ما أفاده بعض الأعلام فی إنکار الواجب المعلّق
ثمّ إنّـه یظهر من بعضهم إنکار الواجب المعلّق مدّعیاً استحالـة کون الإرادة موجودة قبل المراد .
وأطال الکلام فی النقض والإبرام فی هذا المقام بعض المحقّقین فی تعلیقتـه علی الکفایـة .
وخلاصـة ما ذکره هناک : أنّ النفس مع وحدتها ذات منازل ودرجات ، ففی مرتبـة القوّة العاقلـة مثلاً تدرک فی الفعل فائدة عائدة إلیها ، وفی مرتبـة القوّة الشوقیـة ینبعث لها شوق إلیٰ ذلک الفعل ، فإذا لم یجد مزاحماً ومانعاً ، یخرج ذلک الشوق من حدّ النقصان إلیٰ حدّ الکمال الذی یعبّر عنـه بالقصد والإرادة ، فینبعث من هذا الشوق البالغ حدّ نصاب الباعثیـة هیجان فی مرتبـة القوّة العاملـة المنبثّـة فی العضلات ، ومن الواضح أنّ الشوق وإن أمکن تعلّقـه بأمر استقبالی إلاّ أنّ الإرادة لیس نفس الشوق بأیّـة مرتبـة کان ، بل الشوق البالغ حدّ النصاب بحیث صارت القوّة الباعثـة باعثةً للفعل ، وحینئذٍ فلایتخلّف عن انبعاث القوّة العاملة وهیجانها لتحریک العضلات غیر المنفکّ عن حرکتها ، ولذا قالوا : إنّ الإرادة هو الجزء الأخیر من العلّـة التامّـة لحرکـة العضلات .
فمن یقول بإمکان تعلّقها بأمر استقبالی إن أراد حصول الإرادة التی هی علّـة تامّـة لحرکـة العضلات إلاّ أنّ معلولها حصول الحرکـة فی ظرف کذا ، فهو عین انفکاک العلّـة عن المعلول .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 49 وإن أراد أنّ ذات العلّـة ـ وهی الإرادة ـ موجودة من قبل إلاّ أنّ شرط تأثیرها ـ وهو حضور وقت المراد ـ حیث لم یکن موجوداً ما أثّرت العلّـة فی حرکـة العضلات .
ففیـه : أنّ حضور الوقت إن کان شرطاً فی بلوغ الشوق إلیٰ حدّ الکمال المعبّر عنـه بالإرادة ، فهو عین ما قلنا من أنّ حقیقـة الإرادة لا تنفکّ عن الانبعاث ، وإن کان شرطاً فی تأثیر الشوق البالغ حدّ الإرادة الموجود من أوّل الأمر ، فهو غیر معقول ؛ لأنّ عدم التأثیر مع کون الشوق بالغاً إلیٰ حدّ الباعثیـة لایعقل ؛ لعدم انفکاک البعث الفعلی عن الانبعاث ، فاجتماع البعث وعدم تحقّق الانبعاث لیس إلاّ کاجتماع المتناقضین .
وأمّا ما ذکر فی المتن : من لزوم تعلّق الإرادة بأمر استقبالی إذا کان المراد ذا مقدّمات کثیرة ، فإنّ إرادة مقدّماتـه منبعثـة عن إرادة ذیها قطعاً ، فتوضیح الحال فیـه أنّ الشوق إلی المقدّمـة لابدّ من انبعاثـه من الشوق إلیٰ ذیها ، لکن الشوق إلیٰ ذیها لمّا لم یمکن وصولـه إلیٰ حدّ الباعثیـة لتوقّف المراد علیٰ مقدّمات ، فلا محالـة یقف فی مرتبتـه إلیٰ أن یمکن الوصول ، وهو بعد طیّ المقدّمات ، فالشوق بالمقدّمـة لا مانع من بلوغـه إلیٰ حدّ الباعثیـة الفعلیـة ، بخلاف الشوق إلیٰ ذیها ، وما هو المسلّم فی باب التبعیـة تبعیّـة الشوق للشوق لا تبعیـة الجزء الأخیر من العلّـة ، فإنّـه محال ، وإلاّ لزم إمّا انفکاک العلّـة عن المعلول أو تقدّمـه علیها .
هذا کلّـه فی الإرادة التکوینیـة .
وأمّا الإرادة التشریعیـة : فهی عبارة عن إرادة فعل الغیر منـه اختیاراً وحیث إنّ المشتاق إلیـه فعل الغیر الصادر باختیاره ، فلا محالـة لیس بنفسـه تحت
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 50 اختیاره ، بل بالتسبیب إلیـه بجعل الداعی إلیـه ، وهو البعث نحوه ، فلا محالـة ینبعث من الشوق إلیٰ فعل الغیر اختیاراً الشوق إلی البعث نحوه ، فالشوق المتعلّق بفعل الغیر إذا بلغ مبلغاً ینبعث منـه الشوق نحو البعث الفعلی ، کان إرادةً تشریعیـة ، وإلاّ فلا ، ومعـه لایعقل البعث نحو أمر استقبالی ؛ إذ لو فرض حصول جمیع مقدّماتـه وانقیاد المکلّف لأمر المولیٰ ، لما أمکن انبعاثـه نحوه بهذا البعث ، فلیس ما سمّیناه بعثاً فی الحقیقـة بعثاً ولو إمکاناً .
ثمّ أورد علیٰ نفسـه ببعض الإیرادات مع الجواب عنها لا مجال لنقلها .
ولایخفیٰ أنّـه یرد علیٰ ما ذکره فی الإرادة التکوینیـة وجوه من الإیراد :
منها : أنّ ما ذکره من أنّ الإرادة هی المرتبـة الکاملـة من الشوق ، محلّ نظر ، بل منع ؛ فإنّ الشوق نظیر المحبّـة والعشق من الاُمور الانفعالیـة للنفس والإرادة بمنزلـة القوّة الفاعلیـة لها ، ولایعقل أن یبلغ ما یکون من الاُمور الانفعالیـة إلی مرتبـة الاُمور الفاعلیـة ولو بلغ من الکمال ما بلغ ، فإنّ الکمال البالغ إلیـه إنّما هو الکمال فی مرتبتـه ، لا انقلاب حقیقتـه إلیٰ حقیقـة اُخریٰ ، وهذا من الاُمور الواضحـة المحقّقـة فی محلّها .
منها ـ وهی العمدة ـ : أنّ ما ذکره ـ بل اشتهر فی الألسن وتکرّر فی الکلمات ـ من أنّ الإرادة هی الجزء الأخیر من العلّـة التامّـة لیس مبرهناً علیـه ، بل إنّما هو صرف ادّعاء لا دلیل علیـه لو لم نقل بکون الوجدان شاهداً وقاضیاً بخلافـه ، فإنّـه من الواضح أنّ الإرادة المتعلّقـة بالمراد فیما لو کان غیر نفس تحریک العضلات لیست بعینها هی الإرادة المتعلّقـة بتحریک العضلات لأجل
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 51 تحقّق ذلک المراد ، فالإرادة المتعلّقـة بشرب الماء لیست هی نفس الإرادة المتعلّقـة بتحریک العضلات نحو الإناء الواقع فیـه الماء ؛ لما قد حقّق فی محلّـه من عدم إمکان تعلّق إرادة واحدة بمرادین ، وکذا لایجوز تعلّق إرادتین بمراد واحد ؛ ضرورة أنّ تشخّص الإرادة إنّما هو بالمراد ، کما قرّر فی محلّـه .
فإذا ثبتت تعدّد الإرادة ، فنقول : إنّ الإرادة المتعلّقـة بتحریک العضلات هی التی تکون علّةً تامّة لحرکتها ، لا لکون الإرادة علّةً لحصول کلّ مراد ، بل لأنّـه حیث تکون القویٰ مقهورةً للنفس محکومةً بالنسبة إلیها ، فلا محالة لا تتعصّیٰ عن إطاعتها ، کما أنّـه ربّما یعرض بعض تلک القویٰ ما یمنعـه عن الانقیاد لها ، فربّما ترید تحریکها ومعـه لا تتحرّک لثبوت المزاحم .
وبالجملـة فالإرادة لا تکون علّةً تامّة بالنسبة إلیٰ کلّ مراد ، بل إنّما تکون کذلک فیما لو کان المراد تحریک قوی النفس مع کونها سلیمةً عن الآفة وقابلةً للانقیاد عنها ؛ لما عرفت من عدم التعصّی عنها ، وحینئذٍ فلو فرض أنّ النفس أراد تحریکها فی الاستقبال فهل الانقیاد لها یقتضی التحرّک فی الحال أو فی الاستقبال ؟
والحاصل : أنّ منشأ الحکم بامتناع تعلّق الإرادة بأمر استقبالی هو کون الإرادة علّةً تامّة ، وبعدما عرفت من عدم کونها کذلک فی جمیع الموارد وفی موارد ثبوتها لاینافی کون المراد أمراً استقبالیاً کما عرفت ، لم یبق وجـه لامتناع انفکاک الإرادة عن المراد بعد وضوح إمکان تعلّق الإرادة بما هو کذلک .
منها : أنّ ما ذکره فی مقام الجواب عن المتن من أنّـه إذا کان المراد ذا مقدّمات کثیرة تکون المقدّمات تابعةً لذیها بالنسبة إلی الشوق لا الإرادة ، فیرد
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 52 علیـه ـ مضافاً إلیٰ ما ذکرنا فی محلّـه من أنّ الشوق لیس من مقدّمات الإرادة ؛ لأنّ الإنسان کثیراً ما یرید بعض الأشیاء مع عدم الاشتیاق إلیـه أصلاً ، بل ربّما ینزجر عنـه کمال الانزجار ، کشرب الدواء مثلاً ـ أنّـه لو سلّمنا ذلک ، فلا نسلّم بالنسبـة إلی المقدّمات ؛ فإنّها لا تکون مشتاقاً إلیها للمرید من حیث المقدّمیـة أصلاً ، فکیف تتبع ذیها فی الشوق ؟ !
هذا ، مضافاً إلی أنّـه لو لم یکن الشوق فی ذی المقدّمـة بالغاً إلیٰ حدّ إرادتها ـ کما اعترف بـه ـ فکیف یمکن بلوغـه فی المقدّمـة إلیٰ حدّ الإرادة مع کونها مرادةً بوصف المقدّمیـة ؟ ! کما لایخفیٰ .
هذا بالنسبـة إلیٰ ما ذکره فی الإرادة التکوینیـة .
وأمّا ما ذکره فی الإرادة التشریعیـة التی هی محلّ النزاع فی المقام .
فیرد علیـه ـ مضافاً إلی أنّ البعث لیس لإیجاد الداعی للمکلّف إلی الفعل ، بل لإیجاد موضوع الإطاعـة والعصیان ـ أنّ امتناع انفکاک الانبعاث عن البعث الفعلی وإن کان غیر قابل للمنع أصلاً إلاّ أنّـه لو فرض أنّ العبد مبعوث إلیٰ أمر استقبالی ـ کما فی المقام ـ فامتناع تخلّف الانبعاث إنّما هو فی وقت حضوره .
وبالجملـة ، فالبعث إلی الأمر الفعلی یمتنع انفکاک الانبعاث الفعلی إلیـه ، وأمّا البعث إلی الأمر الاستقبالی فالانبعاث بالنسبـة إلیـه یلحظ فی زمان حضور وقت ذلک الأمر ، کما لایخفیٰ .
ثمّ إنّـه ذکر بعض الأعاظم ـ علیٰ ما فی التقریرات المنسوبـة إلیها ـ فی مقام امتناع الواجب المعلّق ما ملخّصـه : أنّ امتناعـه لیس لأجل استحالـة تعلّق التکلیف بأمر مستقبل ، کیف والواجبات الشرعیـة کلّها من هذا القبیل ، ولا لعدم
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 53 إمکان تعلّق الإرادة بأمر مستقبل ، فإنّ إمکانـه بمکان من الوضوح بحیث لا مجال لإنکاره ، بل یستحیل أن لا تتعلّق الإرادة من الملتفت بـه إذا کان متعلّقاً لغرضـه ، کما هو واضح ، بل امتناعـه إنّما هو لکون الأحکام الشرعیـة إنّما هو علیٰ نهج القضایا الحقیقیـة ، ومعنیٰ کون القضیّـة حقیقیّةً هو أخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصادیقـه المفروضة الوجود موضوعاً للحکم ، فیکون کلّ حکم مشروطاً بوجود الموضوع بمالَـه من القیود من غیر فرق بین أن یکون الحکم من الموقّتات أو غیرها ، غایتـه أنّ فی الموقّتات یکون للموضوع قید آخر سوی القیود المعتبرة فی موضوعات سائر الأحکام من العقل والبلوغ والقدرة وغیر ذلک .
وحینئذٍ ینبغی أن یسئل ممّن قال بالواجب المعلّق أنّـه أیّ خصوصیـة بالنسبـة إلی الوقت حیث قلت بتقدّم الوجوب علیـه دون سائر القیود ؟
ولیت شعری ما الفرق بین الاستطاعـة فی الحج والوقت فی الصوم حیث کان وجوب الحج مشروطاً بها ولم یکن وجوب الصوم مشروطاً بالوقت ، فإن کان الملاک فی الأوّل هو کونها مأخوذاً قیداً للموضوع ومفروض الوجود ، فالوقت أیضاً کذلک ، بل الأمر فیـه أوضح ؛ لأنّـه لایمکن إلاّ أخذه مفروض الوجود ؛ لأنّـه أمر غیر اختیاری ، وکلّ ما هو کذلک لابدّ أن یؤخذ مفروض الوجود ، ویقع فوق دائرة الطلب ، ویکون التکلیف بالنسبـة إلیـه مشروطاً لا مطلقاً ، وإلاّ یلزم تکلیف العاجز .
والحاصل : أنّ القول بتقدّم التکلیف علیـه ـ کما هو الشأن فی سائر القیود التی یتقدّم التکلیف علیها ، کالطهارة والساتر وغیر ذلک ـ یستلزم محالاً فی محال ؛ لأنّـه یلزم أوّلاً لزوم تحصیلـه ، کما فی تلک القیود ، والمفروض عدم إمکان تحصیلـه ، وثانیاً تحصیل الحاصل ؛ لاستلزامـه تحصیل ما هو مفروض الوجود .
وبالجملـة دعویٰ إمکان الواجب المعلّق فی القضایا الشرعیـة التی تکون
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 54 علیٰ نهج القضایا الحقیقیـة فی غایـة السقوط . هذه خلاصـة ما ذکره المحقّق النائینی علیٰ ما فی التقریرات .
ویتوجّـه علیـه ما عرفت سابقاً : من أنّ القیود علیٰ قسمین :
فإنّـه قد تتعلّق إرادة المرید بالصلاة فی المسجد مثلاً بمعنیٰ کون مراده هو هذا الأمر المقیّد لأجل دخالـة القید فی حصول غرضـه ، فلا محالـة یصیر بصدد تحصیل مطلوبـه حتّیٰ لو لم یکن المسجد موجوداً یرید بناءه حتّیٰ یصلّی فیـه أو یأمر ببنائـه لذلک .
وقد تتعلّق إرادتـه بالصلاة علیٰ تقدیر تحقّق المسجد بمعنیٰ أنّـه لایکون طالباً لأصل الصلاة ومریداً لها لکن علیٰ تقدیر وجود المسجد یریٰ نفسـه مجبوراً بالإتیان بها لبعض الجهات ، فربّما یتوصّل بأسباب مختلفـة ووسائط متعدّدة لأجل عدم تحقّق المسجد لعدم کونـه مشتاقاً إلی الصلاة مریداً لها أصلاً ولکن علیٰ تقدیر تحقّقـه یجبر نفسـه علی الإتیان بها فیـه ، ولهذا نظائر کثیرة ، فإنّـه قد تتعلّق إرادة الإنسان بضیافـة صدیقـه مطلقاً ، فإنّـه لا محالـة یصیر بصدد تحصیل مقدّماتـه حتّیٰ لو لم یکن فی بلده یدعوه إلیـه ، وقد تتعلّق إرادتـه بضیافتـه علیٰ تقدیر مسافرتـه إلیٰ بلد المضیف ونزولـه فی منزلـه وغیر ذلک من الأمثلـة الکثیرة .
ففی الصورة الاُولیٰ من المثالین لایکون القید مفروض الوجود حتّیٰ یکون التکلیف متأخّراً عنـه وثابتاً علیٰ تقدیر وجوده ، بل هو من القیود الواقعـة تحت دائرة الطلب لا فوقها لو کان أمراً مقدوراً للمکلّف ، کما أنّـه لو لم یکن مقدوراً یکون التکلیف ثابتاً قبلـه وإن لم یکن متوجّهاً إلیـه أصلاً ، وهذا هو الفرق بین الاستطاعـة فی الحجّ والوقت فی الصوم .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 55 وما ذکره من لزوم تحصیل الحاصل ، ففیـه : أنّـه لم یؤخذ مفروض الوجود حتّیٰ یلزم ذلک ، کما عرفت .
وبالجملـة فإمکان الواجب المعلّق فی الشرعیات وإن کانت الأحکام علیٰ نهج القضایا الحقیقیـة بمکان من الوضوح ؛ لما عرفت من عدم الاستحالـة بشیء من الوجوه التی ذکروها .
هذا کلّـه فیما لو علم رجوع القید الواقع فی الکلام إلی الهیئـة أو المادّة .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 56