تقریب المحقّق العراقی للجمع بین الحکم الواقعی والظاهری
وهو ما أفاده بعض محقّقی العصر قدس سره ، وخلاصة ما أفاده لرفع التضادّ هو أنّ الأحکام متعلّقة علی العناوین الذهنیة الملحوظة خارجیة علی وجه لا یری بالنظر التصوّری کونها غیر الخارج ؛ وإن کانت بالنظر التصدیقی غیره ، مع وقوف الحکم علی نفس العنوان وعدم سرایته إلی المعنون .
وأنّه قد ینتزع من وجود واحد عنوانان طولیان ؛ بحیث یکون الذات ملحوظة فی رتبتین : تارة فی رتبة سابقة علی الوصف ، واُخری فی رتبة لاحقة ، نظیر الذات المعروضة للأمر التی یستلزم تقدّم الذات علیه ، والذات المعلولة لدعوته المنتزع عنها عنوان الإطاعة التی یستلزم تأخّر الذات عنها ، وکالجهات التعلیلیة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 393 التی اُنیط بها الحکم ؛ فإنّه لابدّ فیها من فرض وجود الوصف قائماً بموصوفه ، والحکم فی هذا الظرف علی نفس الذات الملحوظة فی الرتبة المتأخّرة عن الوصف بلا أخذ الوصف قیداً للموضوع ، کالجهات التقییدیة .
ومن هذا القبیل صفة المشکوکیة ؛ لأنّها جهة تعلیلیة لتعلّق الحکم بالموضوع حسب ظاهر أدلّتها لا تقییدیة لموضوعاتها ، ولازم ذلک اعتبار الذات فی رتبتین : تارة فی الرتبة السابقة علی الوصف ، واُخری فی الرتبة اللاحقة .
فیختلف موضوع الحکم الظاهری والواقعی رتبة ؛ بحیث لا یکاد یتصوّر الجمع لهما فی عالم عروض الحکم ، بخلاف الطولیة الناشئة من الجهات التقییدیة ؛ لعدم طولیة الذات رتبة ، ومحفوظیتها فی رتبة واحدة . فلا یمکن رفع التضادّ کما اُفید ، انتهی . ومن أراد التوضیح فلیرجع إلی کتابه .
وفیما ذکره جهات من الخلل :
منها : أنّ ما ذکره فی المقدّمة الاُولی من أنّ کلّ حکم لا یتجاوز عن عنوان إلی عنوان آخر ـ وإن اتّحدا وجوداً ـ صحیح جدّاً ، إلاّ أنّ ما ذکره من أنّ الأحکام متعلّقة علی العناوین الذهنیة الملحوظة خارجیة علی وجه لا یری بالنظر التصوّری کونها غیر الخارج ـ وإن کانت بالنظر التصدیقی غیره ـ غیر صحیح ؛ فإنّه إن کان المراد أنّ الحاکم یختلف نظره التصوّری والتصدیقی عند الحکم فهو واضح الفساد ، وإن أراد أنّ الحاکم لا یری الاثنینیة حین الحکم ؛ وإن کانت المغایرة موجودة فی نفس الأمر أو فی نظرة اُخری فهو یستلزم تعلّق الأمر بالموجود ، وهو مساوق لتحصیل الحاصل بنظره .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 394 وبالجملة : أنّ مآله إلی تعلّق البعث إلی الأمر الخارجی ؛ فإنّ إلقاء الصورة الذهنیة من رأس وعدم التوجّه إلیها عند الحکم یستلزم تعلّق البعث علی الطبیعة الموجودة .
والظاهر : أنّ منشأ ما ذکره هو ما اشتهر بینهم من أنّه لو تعلّق الأحکام بالطبائع بما هی هی بلا لحاظ کونها مرآة للخارج یلزم کون الطبیعة مطلوبة من حیث هی هی ، وقد ذکرنا ما هو الحقّ فی مباحث الألفاظ .
منها : أنّ ما ذکره قدس سره من أنّ الذات فی الجهات التعلیلیة والقضایا الطلبیة الشرطیة یلاحظ مرّتین : متقدّماً تارة ومتأخّراً اُخری ، کما فی باب الأوامر غیر صحیح ؛ لا فی المقیس ولا فی المقیس علیه :
أمّا الثانی : فإنّ الأوامـر والأحکام التی یعبّر عنها بالزجـر والبعث ـ إلزامیاً أو غیر إلزامی ـ لیست من قبیل الأعراض بالنسبة إلی موضوعاتها حتّی یکون فیها مناط التأخّر الرتبی ، بل لها قیام صدوری بالأمر ، کما أنّ لها إضافة اعتباریة بالنسبـة إلی المأمور والمأمـور به والآمـر ، وإنّما قلنا اعتباریـة ؛ لأنّها تحلیلات ذهنیـة لا یقابلها شیء فی الخارج ؛ بحیث لولاه فهی لیست عرضاً ؛ لا فی الذهن ولا فی الخارج .
وأمّا الداعویة : فلو کانت داعویة الأمر أمراً تکوینیاً حقیقیاً کان لما ذکره وجه ؛ لأنّه حینئذٍ یتأخّر الانبعاث عن البعث ؛ تأخّر المعلول عن علّته .
ولکن داعویته لیس إلاّ إیقاعیاً ـ أی مبیّناً لموضوع الإطاعة فقط ـ لا محرّکاً للمأمور نحو الأمر ؛ ضرورة أنّ العبد إنّما ینبعث عن المبادئ الحاصلة فی نفسه ؛ من
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 395 الخوف والرجاء ، وأمّا مجرّد الأمر فلیس محرّکاً ؛ ولو مع العلم به .
وعلی هذا : فانبعاث العبد لیس من البعث حتّی یقال : إنّ الانبعاث متأخّر عن البعث رتبة ؛ لعدم ملاک التأخّر الرتبی .
وأمّا تأخّر الانبعاث عن البعث زماناً وتصوّراً فهو لا یستلزم التأخّر الرتبی الذی لا یتحقّق إلاّ بین العلل والمعالیل .
وأمّا المقیس : فلو سلّم فی المقیس علیه لأجل أنّ الذات تارة یلاحظ معروضة فیصیر متقدّمة ، واُخری معلولة لدعوته فتصیر متأخّرة ، فلا نسلّم فی المقیس ؛ فإنّ الجهات التعلیلیة لیست إلاّ علّة لتعلّق الحکم بالموضوع ، فهی مقدّمة علی الحکم وتعلّقه بالموضوع ، وأمّا تقدّمها علی الذات فلا وجه له .
فلو قلنا : «العصیر العنبی یحرم ؛ لغلیانـه» فهنا موضوع وحکم وعلّـة ، فلا شکّ أنّ الذات مقدّم علی الغلیان لکونه وصفاً له ، والحکم متأخّر عن الوصف لکونه علّة له .
وعلی ذلک : فتقدّم العلّة علی الحکم تقدّم رتبی ، وتأخّره عنها أیضاً کذلک ، وأمّا تقدّمها علی الذات فلیس له وجه ولا ملاک .
هذا ، مع أنّ القول بارتفاع التضادّ بالجهات التقییدیة أولی بارتفاعه من التشبّث بالجهات التعلیلیة ؛ فإنّه یمکن أن یقال : إنّ بین عنوانی الخمر والمشکوک فیه عموماً من وجه ؛ لتصادقهما فی الخمر المشکوک فیه مع کونه خمراً فی الواقع ، وتفارقهما فی الخمر المعلومة ، والمشکوک فیه إذا کان خلاًّ ، فیمکن أن یکون أحد العنوانین مصبّاً للحلّیة واُخری للحرمة ، کما فی عنوانی الصلاة والغصب .
لکن قد مرّ منّا فی مباحث القطع ما یردّه أیضاً ؛ للفرق بین المقامین ؛ فإنّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 396 الدلیل الدالّ علی وجوب الصلاة غیر ناظر إلی ما یدلّ علی حرمة الغصب ، وهذا بخلاف المقام فإنّ الأدلّة المرخّصة ناظرة إلی العناوین المحرّمة .
والشاهد علیه : تحدید الحلّیة إلی زمن العلم بالخلاف . ولأجل ذلک لا یجتمع الإرادة الحتمیة التحریمیة علی نحو الإطلاق مع الترخیص الفعلی لأجل الاشتباه ، أو جعل الطرق وإمضائها ، التی یؤدّی أحیاناً إلی خلاف الواقع .
ومنها : أنّ ما ادّعاه من أنّ صفة المشکوکیة والمشتبهیة جهات تعلیلیة خلاف ظاهر أدلّة الباب ؛ فإنّ الظاهر من حدیث الرفع وروایات الحلّ والطهارة وأدلّة الاستصحاب والشکّ بعد تجاوز المحلّ أنّ الأحکام متعلّقة بالمشکوک بما أنّه مشکوک ، وغیر المعلوم بما أنّه کذلک .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 397