التحقیق فی جواز الاجتماع
إذا عرفت هذه الاُمور ، فاعلم أنّ الأقوی فی المسأ لـة هو القول بالجواز ، وتحقیق ذلک یتمّ برسم مقدّمات :
المقدّمـة الاُولیٰ : أنّ الحکم الوجوبی أو التحریمی المتعلّق إلیٰ طبیعـة لایسری منها إلیٰ مقارناتـه الوجودیـة وملازماتـه العینیـة ، ضرورة أنّ تعلّق
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 187 الحکم بها إنّما هو لأجل الملاک المتحقّق فیها ؛ إذ لایعقل أن یصدر من الحاکم حکم متعلّق بشیء من دون أن یکون ملاک ذلک الحکم متحقّقاً فیـه .
وهذا نظیر الإرادة التکوینیـة المتعلّقـة بالأفعال الخارجیـة ، فإنّـه کما لایعقل تعلّق الإرادة بشیء من دون حصول مبادئها من تصوّر ذلک الشیء والتصدیق بفائدتـه وغیرهما فکذلک لایعقل البعث إلیـه مثلاً من دون أن یکون فیـه خصوصیـة مقتضیـة لـه وحیثیـة موجبـة لتحقّقـه ، وحینئذٍ فبعدما کان المفروض أنّ المقارنات الوجودیـة والملازمات العینیـة ممّا لا مدخلیـة لها أصلاً فی ثبوت الملاک المقتضی للبعث أو الزجر ، ضرورة أنّـه لو کان کذلک لکانت الطبیعـة متقیّدةً بها متعلّقـة للأمر أو النهی ، والمفروض خلافـه ، فلایبقیٰ مجال لتوهّم سرایـة الحکم من الطبیعـة إلیها أصلاً ، کما هو أوضح من أن یخفیٰ .
المقدّمـة الثانیـة : أنّ معنی الإطلاق لیس عبارة عن لحاظ سریان الحکم إلی جمیع الخصوصیات والأفراد بحیث کان معنیٰ قولـه : أعتق رقبـة ، مثلاً راجعاً إلیٰ قولـه : أعتق رقبـة سواء کانت مؤمنـة أو فاسقـة ؛ لأنّـه ـ مضافاً إلی أنّـه لو کان معنی الإطلاق ذلک یلزم عدم الفرق بینـه وبین العموم کما لایخفیٰ ـ یرد علیـه : أنّـه لایعقل أن تکون الطبیعـة مرآةً للخصوصیّات وحاکیةً لها ، ضرورة ثبوت المبائنة بینها وبین تلک الخصوصیات فی عالم المفهوم ، فکیف یمکن أن یکون لفظ الإنسان مثلاً حاکیاً عن الطول والقصر مثلاً مع أنّهما مفهومان متغایران .
فالتحقیق أنّ لفظ الإنسان لایحکی إلاّ عمّا جعل ذلک اللّفظ موضوعاً بإزائـه ، وهو طبیعـة الإنسانیـة ، بل الإطلاق عبارة عن عدم مدخلیـة شیء من القیود فی متعلّق الحکم ، فإنّ المتکلّم المختار بعدما فرض کونـه بصدد بیان تمام متعلّق حکمـه ومع ذلک لم یأخذ شیئاً من الخصوصیات لیستکشف العقل أنّ هذا تمام موضوع حکمـه ، ولا مدخلیـة لشیء آخر فیـه أصلاً ، ففی الحقیقـة لایکون
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 188 الإطلاق من الدلالات اللفظیـة ، بل من الدلالات العقلیـة ، نظیر حکم العقل بکون معنی اللّفظ الصادر من المتکلّم المختار مراداً لـه .
وبالجملـة ، فالإطلاق عبارة عن تمامیـة ما جعل متعلّقاً للحکم من حیث کونـه متعلّقاً لـه بمعنیٰ عدم مدخلیـة شیء آخر فیـه ، وأین هذا ممّا ذکر من أنّـه عبارة عن ملاحظـة الشمول والسریان ، وقد عرفت ما فیـه .
وما اشتهر بینهم من أنّ الطبیعـة اللا بشرط یجتمع مع ألف شرط لیس معناه اتّحادها مع الشروط فی عالم المفهومیـة بحیث تکون حاکیةً لها وکاشفةً عنها ، بل معناه عدم إبائها عن اتّحاد بعض المفاهیم الاُخر معها فی عالم الوجود الذی هو جامع العناوین المختلفـة والمفاهیم المتشتّتـة ، وإلاّ فکیف یمکن أن یکشف بعض المفاهیم عن البعض الآخر فی عالم المفهومیـة مع ثبوت الاختلاف بینهما ، کما هو واضح .
المقدّمـة الثالثـة ـ التی هی العمدة فی هذا الباب ـ : أنّ متعلّق التکالیف والأحکام إنّما هی نفس الطبائع والعناوین ، لا الطبیعـة الموجودة فی العین ولا الماهیّـة المتحقّقـة فی الذهن ، فاتّصافها بکونها موجودةً فی الذهن أو الخارج خارج عن مرحلـة تعلّق الأحکام بها ، نظیر سائر الأحکام الطارئـة علی الطبائع من الکلّیـة والاشتراک ونحوهما ، ضرورة أنّ الطبیعـة الموجودة فی الخارج لایعقل أن تتّصف بالکلّیـة ؛ لإبائها عن الصدق علی الکثیرین ، وکذا الطبیعـة بوصف وجودها فی الذهن ، بداهـة أنّها أیضاً تکون جزئیّاً غیر قابل للصدق واتّصافها بوصف الکلّیـة والاشتراک ونحوهما وإن کان فی الذهن إلاّ أنّـه لاینافی ذلک کون المعروض لهما إنّما هی نفس الطبیعـة بلا ملاحظـة وجودها الذهنی ، ضرورة أنّـه بمجرّد تصوّرها یحمل علیـه تلک الأحکام ، ولو کان اتّصافها بالوجود الذهنی دخیلاً فی هذا الحمل ، لاحتاج إلیٰ تصوّر آخر متعلّقاً بالطبیعـة متقیّدة
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 189 بکونها متصوّرة بالتصوّر الأوّلی ؛ إذ التصوّر الأوّل إنّما تعلّق بنفس الطبیعـة فقط ، ولایعقل أن یتعلّق بها مع وصف کونها متصوّرةً بهذا التصوّر ، کما هو واضح .
وکیف کان فلا إشکال فی کون المعروض لوصف الکلّیـة والاشتراک ونحوهما إنّما هی الطبیعـة المجرّدة عن الوجود العینی والذهنی ، وإنّما الإشکال فی متعلّق الأحکام وأنّـه هل متعلّقاتها هی نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودین وإن کان ظرف التعلّق الذهن ، نظیر الکلّیـة المعروضـة لها فی الذهن ولکن لم یکن ذلک مأخوذاً علی نحو القضیـة الشرطیـة ، بل علی نحو القضیـة الحینیّـة ، وإلاّ لما کان یعرض لها بمجرّد تصوّرها ووجودها فی الذهن ؛ إذ لایمکن فی هذا اللحاظ تصوّر تعلّق اللحاظ بها أیضاً ، کما هو واضح ، أو أنّ متعلّقات الأحکام هی الطبائع المتّصفـة بالوجود الذهنی ، أو أنّ متعلّقاتها هی الطبائع المنصبغـة بصبغـة الوجود الخارجی ؟ وجوه .
والتحقیق یقضی بأنّ معروض الأحکام هو بعینـه معروض الکلّیـة والاشتراک ونحوهما من لوازم نفس الماهیّات مع قطع النظر عن الوجودین ، وذلک لأنّـه لو کانت الأحکام متعلّقةً بالطبائع مع اتّصافها بوجودها فی الذهن ، لکان امتثالها ممتنعاً ؛ إذ لایعقل انطباق الموجود فی الذهن بوصف کونـه موجوداً فیـه علی الخارج ؛ لأنّـه أیضاً نظیر الموجودات الخارجیـة یکون جزئیّاً ومتشخّصاً ، ولازمـه الإباء عن الصدق ، کما هو واضح .
ولو کانت الأحکام موضوعاتها هی الطبائع الموجودة فی الخارج یلزم أن یکون تحقّقها متوقّفاً علیٰ وجودها فی الخارج ؛ إذ لایعقل تقدّم الحکم علیٰ متعلّقـه ، ومن الواضح أنّ الغرض من البعث مثلاً إنّما هو انبعاث المکلّف بعد العلم بـه وبما یترتّب علیٰ مخالفتـه من استحقاق العقوبـة وعلیٰ موافقتـه من استحقاق المثوبـة ویتحرّک عضلاتـه نحو المبعوث إلیـه ، فالبعث متقدّم علی الانبعاث
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 190 المتقدّم علیٰ تحقّق المبعوث إلیـه ، فکیف یمکن أن یکون متأخّراً عنـه مع استلزام ذلک للّغویـة ؛ لأنّـه بعد تحقّق المبعوث إلیـه المشتمل علی المصلحـة التی هی الباعثـة علیٰ تعلّق البعث بـه یکون طلبـه تحصیلاً للحاصل فی الأوامر ، وبعد تحقّق المزجور عنـه فی النواهی یکون الزجر عنـه مستلزماً لطلب أعدام ما هو حاصل بنحو لم یحصل ، وکلاهما مستحیل بداهـة ، ولعمری أنّ سخافـة هذا الاحتمال الذی هو ظاهر بعض الأعلام ممّا لا تکاد تخفیٰ علیٰ عاقل فضلاً عن فاضل ، فلم یبق فی البین إلاّ الالتزام بکون موضوعات الأحکام هی نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودین ، والأغراض وإن کانت مترتّبةً علی الوجودات الخارجیة إلاّ أنّـه یتوصّل المولی إلیٰ تحصیلها بسبب البعث إلیٰ نفس الطبیعـة ؛ إذ لایتحقّق الانبعاث منـه ولایحصل موافقتـه إلاّ بإیجاد المبعوث إلیـه فی الخارج ، والتأمّل فی الأوامر العرفیـة الصادرة من الموالی بالنسبـة إلیٰ عبیدهم یقضی بأنّ المولیٰ فی مقام إصدار الأمر لاینظر إلاّ إلی نفس الطبیعـة من دون توجّـه إلی الخصوصیّات المقارنـة لها فی الوجود الغیر المنفکّـة عنها ، ویبعث العبد نحوها ، غایـة الأمر أنّ تحصیل الموافقـة یتوقّف علی إیجاد مطلوب المولیٰ فی الخارج وإخراجـه من کتم العدم إلیٰ صفحـة الوجود .
وما اشتهر بینهم من التمسّک بقول أهل المعقول : الماهیّـة من حیث هی لیست إلاّ هی لا موجودة ولا معدومـة ولا مطلوبـة ولا غیر مطلوبـة لإثبات أنّ نفس الماهیّـة مع قطع النظر عن الوجودین لایمکن أن یتعلّق بها الحکم ؛ لأنّها لیست إلاّ هی ، کما أنّها لا تکون کلّیـة ؛ لأنّها من حیث هی لا تکون کلّیةً ولا جزئیةً ، ولذا التجأ بعض المجوّزین فی المقام إلی أنّ متعلّق الأحکام إنّما هی
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 191 الماهیّـة المتّصفـة بوصف الوجود الکلّی ، غفلـة وذهول عن فهم مرادهم من هذا القول ، فإنّ مرادهم منـه ـ کما هو صریح کلامهم ـ أنّ الماهیّـة فی مرتبـة ذاتها لایکون الوجود محمولاً علیها بالحمل الأوّلی ، وکذا العدم بمعنی أنّهما لایکونان عین ذات الماهیّـة ولا جزءها ، وهکذا المطلوبیّـة واللاّ مطلوبیـة ، والکلّیـة والجزئیـة ، والوحدة والکثرة ، وجمیع الصفات المتضادّة أو المتناقضـة ، فإنّها بأجمعها منتفیـة عن مرتبـة ذات الماهیّـة ، ولایکون شیء منها عین الماهیّـة ولا جزءها ، وإلاّ فکیف یمکن أن یرتفع عنها المتناقضان وکذا الضدّان لا ثالث لهما فی مقام الحمل الشائع الصناعی ، وحینئذٍ فلا منافاة بین أن لایکون وصف الکلّیـة مأخوذاً فی ذاتیات الماهیّـة بحیث یکون عینها أو جزءها وبین أن یکون المعروض لـه هی نفس الماهیّـة مع قطع النظر عن الوجودین ، کما هو مقتضی التحقیق ؛ ضرورة أنّـه بمجرّد تصوّرها مجرّدةً عن کافّـة الوجودات ینتقل الذهن إلی أنّها کلّیـة غیر آبیـة عن الصدق .
وهکذا مسأ لـة تعلّق الأحکام بنفس الطبائع لا تنافی کونها خارجةً عن مرتبـة ذاتها ، فالاستدلال لنفی تعلّقها بنفس الطبائع بهذه القاعدة الغیر المرتبطـة بهذه المسأ لـة أصلاً فی غیر محلّـه .
وکیف کان فلا مناص إلاّ عن الالتزام بما ذکرنا من أنّ متعلّقات الأحکام هی نفس الطبائع ، ضرورة أنّ البعث إنّما هو لغرض إیجاد ما لم یکن موجوداً بعدُ ، ومن المعلوم أنّـه لیس هنا شیء کان متّصفاً بالعدم قبل إیجاد المکلّف ، فصار متّصفاً بالوجود بعد إیجاده ، إلاّ الماهیّـة المحفوظـة فی کلتا الحالتین ؛ لأنّ الوجودین : العینی والذهنی لاینقلبان عمّا هما علیـه ، کما هو واضح .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 192 فانقدح من جمیع ما ذکرنا : بطلان المقدّمـة الثانیـة من المقدّمات التی مهّدها فی الکفایـة لإثبات الامتناع ، الراجعـة إلی أنّ متعلّق الأحکام هو فعل المکلّف ، وما هو فی الخارج یصدر عنـه وهو فاعلـه وجاعلـه ، إذ قد عرفت بما لا مزید علیـه أنّـه لایعقل أن تتعلّق الأحکام بالوجودات الخارجیـة ، وأنّ متعلّقها إنّما هی نفس الطبائع مع قطع النظر عن الوجودین .
وممّا ذکرنا یظهر أیضاً : أنّ الاستدلال ـ کما فی تقریرات المحقّق النائینی قدس سرهـ علی إثبات الجواز بثبوت التعدّد بین المتعلّقین فی الخارج ، وکون الترکیب بینهما انضمامیّاً لا اتّحادیاً ؛ نظراً إلی أنّـه لو سلّم اتّحاد المتعلّقین فی الخارج ، وکون الترکیب بینهما اتّحادیاً لایبقیٰ مجال لدعویٰ تغایر متعلّق الأمر والنهی أصلاً ، لیس بصحیح ؛ لما عرفت من أنّ متعلّق الأمر والنهی إنّما هی نفس الطبائع ، وهی مختلفـة فی عالم المفهومیـة ، ولا اتّحاد بینهما ، سواء کان الترکیب بینهما فی الخارج اتّحادیاً أو انضمامیّاً ، بل نقول : إنّ مورد النزاع بینهم هو ما إذا کان الموجود الخارجی بتمام هویّتـه مصداقاً للطبیعـة المأمور بها وللطبیعـة المنهیّ عنها ؛ لأنّـه مع فرض کون الترکیب انضمامیّاً لایبقیٰ مجال للنزاع فی الجواز والامتناع أصلاً ؛ إذ یصیر حینئذٍ القول بالجواز من البدیهیّات التی لایعتریها ریب ، نظیر تعلّق الأمر بالصلاة ، والنهی بالزنا مثلاً ، کما لایخفیٰ .
وإذا تمهّد لک هذه المقدّمات : تعرف أنّ مقتضی التحقیق هو القول بالجواز ؛ لعدم اجتماع الأمر والنهی فی شیء أصلاً ؛ لأنّ فی مرحلـة تعلّق الأحکام لا إشکال فی اختلاف متعلّق الأمر والنهی ؛ لوضوح المغایرة بین المفاهیم فی عالم
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 193 المفهومیـة ، وفی مرحلـة التحقّق فی الخارج التی یجتمع فیها المتعلّقان لا إشکال فی عدم کونهما مأموراً بـه ومنهیّاً عنـه ؛ لأنّ الخارج ظرف الامتثال لا ظرف ثبوت التکلیف ، کما عرفت بما لا مزید علیـه ، فأین یلزم الاجتماع ؟
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 194