إشکال ودفع
لا یخفی: أنّ التملیک المجرّد من التملّک لیس مؤثّراً، ولیس بیعاً، فلا تأثیر لنفس الإنشاء المجرّد من القبول، فوقوع البیع موقوف علی القبول.
ولا یخفی أیضاً: أنّ الإرادة للفعل إنّما تنقدح فیما علم عدم استحالة وقوعه، وأمّا فیما علم استحالته فلا تنقدح إرادة إیجاده.
فعلی هذا، فکیف ینشئ البائع الملکیة ویوجب البیع بإیجابه مع علمه بعدم تحقّق المنشأ والموجَب بمجرّد إیجابه وإنشائه؟!
وبعبارة أوضح: إذا علم البائع بعدم تأثیر إیجابه وعدم تحقّق إنشائه مجرّداً عن القبول، فکیف تنقدح الإرادة فیه لإنشاء البیع مع علمه بعدم تحقّقه واستحالته فی عالم الاعتبار؟! فماذا یراد بإیجاده، وکیف یستعمل «ملّکت هذا بهذا» فی المعنی الإیجادی الإیقاعی مع العلم بعدم وجوده ووقوعه؟
وقد یوجّه ذلک: بأنّ العناوین القصدیة تابعة للقصد واعتبار المعتبر، فالتملیک فی عالم الاعتبار والإنشاء، یتحقّق بنظر المنشئ وباعتباره وإنشائه؛ وإن لم یؤثّر ولم یقع فی نظر العرف والشرع إلاّ بتعقّب القبول، کما قیل فی التعظیم والاستهزاء: من أ نّهما تابعان للقصد ومن العناوین القصدیة، وأ نّه قد یکون فعل تعظیماً إن قصد به التعظیم، وقد یکون ذاک إهانة بقصد الإهانة، کالقیام، فإنّه یقع تعظیماً وإهانة حسب القصد.
وفیه: أ نّه خلاف التحقیق؛ فإنّ ما لیس آلة للتعظیم، کیف یقصد به التعظیم حتّی یقع تعظیماً، وما لیس آلة للإهانة والاستهزاء، کیف یقصد به الإهانة؟!
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 20 وحقیقة ذلک: أنّ المنشأ والموجب للتعظیم، إدراک عظمة الطرف، فیوجب ذلک الإدراک أن یوجد ما یُعظّم به؛ أعنی آلة التعظیم، مثل القیام مثلاً، وقد لا یُدرک للطرف عظمةً وقدراً، بل یدرک ما یوجب التحقیر والإهانة، فیستعمل تلک الآلة أیضاً فی مقام الاستهزاء، کما أنّ الألفاظ أیضاً کذلک، فإنّ قول القائل: «هو أسد» قد یستعمل فی مقام التوصیف بالشجاعة، وقد یطلق فی مقام الاستهزاء والتوصیف بالجبن والخوف.
وعلیه فلیست حقیقة التعظیم والاستهزاء وتحقّقهما، تابعة للقصد؛ حتّی یقع بما لیس من خاصّیته ذلک، فیصیر القیام تعظیماً تارةً، وإهانةً اُخری بحسب القصد، بل المبادئ المحرّکة للتعظیم والعلل الموجبة له وللاستهزاء مختلفة، فتوجب تارةً تعظیم الشخص، واُخری إهانته، لا أنّ القصد یوجب تحقّقه تارةً، وعدم تحقّقه اُخری حتّی یکون مع إدراک عظمته استهزاءً وإهانةً، وکذا العکس.
و أمّا الجواب عنه، فمن وجهین:
أوّلهما: أنّ ما یحصل بالبیع وکذا سائر أبواب المعاملات ـ کالإجارة، والهبة، والصلح ـ لیس أمراً واقعیّاً خارجیّاً؛ بحیث کان من الأعراض أو الجواهر؛ فإنّ إضافة المال إلی زید مثلاً، لیست حقیقة من الحقائق وشیئاً موجوداً فی الخارج، بل الملکیة وما بحذائها من الاُمور الاعتباریة التی یعتبرها العقلاء.
وبعبارة اُخری: لیست الملکیة من الأعراض؛ بحیث تکون إضافة المالکیة القائمة بالشیء، شیئاً فی الخارج، بل العقلاء یعتبرون ـ من البدو إلی الختم ـ فی حیاتهم الاجتماعیة، إضافات للأشخاص وعلائق بالأشیاء المحتاج إلیها فی معایشهم، ومنها ما یسمّی بالملکیة، فهی صرف اعتبار. نعم، یکون متعلّق المعتبَر ـ بالفتح ـ فی الخارج، کالدار، والثوب، ونحو ذلک. ومن المعلوم أنّ اعتبار
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 21 العقلاء قائم بنفوسهم، وهو أمر حقیقی وصفة قائمة بالنفس.
ولا یخفی أیضاً: أنّ الاعتبار کما کان فی أوّل المجتمع الإنسانی، کان ثابتاً فی جمیع أدواره وأزمانه، فلیس اعتبارهم تلک الإضافات والعلائق مرّة فی ابتداء الأمر، کافیاً فی تحقّقها بعدُ، بل کلّما تحقّق بیع أو إجارة ونحوهما یحتاج إلی اعتبارهم، وقد لا یعتبرون، کبیع منّ من تراب مثلاً.
وأیضاً: فإنّ من المعلوم البدیهی، أنّ المعتبَر ـ کالملکیة مثلاً ـ کما لم یکن قبل الاعتبار شیئاً موجوداً خارجاً، لا یصیر بعد الاعتبار شیئاً موجوداً عرضیاً خارجیاً، بل هو نفس الإضافة والعلقة الاعتباریة.
إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ ألفاظ المعاملات لم توضع للإیجاد والجعل؛ لأنّ الملکیة الموجدة بها لا واقعیة لها، ولا تکون شیئاً حتّی توجد بها، واعتبار العقلاء أیضاً لیس قابلاً للإیجاد والتصرّف فیه، فلا یمکن إیجاد شیء بالإیجاب والقبول، فقولک: «بعت» إن کان موجداً للملکیة ـ أعنی الماهیة المتقوّمة باعتبار العقلاء ـ یکون موجداً لاعتبار العقلاء، فیلزم عدم قوام اعتبارهم بنفوسهم، وهو خلف؛ إذ المفروض أنّ الملکیة لیست بشیء حتّی توجد به، بل هی صرف اعتبارهم، فیلزم إیجاد اعتبارهم إضافة المالکیة، وهو خلاف الفرض.
بل لا تأثیر للعقد برمّته ـ أعنی الإیجاب والقبول ـ إذ لا یعقل إیجاد شیء لا تحقّق له فی الخارج بالإیجاب والقبول، ولا یمکن التأثیر فی نفوس العقلاء أیضاً.
فالعقد وکذا الحیازة وغیرهما من أسباب المالکیة، لیست بنفسها مؤثّرة وموجدة لشیء، بل تکون موضوعاً لاعتبار العقلاء، فالتملیک والتملّک الإنشائیان إذا وجدا عن جدٍّ وکذا الحیازة، فقد تحقّق موضوع اعتبارهم، فإذا
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 22 قال: «ملّکت هذا بهذا» وصدر عنه الإیجاب، فلیس فی مقام إیجاد شیء وإن کان ذلک إنشاء تملیک، إلاّ أ نّه یعلم أنّ إنشاءه لیس مؤثّراً وإن تعقّب بالقبول، بل غرضه من الإیجاب إیجاد جزء الموضوع لاعتبار العقلاء، فإذا انضمّ إلیه القبول والتملّک، فقد حصل تمام الموضوع، فیعتبرون الملکیة علی العوضین للمتبایعین.
والحاصل: أنّ الإشکال دائر مدار کون الألفاظ للإیجاد والتأثیر، فإنّه حینئذٍ مع علمه بعدم التأثیر والوجود، فماذا یقصد بها؟! وأمّا بناءً علی عدم التأثیر والإیجاد للألفاظ قبولاً وإیجاباً، فلا إشکال؛ فإنّ غرضه وقصده من استعمالها لیس إیجاد شیء، بل تحقّق الموضوع لاعتبارهم. لا نقول بعدم الإنشاء وتجرید الألفاظ منه، بل نقول بأنّ إنشاء الموجب وقبول القابل، لیس مؤثّراً فی شیء وموجداً لشیء، بل هما ـ أعنی إنشاء التملیک والتملّک ـ موضوعان لاعتبار العقلاء.
وثانیهما: أ نّا لو سلّمنا بأنّ الألفاظ وضعت للإیجاد والتأثیر، فلا نسلّم أنّ لفظ الإیجاب تمام المؤثّر وتمام العلّة للإیجاد حتّی یضرّ العلم بعدم تأثیره، بل هو جزء المؤثّر والعلّة، والجزء الآخر قبول المشتری، فهما معاً یؤثّران فی إیجاد الملکیة، فالعلم بعدم التأثیر لا یضرّ؛ فإنّه مع علمه بأ نّه جزء المؤثّر، یقصد به إیجاد جزء العلّة.
وبالجملة: هنا ثلاثة احتمالات:
أوّلها: کون الإیجاب والقبول موضوعاً لاعتبار العقلاء؛ من دون تأثیر لهما فی شیء.
ثانیها: تأثیرهما معاً فی الملکیة؛ علی أن یکون کلّ منهما جزء المؤثّر.
ثالثها: أن یکون الإیجاب تمام المؤثّر لا بنحو العلّیة التامّة، بل بنحو
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 23 المقتضی، فیکون القبول شرطاً متأخّراً عنه، فالإیجاب مؤثّر بضمیمة القبول، وعلیه فلا إشکال أیضاً فی حصول الأثر بعد الشرط، فینشأ التملیک بضمیمة القبول؛ بمعنی أنّ المنشأ لیس التملیک فعلاً، بل التملیک فی ظرف القبول، لا بنحو التعلیق حتّی یرد إشکال التعلیق، بل یکون ظرف إنشائه فی ذلک الوقت، نظیر الوصیة، فإنّ الموصی إذا أوصی «بأنّ مالی بعد وفاتی لزید» أو «للخیرات» مثلاً، فقد أنشأ التملیک لزید فی ذلک الزمان؛ بمعنی أنّ ظرف المنشأ ـ أعنی التملیک ـ ذلک الوقت، ولیس هذا تعلیقاً.
وکذا مثل الفضولی، فإنّ إنشاء الفضولی مع علمه بتوقّف التأثیر علی الإذن فی ظرف حصول الإذن؛ بحیث ینشئ ملکیته فی ذاک الظرف، ولم یخلّ عدم تحقّق منشئه فعلاً فی إنشائه وصحّته؛ لأنّه لم ینشأ فعلاً.
وأمّا قول الشیخ رحمه الله: «بأ نّه من قبیل الإیجاب والوجوب، لا الکسر والانکسار» بمعنی أنّ إنشاءه التملیک، واقع فی نظره ومؤثّر فی اعتباره وإن لم یقع خارجاً، فهو نظیر إیجاب السافل مع عدم تحقّق الوجوب عند العقلاء، ولیس من قبیل الکسر والانکسار؛ لأنّه من الاُمور التکوینیة القابلة للانفعال، وهذه من الاعتباریة القابلة لاختلاف الأنظار فیها؛ بحیث کان واقعاً ومؤثّراً بنظر دون نظر آخر.
فلا محصّل له؛ لأنّ من المعلوم عدم وقوعه وتأثیره بنظره؛ فإنّه یعلم قطعاً بأنّ المال باقٍ علی ملکیّته، وبعدم تحقّق الملکیة للمشتری مادام لم یقبل، وعدم جواز التصرّف فی العوض، ومع هذا فکیف یکون واقعاً بنظره واعتباره؟!
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 24 و کذا قول النائینی رحمه الله: «بأنّ اسم المصدر لا محالة واقع بعد إیجابه وإنشائه، فهو نظیر الکسر والانکسار من هذه الجهة؛ أی من جهة وقوع اسم المصدر فی نظره، ومن قبیل الإیجاب والوجوب من جهة وقوعه خارجاً».
فإنّ اسم المصدر هو الملکیة، ولو کانت واقعة فی نظره، فلِمَ لا تترتّب علیها الآثار ـ من التصرّف والانتقال ـ مادام لم یقبل المشتری؟! فلا معنی لحصوله ووقوعه عنده.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 25