الأمر الثالث فی الإجماع المنقول
وتحقیق الحال یتوقّف علی رسم اُمور :
الأوّل : أنّ الإجماع عند العامّة دلیل برأسه فی مقابل الکتاب والسنّة ؛ لما نقلوا عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : «لا تجتمع اُمّتی علی الضلالة» أو «علی الخطأ» ولذلک اشترطوا اتّفاق الکلّ . وعرّفه الغزالی : بأنّه اتّفاق اُمّة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم علی أمر من الاُمور الدینیة .
ولکن لم یکن المرمی من الإجماع وحجّیته وما اختلقوا له من المستند إلاّ إثبات خلافة الخلفاء .
ولمّا رأوا أنّ ما عرّف به الغزالی لا ینطبق علی مورد الخلافة ـ ضرورة عدم اجتماع الاُمّة جمیعاً علیها ؛ لمخالفة کثیر من الأصحاب وجمهرة بنی هاشم ـ عدل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 421 الرازی والحاجبی إلی تعریفه بوجه آخر ، فعن الأوّل بأنّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد من اُمّة محمّد علی أمر من الاُمور ، وعن الثانی : أنّه اتفاق المجتهدین من هذه الاُمّة فی عصر علی ما أمر ، مع عدم تتمیم مقصدهم بأیّ تعریف عرف ؛ لمخالفة جمع من أهل الحلّ والعقد والمجتهدین معها .
وأمّا عند الخاصّة : فلیس حجّة بنفسه اتّفاقاً ، بل لأجل أنّه یستکشف منه قول المعصوم أو رضاه ؛ سواء استکشف من الکلّ أو اتّفاق جماعة .
ولعلّ تسمیة ما هو الدلیل الحقیقی ـ السنّة ـ بالإجماع لإفادة أنّ لهم نصیباً منها ، ولیکون الاستدلال علی أساس مسلّم بین الطرفین . ولعلّه علی ذلک یحمل الإجماعات الکثیرة الدائرة بین القدماء ، کالشیخ وابن زهرة وأضرابهم ، کما یظهر من مقدّمات «الغنیـة» ، وإلاّ فقد عرفت أنّ الإجمـاع عندنا وعندهم مختلف ؛ غایةً وملاکاً .
الثانی : أنّ البحث فی المقام إنّما هو عن شمول أدلّة حجّیة الخبر الواحد للإجماع المنقول به وعدم شموله ، وکان الأولی إرجاع البحث إلی الفراغ عن حجّیته .
وکیف کان فنقول : إنّه سیوافیک أنّ الدلیل الوحید علی حجّیة الخبر الواحد لیس إلاّ بناء العقلاء ، وما ورد من الآیات والأخبار کلّها إرشاد إلی ذلک البناء .
وعلیه فنقول : لا شکّ فی حجّیة الخبر الواحد فی الإخبار عن المحسوسات
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 422 المتعارفة أو غیر المحسوس إذا عدّه العرف لقربه إلی الحسّ محسوساً .
وأمّا إذا کان المخبر به ـ محسوساً ـ غریباً غیر عادی أو مستنبطاً بالحدس عن مقدّمات کثیرة فللتوقّف مجال ؛ لعدم إحراز وجود البناء فی هذه المقامات . فلو ادّعی تشرّفه أو سماع کلامه بین المجمعین فلا یعبأ به .
وإن شئت قلت : حجّیة الأخبار الآحاد مبنیة علی أمرین : عدم التعمّد فی الکذب ، وعدم خطأه فیما ینقله ، والأوّل مدفوع بعدالته ووثاقته ؛ سواء کان الإخبار عن حسّ أو حدس ، وأمّا الثانی فأصالة عدم الخطأ أصل عقلائی ، ومورده ما إذا کان المخبر به أمراً حسّیاً أو قریباً منه .
وأمّا إذا کان عن حدس ، أو حسّ لکن المخبر به کان أمراً غریباً غیر عادی فلا یدفع احتمال الخطأ بالأصل ، بل یمکن أن یقال : إنّ أدلّة حجّیة خبر الثقة غیر وافٍ لإثبات مثل الإخبار بالغرائب ، إلاّ إذا انضمّ إلی دعواه قرائن وشواهد .
الثالث : أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة بالنسبة إلی الکاشف إذا کان ذا أثر شرعی ، وأمّا بالنسبة إلی المنکشف فلیس بحجّة ؛ لأنّه لیس إخباراً عن أمر محسوس ، فلا یشمله ما هو الحجّة فی ذلک الباب .
وقیاس المقام بالإخبار عن الشجاعة والعدالة غیر مفید ؛ لأنّ مبادئهما محسوسة ، فإنّهما من المعقولات القریبة إلی الحسّ ، ولأجل ذلک یقبل الشهادة علیهما . وأمّا قول الإمام فهو مستنبط بمقدّمات وظنون متراکمة ، کما لا یخفی .
الرابع : أنّ القوم ذکروا لاستکشاف قول الإمام علیه السلام طرقاً ؛ أوجهها دعوی الملازمة العادیة بین اتّفاق المرئوسین علی شیء ورضا الرئیس به ، وهـذا أمر قریب جدّاً ، ولأجل ذلک لو قدّم غریب بلادنا وشاهد إجـراء قانون العسکریة فی کلّ دورة وکورة یحـدس قطعاً أنّ هذا قانون قـد صوّب فی مجلس النوّاب ، واستقرّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 423 علیه رأی من بیده رتق الاُمور وفتقه .
وأمّا ما أفاده بعض أعاظم العصر : من أنّ اتّفاقهم علی أمر إن کان نشأ عن تواطئهم علی ذلک کان لتوهّم الملازمة العادیة بین إجماع المرؤوسین ورضاء الرئیس مجال ، وأمّا إذا اتّفق الاتّفاق بلا تواطؤ منهم فهو ممّا لا یلازم عادة رضاء الرئیس ولا یمکن دعوی الملازمة .
فضعیف جدّاً ؛ لأنّ إنکار الملازمة فی صورة التواطؤ أولی وأقرب من الإجماع بلا تواطؤ ؛ فإنّ الاتّفاق مع عـدم الرابـط بینهما یکشف عن وجـود ملاک لـه ـ من نصّ أو غیـره ـ وأمّا الاتّفاق مع التواطؤ فیحتمل أن یکون معلّلاً بأمر غیر ما هو الواقع .
فلو ادّعی القائل بحجّیة الإجماع المنقول أنّه کاشف عن الدلیل المعتبر الذی لم نعثر علیه أو عن رضاه فلا یعدّ أمراً غریباً .
هذا ، ولکنّه موهون من جهة اُخری ؛ فإنّ من البعید جدّاً أن یقف الکلینی أو الصدوق أو الشیخ ومن بعده علی روایة متقنة دالّة علی المقصود ، ومع ذلک ترکوا نقلها .
والأولی أن یقال : إنّ الشهرة الفتوائیة عند قدماء الأصحاب یکشف عن کون الحکم مشهوراً فی زمن الأئمّة علیهم السلام ؛ بحیث صار الحکم فی الاشتهار بمنزلة أوجبت عدم الاحتیاج إلی السؤال عنهم علیهم السلام ، کما نشاهده فی بعض المسائل الفقهیة .
وبالجملة : أنّ اشتهار حکم بین الأصحاب یکشف عن ثبوت الحکم فی الشریعة المطهّرة ومعروفیته من لدن عصر الأئمّة علیهم السلام .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 424