المقام الأوّل : فی تخصیص العامّ بالمفهوم الموافق
هل یجوز تخصیص العامّ بمفهوم الموافقـة أم لا ؟ وقد ادّعی الإجماع علی الجواز ، ولکنّـه لایفید فی المسألـة الغیر الشرعیـة ، سواء کانت عقلیّـة أو عرفیّـة .
ولابدّ قبل الورود فی محلّ البحث من بیان المراد بمفهوم الموافقـة بعد ظهور أ نّـه عبارة عن القضیّـة الموافقـة للمنطوق فی الإیجاب والسلب .
فنقول : یحتمل أن یکون المراد بـه هو ما یعبّرون عنـه بإلغاء الخصوصیـة ، ومرجعـه إلی أنّ الخصوصیّـة المذکورة فی الکلام ممّا لایریٰ لها العرف مدخلیـة فی ترتّب الحکم بحیث یکون الکلام بنفسـه دالاًّ علیٰ ثبوت الحکم مع انتفاء
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 323 الخصوصیـة أیضاً ، مثل قولـه : رجل شکّ بین الثلاث والأربع فعلیـه کذا ، فإنّ العرف لایفهم منـه اختصاص الحکم بالرجل ، بل یری أنّ ذکره إنّما هو من باب المثال ، وإلاّ فالمقصود هو المصلّی الذی شکّ بین الثلاث والأربع ، سواء کان رجلاً أو امرأة .
ویحتمل أن یکون المراد بـه هو الذی یکون الغرض من إلقاء الکلام إفادتـه إلی المخاطب ، غایـة الأمر أ نّـه کنّی عنـه بشیء آخر ، ویمکن أن یکون قولـه تعالیٰ : «فلاتقل لهما أُفّ» من هذا القبیل ، بناءً علی أن لایکون المقصود بـه هو حرمـة قول «أُفّ» بل الإتیان بـه إنّما هو من باب الکنایـة وإفهام حرمـة الاُمور الاُخر من الضرب والشتم وغیرهما ، وهذا لاینافی عدم حرمـة ذلک القول ، کما فی نظائره من أمثلـة الکنایـة .
ویحتمل أن یکون المراد بـه هو ما یکون الکلام مسوقاً لإفادتـه أیضاً ، کالمنطوق ، غایـة الأمر أ نّـه أتیٰ بالفرد الخفی تنبیهاً علی الفرد الجلیّ ، فهما معاً مقصودان بالإفادة إلاّ أ نّـه اقتصر علی الأوّل مع دخول الثانی فی المراد أیضاً .
ویمکن أن تکون الآیـة الشریفـة من هذا القبیل ، کما لایخفیٰ .
ویحتمل أن یکون المراد بـه هو ما یستفاد من المنطوق بالأولویـة القطعیـة من غیر أن یکون الکلام مسوقاً لإفادتـه ، والآیـة الشریفـة تحتمل هذا المعنی أیضاً .
ویحتمل أن یکون المراد بـه هو ما یستفاد من العلّـة المنصوصـة فی المنطوق ، کقولـه : لا تشرب الخمر ؛ لأنّـه مسکر ، فإنّـه یستفاد منـه حرمـة شرب النبیذ المسکر أیضاً ؛ لأنّ الظاهر من القضیّـة کون تمام العلّـة هو المسکریّـة ، لا
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 324 أ نّـه جزء الموضوع ، والخمریـة جزء آخر ، ویعبّر عنـه بمنصوص العلّـة ، وإطلاق المفهوم علیـه بعید .
ثمّ إنّ هذه الاحتمالات التی ذکرنا لیس من قبیل مانعـة الجمع ، بل علیٰ سبیل منع الخلوّ ، فیمکن أن یکون المراد بمفهوم الموافقـة هو الأمر الجامع بینهما ، وهو القضیّـة الخارجـة عن محلّ النطق المشترکـة فی الإیجاب والسلب .
إذا عرفت ذلک : فاعلم أ نّـه لو کان المراد بمفهوم الموافقـة هو الاحتمال الراجع إلی إلغاء الخصوصیـة ، فلا إشکال فی تقدیمـه علی العامّ إذا کان أخصّ منـه ؛ لأنّـه بنظر العرف مفاد نفس الکلام الملقی إلیهم ، ولایحتاج فی استفادتـه إلی إعمال حکم العقل أیضاً ، وکذا لو کان المراد بـه هو الاحتمال الثانی أو الثالث أو الأخیر ؛ لأنّـه فی جمیع الصور مستفاد من نفس الکلام کما لایخفیٰ فی الأوّلین .
وأمّا الأخیر فلأنّ التعلیل لایتمّ بدون انضمام کبریٰ کلّیـة مطویّـة ؛ فإنّـه لو لم یکن «کلّ مسکر حرام» لما یصحّ تعلیل الحرمـة فی الخمر بأ نّـه مسکر فالکبری التی یکون مورد المفهوم من صغریاتها ، مستفادة من نفس الکلام ولایحتاج إلیٰ شیء آخر اصلاً .
وأمّا لو کان المراد بـه هو الاحتمال الرابع الذی مرجعـه إلی استفادتـه من القضیّـة المنطوقیـة بضمیمـة حکم العقل بالأولویـة القطعیـة ، فقد یقال ـ کما فی تقریرات المحقّق النائینی قدس سره ـ بأ نّـه لایعقل أن یکون المفهوم معارضاً للعامّ من دون معارضـة منطوقـه ؛ لأنّا فرضنا أنّ المفهوم موافق للمنطوق ، وأ نّـه یستفاد حکمـه منـه ، فکیف یعقل أن یکون المنطوق أجنبیّاً عن العامّ وغیر معارض لـه مع کون المفهوم معارضاً ؟ ! فالتعارض یقع ابتداء بین المنطوق والعامّ ، ویتبعـه وقوعـه بین المفهوم والعامّ ، وحینئذٍ فلابدّ أوّلاً من علاج التعارض بین المنطوق والعامّ ،
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 325 ویلزمـه العلاج بین المفهوم والعامّ .
أقول : هذه الدعویٰ بنحو الکلّیـة ممنوعـة ؛ لعدم التلازم بین کون المفهوم معارضاً للعامّ وکون المنطوق أیضاً کذلک ، بل یمکن الانفکاک بینهما فی بعض الموارد .
مثالـه : ما لو قال : لا تکرم العلماء ، ثمّ قال : أکرم جهّال خدّام النحویّین ، فإنّ المنطوق فی المثال لایعارض العامّ ؛ لأنّ الجهّال غیر داخل فی العلماء مع أنّ المفهوم ـ وهو وجوب إکرام علماء خدّام النحویّین ، وکذا إکرام النحویّین ـ معارض للعامّ ، کما هو واضح .
وحینئذٍ فالموارد مختلفـة ، فلو کانت المعارضـة بین المنطوق والعامّ أیضاً ، فلابدّ أوّلاً من علاج التعارض بینـه وبین العامّ ، ویلزمـه العلاج بین المفهوم والعامّ .
وأمّا لو کانت المعارضـة منحصرةً بالمفهوم ، فقد یقال فی وجـه ترجیحـه علی العامّ ولو کان التعارض بالعموم والخصوص من وجـه : بأنّ الأمر هنا یدور بین رفع الید عن العموم وتخصیصـه بالمفهوم ، وبین رفع الید عن المنطوق المستلزم للمفهوم عقلاً ، وبین رفع الید عن المفهوم مع ثبوت الحکم فی المنطوق ، والثانی لا سبیل إلیـه بعد کون المنطوق أجنبیّاً عن العامّ ، وغیر معارض لـه ، کما هو المفروض ، والثالث کذلک ؛ لأنّ رفع الید عن خصوص المفهوم یوجب نفی الملازمـة ورفع الید عنها مع کونها عقلیّةً قطعیّةً ، فینحصر فی الأوّل الذی مرجعـه إلی رفع الید عن ظهور لفظی .
ولکن لایخفیٰ : أنّ الملازمـة تقتضی عدم الانفکاک بین المنطوق والمفهوم ،
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 326 فإذا کانت المعارضـة بین المفهوم والعامّ ، فالملازمـة بین المنطوق والمفهوم توجب سرایتها إلیـه ، وکونـه معارضاً للعامّ بالتبع ، وحینئذٍ فلابأس بتقدیم العامّ علی المفهوم ، والحکم برفع الید عن المنطوق أیضاً بسبب الملازمـة ، فلم یستلزم تقدیم العامّ علی المفهوم الإخلال بالملازمـة ، وکذا رفع الید عن المنطوق بلا وجـه أمّا الأوّل : فواضح ، وأمّا الثانی : فلأنّ رفع الید عنـه إنّما هو لرفع الید عن المفهوم الملازم لـه ، کما لایخفیٰ .
هذا کلّـه فی المفهوم الموافق .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 327