِّة، فإنّها ـ أیضاً ـ بحسب حالها فی نفس الأمر، فإنّها إذا قیست إلی أیّ شیءٍ فلا یخلو إمّا أن یکون لازم الالتحاق بها
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 320
بحسب ذاتها أو وجودها، أو ممتنع الالتحاق بها، أو ممکن الالتحاق، فالأوّل کالزوجیّة بالنسبة إلی الأربعة، وکالتحیّز بالنسبة إلی الجسم الخارجیّ، والثانی کالفردیّة بالنسبة إلی الأربعة، وکالتجرُّد بالنسبة إلی الجسم الخارجیّ، والثالث کالوجود بالنسبة إلی الماهیّة، وکالبیاض بالنسبة إلی الجسم الخارجیّ.
فالماهیّة بحسب الواقع لا تخلو عن أحد الأقسام، وهو مناط صحیح فی تقسیمها إلی بشرط شیء ولا بشرط وبشرط لا، من غیر ورود إشکال علیه، ومن غیر أن تصیر الأقسام متداخلة.
وحینئذٍ یکون الفرق بین المَقْسم واللا بشرط القِسْمی واضحاً؛ لأنّ المقسم نفس ذات الماهیّة، وهی أعمّ من الأقسام، واللا بشرط القِسْمی مقابل للقسمین بحسب نفس الأمر، ومضادٌّ لهما.
وما ذکرنا وإن خالف ظاهر کلماتهم فی البابین، لکن التأمُّل الصادق فی کلمات المحقّقین یرفع الاستبعاد [عنه]، مع أ نّه تقسیم صحیح مُعتبر فی العلوم مُوافق لنفس الأمر، بخلاف ما ذکروا، فإنّه صرف اعتبار وتلاعب، مع ما عرفت من الإشکال العقلیّ فیه.
وأبعد شیء فی المقام هو توهّم: کون التقسیم للحاظ الماهیّة، لا نفسها، فلا أدری أ نّه أیّ فائدة فی تقسیم اللحاظ، ثمّ أیّ ربط بین تقسیمه وصیرورة الماهیّة باعتباره قابلة للحمل وعدمه.
وممّا ذکرنا یظهر: أنّ هذا التقسیم کما یجری فی نفس الماهیّة، یجری فی الماهیّة الموجودة، بل فی وجودها، وقد أجراه بعض أهل الذوق فی نفس
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 321
حقیقة الوجود.
تتمیم: فی اسم الجنس وعَلَمه:
واعلم أنّ القوم لمّا رأوا أنّ بعض أسماء الأجناس عومل معه معاملة المعرفة ـ کاُسامة وثُعالة ـ فوقعوا فی الإشکال:
فذهب بعضهم: إلی أنّ أمثالها معارف لفظیّة، والتعریف اللفظیّ کالتأنیث اللفظیّ متصوَّر من غیر فرق بین معانیها مع أسماء الأجناس.
وذهب آخر: إلی أنّ أعلام الأجناس وضعت للطبیعة المتعیّنة بالتعیّن الذهنی.
فأورد علیه المحقّق الخراسانیّ: بلزوم التجرید عند الاستعمال، أو عدم إمکان التطبیق علی الخارج، والوضع لذلک لغو.
وأجاب عنه شیخنا العلاّمة: بأنّ اللحاظ حرفیّ لا یُوجب عدم التطبیق.
وهذا غیر تامّ؛ لأنّ عَلَم الجنس إذا کان متقوّماً باللحاظ وبه یفترق عن اسمه، فلا یعقل انطباقه علی الخارج بما هو ملحوظ مفترق؛ لأنّ اللحاظ ـ ولو کان حرفیّاً ـ موطنه الذهن، وما ینطبق علی الخارج هو نفس الطبیعة. مع أنّ
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 322
الوضع للماهیّة الملحوظة مُستلزم للّحاظِ الاسمیّ، واعتبارِ التعیّن الذهنی فیه بنحو الاستقلال، والاستعمال لابدّ وأن یکون تابعاً له.
ویمکن أن یقال: إنّ اسم الجنس المجرّد عن اللام والتنوین وغیرهما موضوع لنفس الطبیعة من حیث هی، وهی لیست معرفة ولا نکرة، وهما تلحقانها فی رتبة متأخّرة عن ذاتها؛ لأنّ التعریف ـ فی مقابل التنکیر ـ عبارة عن التعیُّن الواقعی، المناسب لوعائه، والتنکیر عبارة عن اللاتعیُّن کذلک، فالماهیّة بذاتها لا تکون مُتعیّنة ولا لامتعیّنة، ولهذا تصلح لعروضهما علیها، فلو کانت متعیِّنة ومعرفة بذاتها لم یمکن أن یعرضها ما یُضادُّها، وبالعکس، هذا مع أنّ لازم ذلک کونهما جزءها أو عینها، وهو کما تری.
فحینئذٍ نقول: یمکن أن یُفرَّق بینهما بأن یقال: إنّ اسم الجنس موضوع لنفس الماهیّة التی لیست نکرة ولا معرفة، وعَلَمَه موضوعٌ للماهیّة المتعیِّنة بالتعیُّن العارض لها متأخّراً عن ذاتها فی غیر حال عروض التنکیر علیها، والفرق بین عَلَم الجنس واسم الجنس المعرَّف أنّ الأوّل یفید بدالّ واحد ما یفید الثانی بتعدُّد الدالّ.
ولایخفی أنّ التعریف والتنکیر غیرمتقوّمین باللحاظ حتّی یرد علیه الإشکال المتقدّم، بل مع قطع النظر عنه بعض المعانی معروف معیَّن، وبعضها منکور غیر مُعین، فالماهیّة بذاتها لا معروفة ولا غیرها، وبما أ نّها معنیً معیّن بین سائر المعانی وطبیعة معلومة ـ فی مقابل غیر المعیَّن ـ معرفةٌ، فاُسامة موضوعة لهذه المرتبة، واسم الجنس لمرتبة ذاتها. وتنوین التنکیر یفید نکارتها، واللا تعیُّن
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 323
ملحق بها کالتعیّن.
ثمّ إنّ الظاهر أنّ اللام وُضعت مطلقاً للتعریف، وإفادةُ العهد وغیره بدالّ آخر، فإذا دخلت علی الجنس وعلی الجمع تفید تعریفهما، وإفادةُ الاستغراق لأجل أنّ غیر الاستغراق من سائر المراتب لم یکن مُعیَّناً، والتعریف هو التعیین، وهو حاصل فی استغراق الأفراد لا غیر.
وما ذکرنا غیر بعید عن الصواب، وإن لم یقم دلیل علی کون عَلَم الجنس کذلک، لکن مع هذا الاحتمال لا داعی للذهاب إلی التعریف اللفظیّ البعید عن الأذهان.
ثمّ إنّه لا ینبغی الإشکال فی أنّ النکرة دالّة بتعدّد الدالّ علی الطبیعة اللا معیّنة؛ أی المتقیّدة بالوحدة بالمعنی الحرفیّ والحمل الشائع، من غیر فرق بین مثل: «جاء رجل» ومثل: «جئنی برجل» فی أنّ «رجلاً» فی کلّ منهما بمعنیً واحد، وأ نّه قابل للصدق علی الکثیرین، وأنّ إفادة البدلیّة عقلیّة لا لفظیّة، کلّ ذلک بحکم التبادر، والفرق بین المثالین إنّما هو بدلالة خارجیّة ودالّ آخر.
فما أفاده شیخنا العلاّمة من أ نّهما جزئیّان، وبعض آخر من أنّ الأوّل جزئیّ دون الثانی، منظور فیه.
مناهج الوصول الی علم الاصولج. 2صفحه 324