فی جریان الأصل العقلی
الظاهر نعم ؛ لأنّ معنی حکم العقل بذلک عبارة عن مجرّد إدراکه هذا المعنی لا جعلـه التخیـیر . ومن الواضح ثبوت حکمه فی المقام ، فإنّـه بعد ملاحظة استواء العلم الإجمالی بالنسبـة إلی الطرفین ، وعدم کون المکلّف قادراً علی الامتثال بالنسبـة إلی کلا التکلیفین ، وعدم ثبوت مزیّـة محقّقـة أو محتملة لأحد الطرفین ، یدرک أنّ المکلّف مخیّر فی الفعل والترک ، وهذا هو معنی التخیـیر العقلی ، ولا ینافی ذلک عدم خلوّ المکلّف بحسب الخلقـة من الفعل أو الترک ، کما لا یخفی .
وأمّا ما أفاده المحقّق النائینی قدس سره ـ علی ما فی التقریرات ـ من عدم ثبوت الوظیفـة العقلیّـة هنا ، لأنّ التخیـیر العقلی إنّما هو فیما إذا کان فی طرفی التخیـیر ملاک یلزم استیفائـه ، ولم یتمکّن المکلّف من الجمع بین الطرفین کالتخیـیر الذی یحکم بـه فی باب التزاحم ، وفی دوران الأمر بین المحذورین لیس کذلک ، لعدم ثبوت الملاک فی کلّ من طرفی الفعل والترک .
ففیـه ـ مضافاً إلی أنّ ذلک مجرّد دعوی لا یساعده بیّنـة ولا برهان ، لعدم
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 68 نهوض دلیل علی اختصاص مورد التخیـیر العقلی بذلک ـ أنّ هذا منقوض بما إذا اضطرّ المکلّف إلی طرف غیر معیّن من أطراف العلم الإجمالی بخمریّـة هذا المائع أو مائع آخر مورد للابتلاء مثلاً ، فإنّـه لا خفاء فی أنّ العقل یحکم بالتخیـیر لرفع الاضطرار مع عدم ثبوت الملاک فی جمیع الأطراف ، فتدبّر .
وممّا ذکرنا یظهر الخلل فیما أفاده المحقّق العراقی ـ علی ما فی التقریرات ـ من أنّ الحکم التخیـیری شرعیّاً کان کما فی باب الخصال ، أو عقلیّاً کما فی المتزاحمین إنّما یکون فی مورد یکون المکلّف قادراً علی المخالفـة بترک کلا طرفی التخیـیر فکان الأمر التخیـیری باعثاً علی الإتیان بأحدهما وعدم ترکهما معاً ، لا فی مثل المقام الذی هو من التخیـیر بین النقیضین .
وجـه ذلک : أنّ مرجع هذا الکلام إلی دعوی کون مورد التخیـیر هو غیر مورد دوران الأمر بین المحذورین ، وهو مصادرة واضحـة ، کما لایخفی .
هذا کلّـه بالنسبـة إلی أصالـة التخیـیر ، وقد عرفت جریانها فی المقام .
وأمّا البراءة العقلیّـة : فالظاهر أیضاً جریانها ، لأنّ جنس التکلیف وهو الإلزام وإن کان معلوماً تفصیلاً ، إلاّ أنّ خصوصیّـة الوجوب والتحریم مجهولـة ، فیقبح العقاب علیها بعد عدم ثبوت حجّـة علی الخصوصیـة من قبل المولی ، فالعقاب علی نوع التکلیف قبیح ؛ لحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ، وعلی جنسـه أیضاً قبیح ؛ لعدم القدرة علی الامتثال ، هذا .
ویظهر من جماعـة من المحقّقین عدم جریان البراءة العقلیّـة لوجوه :
منها : ما أفادة المحقّق الخراسانی فی الکفایـة من أنّـه لا مجال هاهنا
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 69 لقاعدة قبح العقاب بلا بیان ، فإنّـه لا قصور فیـه هاهنا ، وإنّما یکون عدم تنجّز التکلیف لعدم التمکّن من الموافقـة القطعیـة کمخالفتها ، والموافقـة الاحتمالیـة حاصلـة لا محالـة ، کما لایخفی .
ومنها : ما فی التقریرات المنسوبـة إلی المحقّق النائینی قدس سره من أنّ مدرک البراءة العقلیّـة قبح العقاب بلا بیان ، وفی باب دوران الأمر بین المحذورین یقطع بعدم العقاب لأنّ وجود العلم الإجمالی کعدمـه لا یقتضی التنجیز والتأثیر ، فالقطع بالمؤمّن حاصل بنفسـه بلا حاجـة إلی حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان .
ومنها : ما أفاده المحقّق العراقی علی ما فی تقریراتـه ممّا ملخّصـه : أنّ مع حصول الترخیص فی الرتبـة السابقـة عن جریان البراءة بحکم العقل بالتخیـیر بین الفعل والترک لا یبقی مجال لجریان أدلّـة البراءة العقلیّـة والشرعیّـة ، هذا .
ولا یخفی ما فی جمیع هذه الوجوه من الخلل والضعف .
أمّا الوجـه الأوّل : فلأنّ المراد بعدم قصور فی البیان إن کان هو عدم القصور بالنسبـة إلی جنس التکلیف فواضح ، ونحن أیضاً نقول بـه ، ولکن ذلک لا ینافی قصوره بالنسبـة إلی نوع التکلیف . وإن کان المراد بـه هو عدم القصور بملاحظـة النوع أیضاً فنحن نمنع ذلک ، کیف وخصوصیّـة الوجوب والحرمـة مجهولـة ، فالحکم بنفی العقاب علیها متوقّف علی إجراء قاعدة قبح العقاب بلا بیان ، وبدونها لا مجال لهذا الحکم أصلاً ، کما لایخفی .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 70 وأمّا الوجـه الثانی : فلأنّ القطع بعدم العقاب وبوجود المؤمّن ممّا لا یحصل لو اُغمض النظر عن حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ، ومجرّد سقوط العلم الإجمالی عن التنجیز والتأثیر وصیرورة وجوده کعدمـه لا یجدی ما لم ینضمّ إلیـه القاعدة ، کیف ولو فرض جواز العقوبـة علی خصوصیّـة الوجوب مثلاً ولو کانت مجهولـة فمن أین یقطع بعدم العقاب ووجود المؤمّن حینئذٍ ، فهذا القطع إنّما هو بملاحظـة هذه القاعدة .
وأمّا الوجـه الثالث : فلأنّ الحکم بتأخّر رتبـة أدلّـة البراءة عن حکم العقل بالتخیـیر بین الفعل والترک ممنوع جدّاً ، فإنّ الحکم بالتخیـیر إنّما هو بعد ثبوت قبح العقاب علی خصوصیّـة الوجوب والحرمـة ، لأنّـه لو فرض إمکان العقوبـة علی التکلیف الوجوبی مثلاً وإن کان مجهولاً لا یحکم العقل بالتخیـیر ، فحکمـه بـه إنّما هو بعد ملاحظـة عدم ثبوت البیان علی الخصوصیـة وعدم جواز العقوبـة علیها کما عرفت ، هذا .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 71