إشکال المحقّق النائینی علی الإعطاء من طرف واحد ونقده
وقد یقال: إنّ المدار علی إمکان إنشاء عنوان «البیع» أو «الإجارة» ونحوهما بالفعل من طرف واحد، أم لا؛ وذلک لما أشرنا إلیه سابقاً وسیجیء فی طیّ المباحث الآتیة، من أنّ المناط فی تحقّق عنوان عقد من العقود بالفعل، کون الفعل مصداقاً لهذا العنوان؛ بحیث یحمل علیه بالحمل الشائع الصناعی، کحمل «الإنسان» علی «زید» وأمّا مجرّد قصد عنوان من الفعل ـ من دون أن یکون هذا الفعل عرفاً من مصادیق هذا العنوان ـ فلا أثر له فی باب العقود؛ لأنّ عناوین العقود من المنشآت، والمنشأ إنّما یتحقّق بما هو آلة لإنشائه.
ومن هنا یظهر: أنّ مثل الصلح والهبة المعوّضة والنکاح والضمان ونحو ذلک، لا یمکن إیجاده بالفعل؛ لعدم وجود فعل یکون مصداقاً لهذه العناوین، فقصد إیجادها بالفعل لا یفید.
إذا عرفت ذلک فعمدة الإشکال فی جریان حکم المعاطاة فی الإعطاء من طرف واحد، أنّ الإعطاء کذلک لیس مصداقاً لخصوص تبدیل أحد طرفی الإضافة بمثله الذی یسمّی «بیعاً» وإن قصد به التعویض بالثمن الکلّی أو الشخصی، وأخذ الآخر المثمن بقصد القبول، وأعطی الثمن بعد ذلک بعنوان الوفاء؛ لأنّ نسبة هذین الإعطاءین إلی البیع والهبة المعوّضة متساویة، ومجرّد مقاولتهما علی کونه بیعاً وقصدهما البیع من إیجاد الفعل، لا یفید بعد عدم کونه مصداقاً له.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 271 وبالجملة: حیث إنّهما فی مقاولتهما عیّنا عوضاً معیّناً، فیخرج هذا الإعطاء عن عنوان «القرض»؛ لأنّ العوض فیه هو المثل أو القیمة، إلاّ أ نّه لا وجه لخروجه عن الهبة المعوّضة؛ لأنّها لیست إلاّ هبتین مستقلّتین وتملیکین مجّانیین، وفی المقام یمکن ذلک، فجعله مصداقاً للتبدیل الملکی فی غایة الإشکال.
ولا یقاس الإعطاء من طرف واحد بالإعطاء من الطرفین ویقال: کیف یستفاد البیع من إعطاء الطرفین مع أ نّه یمکن أن یکون هبة معوّضة؟
وذلک للفرق بینهما؛ فإنّه لو کان فی البین تعاط، فنفس هذا التبدیل المکانی بطبعه الأصلی تبدیل لأحد طرفی الإضافة الاعتباریة بطرفها الآخر، والمفروض أ نّهما قصدا به التبدیل البیعی، وأوجدا ما هو مصداق له، فإخراجه عن البیع وإدخاله فی الهبة المعوّضة، یحتاج إلی مؤونة زائدة، وهذا بخلاف ما إذا کان الإعطاء من طرف واحد، فإنّه لیس هناک تبدیل خارجی حتّی یکون قصد إنشاء التبدیل الاعتباری منه کافیاً.
وقد رجع عنه فی حاشیته قائلاً بعدم الفرق بین المقامین، فراجع.
أقول: لیس صرف النقل المکانی بطبعه الأصلی بیعاً عند العرف، بل بما أنّ مبدأ هذا التبدیل اعتبار المبادلة وتبدیل الإضافتین، یکون من مصادیق البیع؛ إذ ربّ تبدیل مکانی خالٍ عن هذا القصد والاعتبار، ولیس ببیع عندهم، کما لا یخفی، فالمناط هو مبدأ النقل والفعل، وإذا کان المحقّق للمصداقیة هو قصد المتعاملین واعتبار التبدیل لا نفس النقل المکانی، فلا مانع من ذلک فی
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 272 صورة الإعطاء والأخذ، فهو أیضاً مصداق للبیع، کما أنّ النسیئة متداولة بین العرف والعقلاء، فهی بیع عندهم، مع أ نّه لیس فیها إلاّ إعطاء من طرف، وأخذ من آخر.
ثمّ إنّ القول بعدم حصول النکاح والصلح بالفعل عند العرف، لا وجه له مع قطع النظر عن التعبّد الشرعی؛ إذ فرق بین قصد الفحشاء بفعل النکاح والتزویج، وبین إیجاد علقة الزوجیة به، فبعد حصول التراضی من الطرفین والمقاولة فیه، فما المانع من إیقاع علقة الزوجیة بالفعل وما هو الأثر الجائی من قبل اللفظ لولا التعبّد الشرعی به؟! کما أنّ أکثر زواج الاُمم غیر المتنحّلین بالشریعة الإسلامیة وبعض آخر من الشرائع کان علی هذا النحو. وکذا الصلح وسائر عناوین المعاملات.
وبالجملة: الوجدان حاکم بأنّ المعاطاة فی النکاح والصلح والبیع وأمثالها، مصداق لهذه العناوین عند العرف والعقلاء.
وأمّا قضیة الإیصال ـ کما إذا کانت العینان عندهما، وقصد کلّ منهما التملّک ـ فالظاهر عدم الصحّة؛ لأنّ تحقّق البیع موقوف علی إیقاعه، وهو إمّا بالفعل، أو اللفظ، وصِرف القصد من دون مبرز خارجی له، غیر کافٍ فی إیقاعه وإنشائه.
وأمّا أمثلة الشیخ رحمه الله فقابلة للمناقشة:
أمّا مثال دخول الحمّام ووضع الاُجرة فی المکان المعدّ له، فلیس من العناوین المتعارفة من قبیل «البیع» و«الإجارة» وأمثالهما؛ إذ لا یختلج ببال
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 273 الإنسان حین إعطاء الاُجرة شیء من ذلک، مع أ نّه لا ینطبق أحد هذه العناوین علیه، فهو نحو إباحة وإجازة فی إتلاف الماء ودخول الحمّام بالضمان.
وهکذا مثال الماء المأخوذ مع غیبة صاحبه، بل مع حضوره أیضاً، فإنّه لیس من مصادیق البیع أو نحوه؛ لعدم تعیین مقداره، ووزنه، وهکذا، فهو أیضاً إتلاف مع الضمان.
نعم، مثال أخذ الخضر ینطبق علیه عنوان البیع، لکن لیس من قبیل إیصال الثمن وأخذ المثمن، بل هو إعطاء وأخذ؛ إذ لا یلزم الأخذ بالید، بل یکفی مطلق ما یعدّ أخذاً.
فتحصّل من ذلک: أنّ المعاطاة کما تقع بالتعاطی من الطرفین، کذلک تقع بالإعطاء والأخذ، وکلاهما رائج معمول به بین العرف والعقلاء، ولا یقتصر علی لفظ «التعاطی» لعدم وروده فی نصّ، ولا معقد إجماع. وأمّا الإیصال من غیر فعل فلا اعتبار به.
کتابالبیع (ج. ۱): تقریر لما افاده الاستاذ الاکبر آیة الله العظمی الامام الخمینی (س)صفحه 274