إشکال شمول الأدلّة للأخبار مع الواسطة
والمهمّ هنا إشکال شمول الأدلّة للأخبار مع الواسطة ؛ وقد قرّره الشیخ الأعظم بوجوه ، ضرب علی بعضها القلم فی بعض النسخ ، وفصّلها وأوضحها بعض أعاظم العصر بوجوه خمسة ، ونحن نذکر ما هو المهمّ .
وبما أنّ بعض تلک الوجوه لیس تقریراً لإشکال واحد ـ وإن کانت عامّة الوجوه راجعة إلی الإخبار بالواسطة ـ فلا جرم نفصّلها بما یلی :
الأوّل : انصراف الأدلّة عن الإخبار بالواسطة إذا کانت الوسائط کثیرة ـ کما فی الأخبار الواصلة إلینا من مشائخنا ـ فإنّ الواسطة بیننا وبین المعصومین کثیرة جدّاً ، ومثل هذه الأخبار بعید عن مصبّ الأدلّة اللفظیة . وأمّا اللبّی منها ، کبناء العقلاء ـ الذی هو الدلیل الوحید عندنا ـ فلم یحرز بناء منهم فی هذه الصورة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 451 ولم یکن الإخبار بالوسائط الکثیرة بمرأی ومسمع من الشارع حتّی نکشف من سکوته رضاه .
ولکنّه مدفوع بمنع الانصراف بالنسبة إلی الأخبار الدارجة بیننا ؛ فإنّه إنّما یصحّ لو کانت الوسائط کثیرة ؛ بحیث أسقطه کثرة الوسائط عن الاعتبار ، وأمّا الأخبار الدائرة بیننا فصدورها عن مؤلّفیها إمّا متواترة کالکتب الأربعة أو مستفیضة ، ولا نحتاج فی إثبات صدورها عن هؤلاء الأعلام إلی أدلّة الحجّیة .
وأمّا الوسائط بینهم وبین أئمّة الدین فلیست علی حدّ یخرجه عن الاعتبار أو یوجب انصراف الأدلّة .
وأمّا اللبّی من الأدلّة فلا وجه للتردّد فی شموله لما نحن فیه ؛ ضرورة أنّ العقلاء یحتجّون بما وصل إلیهم بوسائط کثیرة أکثر ممّا هو الموجود فی أخبارنا ، فکیف بتلک الوسائط القلیلة ؟
الثانی : أنّ الأدلّة منصرفة عن المصداق التعبّدی للخبر الذی اُحرز بدلیل الحجّیة ؛ فإنّ من نسمع کلامه ونشافهه فإخباره أمر وجدانی لنا ، وأمّا من یحکی عنهم من الوسائط ، إلی أن یصل إلی أئمّة الدین فکلّها أخبار تعبّدیة محرزة بدلیل الحجّیة .
ویدفعه : أنّ العرف لا یفرّق بین فاقد الواسطة وواجدها ؛ بحیث لو قلنا بقصور الإطلاق لحکم العرف بشمول مناط الحجّیة لعامّة الأقسام بإلغاء الخصوصیة أو بتنقیح المناط .
الثالث : أنّ حجّیة الخبر الواصل إلینا بالوسائط تستلزم إثبات الحکم لموضوعه ؛ فإنّ الشیخ إذا أخبر عن المفید ، وهو عن الصدوق فالمصداق الوجدانی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 452 لنا هو قول الشیخ ، فیجب تصدیقه ، وأمّا قول المفید إلی أن ینتهی إلی الإمام فإنّما یصیر مصداقاً لموضوع قولنا : «صدّق العادل» بعد تصدیق الشیخ قدس سره ، فیلزم إثبات الموضوع بالحکم ، وهو محال .
واُجیب عنه تارة : بأنّ أدلّة الحجّیة من قبیل القضایا الحقیقیة الشاملة للموضوعات المحقّقة والمقدّرة ، فلا مانع من تحقّق الموضوع بها وشمولها لنفسها ، فیشمل قولنا «صدّق العادل» للموضوع المنکشف لنا إثباتاً بنفس التصدیق ، کشمول قول القائل : «کلّ خبری صادق» لنفسه .
واُخری : بانحلال قولنا «صدّق العادل» إلی قضایا کثیرة ؛ فإنّ الذی لا یعقل إنّما هو إثبات الحکم موضوع شخصه ، لا إثبات موضوع لحکم آخر ؛ فإنّ خبر الشیخ المحرز بالوجدان یجب تصدیقه ، وبتصدیقه یحصل لنا موضوع آخر ؛ وهو خبر المفید ، وله وجوب تصدیق آخر ، وهکذا . فکلّ حکم متقدّم ـ وجوب التصدیق ـ یثبت موضوعاً مستقلاًّ لحکم آخر .
الرابع : أنّه یلزم أن یکون الأثر الذی بلحاظه وجب تصدیق العادل نفس تصدیقه ، من دون أن یکون فی البین أثر آخر کان وجوب التصدیق بلحاظه .
وإن شئت قلت : یلزم کون الحکم ناظراً إلی نفسه ؛ فإنّ وجوب التصدیق الذی یتعلّق بالخبر مع الواسطة إنّما یکون بلحاظ الأثر الذی هو وجوب التصدیق .
وتوضیحه : أنّ وجوب التعبّد بالشیء لابدّ وأن یکون بلحاظ ما یترتّب علی الشیء من الآثار الشرعیة ؛ فلو فرضنا خلوّ الموضوع عن الأثر الشرعی لما صحّ إیجاب التعبّد الشرعی به . فلزوم التعبّد بعدالة زید التی قامت البیّنة علی اتّصافه بها
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 453 لأجل کونها ذات آثار ؛ من جواز الصلاة خلفه ، وإیقاع الطلاق عنده .
وعلی ذلک : فلو کان الراوی حاکیاً قول الإمام فوجوب التصدیق بلحاظ ما یترتّب علی قول الإمام من الآثار ، کحرمة الشیء ووجوبه ؛ ولو کان المحکی قول غیره ، کحکایة الشیخ قول المفید فالأثر المترتّب علی قول المفید لیس إلاّ وجوب تصدیقه ، وحینئذٍ یجب تصدیق الشیخ فیما یحکیه لأجل کون محکیه ـ قول المفید ـ ذا أثر شرعی ؛ وهو وجوب التصدیق ، ولا یعقل أن یکون الحکم بوجوب التصدیق بلحاظ نفسه .
وأجاب عنه بعض أعاظم العصر قدس سره : بأنّ المجعول عندنا فی باب الأمارات نفس الکاشفیة والوسطیة فی الإثبات ؛ لأنّ المجعول فی جمیع السلسلة هو الطریقیة إلی ما تؤدّی إلیه ـ أیّ شیء کان المؤدّی ـ فقول الشیخ طریق إلی قول المفید ، وهو إلی قول الصدوق ، وهکذا إلی أن ینتهی إلی قول الإمام علیه السلام . ولا نحتاج فی جعل الطریق إلی أن یکون فی نفس المؤدّی أثر شرعی ، بل یکفی الانتهاء إلی الأثر ، کما فی المقام .
وفیه : أنّ الإشکال غیر مندفع أیضاً ـ حتّی علی القول بجعل الطریقیة ـ فإنّ محصّل الإشکال لزوم کون الدلیل ناظراً إلی نفسه ، وکون دلیل الجعل باعتبار الأثر الذی هو نفسه ، وهو وارد علی مبناه أیضاً ؛ فإنّ خبر الشیخ المحرز بالوجدان طریق إلی خبر المفید وکاشف عنه بدلیل الاعتبار ، وهو کاشف عن خبر الصدوق بدلیل الاعتبار أیضاً ، وهکذا . فدلیل جعل الکاشفیة ناظر إلی جعل کاشفیة نفسه ، ویکون جعل الکاشفیة بلحاظ جعل الکاشفیة ، وهو محال .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 454 وبعبارة اُخری : أنّ الحاکم لابدّ له من لحاظ موضوع حکمه حین الحکم والموضوع لمّا لم یثبت إلاّ بهذا الحکم فلابدّ أن یکون دلیل الجعل ناظراً إلی نفسه باعتبار ما عدا الخبر الذی فی آخر السلسلة ، ولابدّ فی الذبّ عنه ببعض الوجوه المتقدّمة أو الآتیة .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر قرّر الإشکال المتقدّم بتقریر آخر ، وجعله خامس الوجوه ؛ حیث قال : ویمکن تقریر الإشکال بوجه آخر ، لعلّه یأتی حتّی بناءً علی المختار وهو : أنّه لو عمّ دلیل الاعتبار للخبر مع الواسطة یلزم أن یکون الدلیل حاکماً علی نفسه ویتّحد الحاکم والمحکوم ؛ لأنّ أدلّة الاُصول والأمارات حاکمة علی الأدلّة الأوّلیة الواردة للأحکام الواقعیة . ومعنی حکومتها هو أنّها مثبتة لتلک الأحکام . وفیما نحن فیه یکون الحکم الواقعی هو وجوب التصدیق ، واُرید إثباته بدلیل وجـوب التصدیق ، فیکون دلیل وجـوب التصدیق حاکماً علی نفسه ؛ أی مثبتاً لنفسه .
ونظیر هذا الإشکال یأتی فی الأصل السببی والمسبّبی ؛ فإنّ لازمه حکومة دلیل لا تنقض علی نفسه .
والتحقیق فی الجواب : أنّ دلیل الاعتبار قضیة حقیقیة ینحلّ إلی قضایا ، فدلیل التعبّد ینحلّ إلی قضایا متعدّدة حسب تعدّد آحاد السلسلة ، ویکون لکلّ منها أثر یخصّه غیر الأثر المترتّب علی الآخر ، فلا یلزم اتّحاد الحاکم والمحکوم ، بل یکون کلّ قضیة حاکمة علی غیرها .
فإنّ المخبر به بخبر الصفّار الحاکی لقول العسکری علیه السلام فی مبدأ السلسلة لمّا
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 455 کان حکماً شرعیاً من وجوب الشیء أو حرمته وجب تصدیق الصفّار فی إخباره عن العسکری بمقتضی أدلّة خبر الواحد ، والصدوق الحاکی لقول الصفّار حکی موضوعاً ذا أثر شرعی ، فیعمّه دلیل الاعتبار ، وهکذا إلی أن ینتهی إلی قول الشیخ المحرز بالوجدان .
فلأجل الانحلال لا یلزم أن یکون الأثر المترتّب علی التعبّد بالخبر بلحاظ نفسه ، ولا حکومة الدلیل علی نفسه ، فیرتفع الإشکال .
ومن ذلک یظهر دفع الإشکال فی حکومة الأصل السببی علی المسبّبی ؛ فإنّ انحلال قوله علیه السلام : «لا تنقض الیقین بالشکّ» یقتضی حکومة أحد المصداقین علی الآخر ، کما فی ما نحن فیه .
وإنّما الفرق : أنّ الحکومة فی باب الأصل السببی والمسبّبی تقتضی إخراج الأصل المسبّبی عن تحت قوله علیه السلام : «لا تنقض الیقین بالشکّ» ، وحکومة دلیل الاعتبار فیما نحن فیه یقتضی إدخال فرد فی دلیل الاعتبار .
ثمّ أوضحه مقرّر بحثه رحمه الله فی ذیل الصحیفة بما حاصله : أنّ طریق حلّ الإشکال الثالث مع طریق حلّ الإشکال الرابع ، الذی جعله خامس الوجوه ـ وإن کان أمراً واحداً ـ وهو انحلال القضیة .
إلاّ أنّ حلّ الإشکال الأوّل یکون بلحاظ آخر السلسلة ؛ وهو خبر الشیخ المحرز بالوجدان ، فإنّ وجوب تصدیقه یثبت موضوعاً آخر ، وحلّ الإشکال الثانی بلحاظ مبدأ السلسلة ؛ وهو الراوی عن الإمام علیه السلام ، فإنّ وجوب تصدیقه بلحاظ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 456 الأثر الذی هو غیر وجوب التصدیق . ثمّ یکون وجوب تصدیقه أثراً للإخبار الآخر ، وهکذا إلی آخر السلسلة .
ولا یخفی : أنّ فی کلامه مواقع للنظر ؛ نشیر إلی مهمّاتها :
منها : أنّ جعل الأمارات حاکمة علی الأحکام الواقعیة ؛ بمعنی أنّها مثبتة لتلک الأحکام لا یخلو عن ضعف ؛ فإنّ مجرّد إثبات الأمارات الأحکام الواقعیة لا یصحّح الحکومة ؛ لعدم انطباق ضابطتها علی ذلک .
ومنها : أنّ أدلّة الاُصول لیست أیضاً حاکمة علی الأحکام الواقعیة ، بل هی متکفّلة لبیان الوظائف العملیة فی ظرف الشکّ ، من غیر فرق بین المحرز منها وغیر المحرز . وسیوافیک عدم صحّة ما زعمه قدس سره من وجود الأصل المحرز .
نعم ، بعض الاُصول ـ کأصالة الطهارة والاستصحاب ـ حاکمة علی أدلّة الشرائط ، کما مرّ تفصیله فی مبحث الإجزاء ، وهو أمر آخر أجنبی عمّا نحن فیه .
ومنها : أنّه یمکن أن یقرّر کون الدلیل حاکماً علی نفسه علی وجه آخر ؛ بأن یقال : إنّ الدلیل المتکفّل لبیان الموضوع حاکم علی الدلیل المتکفّل لبیان الحکم ، فقولنا : «زید عالم» حاکم علی قولنا : «أکرم العادل» ؛ فإنّ الحکومة قد یکون بإخراج فرد واُخری بإدخاله . وعلی ذلک : فلو کان الدلیل متکفّلاً لکلتا الحیثیتین ـ کما فی المقام ـ لزم ما ذکرناه من المحذور ؛ فإنّ أدلّة اعتبار الخبر کما هی متکفّلة لبیان الحکم من وجوب التصدیق فهکذا مثبتة لموضوعه علی ما عرفت فی الإشکال الثالث ، وهذا ما یقال من کون الدلیل حاکماً لنفسه .
وعلی ذلک : فیکون هذا التقریر إمّا إشکالاً مستقلاًّ أو تقریراً آخر لثالث
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 457 الإشکالات ، لا لرابعها کما ذکره مقرّر بحثه رحمه الله .
وأظنّ : أنّ المقرّر قد خلط الأمر ، والشاهد ما ذکره فی إبداء الفرق بین حکومة السببی علی المسبّبی وما نحن فیه : أنّ الحکومة فی باب الأصل السببی والمسبّبی تقتضی إخراج الأصل المسبّبی عن تحت قوله : «لا تنقض الیقین بالشکّ» ، وحکومة دلیل الاعتبار فیما نحن فیه تقتضی إدخال فرد فی دلیل الاعتبار ؛ فإنّ وجوب تصدیق الشیخ فی إخباره عن المفید یقتضی وجوب تصدیق المفید فی إخباره عن الصدوق . فوجوب تصدیق الشیخ یدخل فرداً تحت عموم وجوب التصدیق ؛ بحیث لولاه لما کان داخلاً ، انتهی . فإنّه صریح فیما ذکرناه .
ومنها : أنّ ما أفاده مقرّر بحثه من أنّ طریق حلّ الإشکالین وإن کان واحداً ـ وهو انحلال القضیة إلی القضایا ـ إلاّ أنّ حلّ الإشکال الثالث بلحاظ آخر السلسلة ، وحلّ الرابع إنّما هو بلحاظ مبدأ السلسلة .
ضعیف جدّاً ؛ فإنّ الرابع لا ینحلّ بما ذکره ؛ فإنّ محکی قول الصفّار وإن کان هو قول الإمام ولـه أثر شرعی غیر وجوب التصدیق ، إلاّ أنّ وجوب التصدیق یتوقّف علی ثبوت موضوع ذی أثر ـ وهو قول الصفّار المنقول لنا تعبّداً ـ وثبوته یتوقّف علی وجوب تصدیقه ؛ فإنّ قول الصفّار لم یصل إلینا من الطرق العلمیة حتّی یکون الموضوع محرزاً بالوجدان ، ولا نحتاج فی تحصیل الموضوع إلی شیء .
وبذلک یظهر : أنّ الإشکال لا ینحلّ من طریق مبدأ السلسلة ؛ لعدم الموضوع لوجوب التصدیق ، فلابدّ من حلّ الإشکال باعتبار آخر السلسلة ؛ وهو خبر الشیخ المحرز بالوجدان ، ولا یتوقّف الموضوع فیه علی الحکم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 458