تقریب المحقّق النائینی للجمع
قد ذکر بعض أعاظم العصر جواباً لتخلّف الطرق والأمارات ، وجواباً آخر للاُصول المحرزة ، وثالثاً لغیر المحرزة منها .
فأفاد قدس سره فی الجمع عند تخلّف الطرق ما هذا حاصله : إنّ المجعول فیها لیس حکماً تکلیفیاً حتّی یتوهّم التضادّ بینها وبین الواقعیات ، بل الحقّ أنّ المجعول فیها هو الحجّیة والطریقیة ، وهما من الأحکام الوضعیة المتأصّلة فی الجعل ؛ خلافاً للشیخ قدس سره ؛ حیث ذهب إلی أنّ الأحکام الوضعیة کلّها منتزعة من الأحکام التکلیفیة .
والإنصاف : عدم تصوّر انتزاع بعض الأحکام الوضعیة من الأحکام التکلیفیة ، مثل الزوجیة فإنّها وضعیـة ویتبعها جملة مـن الأحکام ، کوجـوب الإنفاق علی الزوجة وحرمة تزویج الغیر لها ، وحرمة ترک وطیها أکثر من أربعة أشهر إلی غیر ذلک .
وقد یتخلّف بعضها مع بقاء الزوجیة ، فأیّ حکم تکلیفی یمکن انتزاع
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 381 الزوجیة منه ؟ وأیّ جامع بین هذه الأحکام التکلیفیة لیکون منشأً لانتزاع الزوجیة ؟ فلا محیص فی أمثالها عن القول بتأصّل الجعل .
ومنها الطریقیة والوسطیة فی الإثبات ؛ فإنّها متأصّلة بالجعل ـ ولو إمضاءًـ لما تقدّمت الإشارة إلیه من کون الطرق التی بأیدینا یعتمدون علیها العقلاء فی مقاصدهم ، بل هی عندهم کالعلم لا یعتنون باحتمال مخالفتها للواقع ، فنفس الحجّیة والوسطیة فی الإثبات أمر عقلائی قابل بنفسه للاعتبار ، من دون أن یکون هناک حکم تکلیفی منشأ لانتزاعه .
إذا عرفت حقیقة المجعول فیها ظهر لک : أنّه لیس فیها حکم حتّی ینافی الواقع ، فلا تضادّ ولا تصویب . ولیس حال الأمارات المخالفة إلاّ کحال العلم المخالف ، فلا یکون فی البین إلاّ الحکم الواقعی فقط مطلقاً ، فعند الإصابة یکون المؤدّی هو الحکم الواقعی ـ کالعلم الموافق ـ ویوجب تنجیزه ، وعند الخطأ یوجب المعذوریة وعدم صحّة المؤاخذة علیه ـ کالعلم المخالف ـ من دون أن یکون هناک حکم آخر مجعول ، انتهی .
وفیما أفاده مواقع للنظر :
أمّا أوّلاً : فقد أشرنا إلیه وسیوافیک تفصیله عند البحث عن حجّیة الأمارات العقلائیة ، ومحصّله : أنّه لیس فی باب الطرق والأمارات حکم وضعی ولا تکلیفی ، وإنّما عمل بها الشارع کما یعمل بها العقلاء فی مجاری اُمورهم من معاملاتهم وسیاساتهم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 382 ولیس إمضاء الشارع العمل بالأمارات مستتبعاً لإنشاء حکم ، بل مآله إلی عدم الردع وعدم التصرّف فی بناء العقلاء . وما ورد من الروایات کلّها إرشاد إلی ما علیه العقلاء ، وقد اعترف به قدس سره فیما سبق ، ولکنّه أفاد هنا ما ینافیه .
وثانیاً : لو کان المستند للقول بجعل الوسطیة والطریقیة من جانب الشارع هـو الأخبار الواردة فی شأن الآحاد من الأخبار أو شأن مخبریها ، کقولـه علیه السلام : «إذا أردت حدیثاً فعلیک بهذا الجالس» وأشار إلی زرارة ، ومثل قولـه علیه السلام : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا» ، ومثل قولـه علیه السلام : «علیک بالأسـدی» ؛ یعنی أبا بصیر ، وقولـه علیه السلام : «العمری ثقتی ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمـون» ، إلی غیر ذلک مـن الروایات الکثیرة التی سیجیء کثیر منها فی بابه .
فلا شکّ أنّه لو کان المستند هذه الأخبار فالمجعول فیها ـ مع قطع النظر عمّا قلنا من أنّها إرشاد إلی ما علیه العقلاء ـ هو وجوب العمل علی طبقها تعبّداً علی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 383 أنّها هو الواقع ، وترتیب آثار الواقع علی مؤدّاها ، ولیس فیها أیّ أثر من حدیث جعل الوسطیة والطریقیة .
نعم ، لو کان المدرک مفهوم آیة النبأ یمکن أن یقال : إنّها بصدد جعل الکاشفیة لخبر العادل ولکنّه ـ مع قطع النظر عن الإشکالات المقرّرة فی محلّه ، وعمّا احتملناه فی الأخبار ؛ من کونها إرشاداً إلی عمل العقلاء ـ مدفوع بأنّها بصدد جعل وجوب العمل علی طبق قول العادل ، لا جعل المبیّنیة والکاشفیة ، وإنّما المبیّنیة جهة تعلیلیة لجعل وجوب العمل ، ولیست موردة للجعل .
وثالثاً : أنّ ما هو القابل للجعل فی المقام إنّما هو وجوب العمل علی طبق الأخبار ووجوب ترتیب الأثر علی مؤدّاها ، وأمّا الطریقیة والکاشفیة فلیس ممّا تنالها ید الجعل ؛ فلأنّ الشیء لو کان واجداً لهذه الصفة تکویناً فلا معنی لإعطائها لها ، وإن کان فاقداً له ـ کالشکّ ـ فلا یعقل أن یصیر ما لیس بکاشف کاشفاً ، وما لیس طریقاً طریقاً ؛ فإنّ الطریقیة والکاشفیة لیست أمراً اعتباریاً کالملکیة حتّی یصحّ جعلها بالاعتبار .
وقس علیه تتمیم الکشف وإکمال الطریقیـة ، فکما أنّ اللاکاشفیة ذاتیـة للشکّ لا یصحّ سلبه ، فکذلک النقصان فی مقام الکشف ذاتی للأمارات لا یمکن سلبها . فما ینالـه الجعل لیس إلاّ إیجـاب العمل بمفادهـا والعمل علی طبقها وترتیب آثـار الواقـع علیها ، ولمّا کـان ذاک التعبّد بلسان تحقّق الواقـع وإلغاء احتمال الخلاف تعبّداً صحّ انتزاع الوسطیة والکاشفیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 384 وقس علیه الحجّیة ؛ فلأنّ معناها کون الشیء قاطعاً للعذر فی ترک ما اُمر بفعله وفعل ما اُمر بترکه ، ومعلوم أنّه متأخّر عن أیّ جعل ـ تکلیفاً أو وضعاً ـ فلو لم یأمر الشارع بوجوب العمل بالشیء ـ تأسیساً أو إمضاءً ـ فلا یتحقّق الحجّیة ولا یقطع به العذر .
ورابعاً : أنّ عدم إمکان انتزاع الزوجیة عمّا ذکره مـن الأحکام لا لعدم الجامـع بینها ، بل لأجـل کونها آثـاراً متأخّرة عـن الزوجیـة ، وهی بعد یعـدّ موضوعاً لهذه الأحکام المتأخّرة ، فلا معنی لانتزاع ما هو المتقدّم طبعاً عمّا هـو متأخّر کـذلک .
نعم ، هاهنا أحکام تکلیفیة یمکن أن یتوهّم إمکان انتزاع الزوجیة منها ، کالأوامر الواردة بالنکاح فی الآیات ، أو قوله تعالی : «وَاُحِلَّ لَکُمْ مَا وَراءَ ذَ ٰلِکُمْ» .
ومع ذلک کلّه فالتحقیق : أنّ الزوجیة لیست من المخترعات الشرعیة ، بل مـن الاعتبارات العقلائیة التی یدور علیها فلک الحیاة الإنسانیة ، فبما أنّ الزوجیة ممّا یتوقّف علیه نظام الاجتماع ویترتّب علیه آثار ومنافع لا تحصی قام العقلاء علی اعتبارها ، نعم الشرائع السماویة قد تصرّف فیها ؛ تصرّفاً یرجع إلی إصلاحها وبیان حدودها .
وخامساً : فبعد هذا الإطناب فالإشکال باقٍ بعد بحاله ؛ فإنّ جعل الوسطیة والطریقیة والحجّیة للطرق والأمارات مع العلم بأنّها ینجرّ أحیاناً إلی المخالفة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 385 والمناقضة للواقع لا یجتمع مع بقاء الأحکام الواقعیة علی ما علیها من الفعلیة التامّة .
وبالجملة : أنّ الإرادة الجدّیة الحتمیة بالأحکام الواقعیة لا تجتمع مع تعلّق مثل تلک الإرادة علی جعل الوسطیة للطرق التی ربّما یوجب تفویت الواقع ؛ فإنّ ذلک الجعل یلازم الترخیص الفعلی فی مخالفة الأحکام الواقعیة .
وقیاس جعل الوسطیة فی الإثبات بالعلم المخالف للواقع أحیاناً قیاس مع الفارق ؛ فإنّ العمل بالعلم المخالف لیس ترخیصاً من الشارع فی مخالفة الأحکام الواقعیة ، وإنّما هو ضرورة ابتلی به المکلّف لا من جانب الشارع بل لقصور منه ، وهذا بخلاف جعل الحجّیة علی الأمارة المؤدّیة إلی خلاف الواقع .
هذا کلّه إذا قلنا ببقاء الواقع علی ما علیه من الفعلیة ـ أی باعثاً وزاجراً ـ وأمّا إذا قلنا بأنّه یصیر إنشائیاً أو فعلیاً بمرتبة دون مرتبة ، وأنّ الشارع قد رفع الید لأجل مصالح اجتماعیة عن تلک الواقعیات فلا مضادّة ولا منافاة بین الواقعی والظاهری ، ولا یحتاج إلی إتعاب النفس وعقد هذه المباحث .
وبذلک یظهر ما فی کلام المحقّق الخراسانی ؛ حیث تخلّص عن کافّة الإشکالات بأنّ الحجّیة غیر مستتبعة لإنشاء أحکام تکلیفیة ؛ فإنّ هذا التقریب لا یحسم مادّة الإشکال ، کالقول بأنّ أحدهما طریقی والآخر واقعی ؛ فإنّ جعل الحجّیة والطریقیة لمّا کان ینتهی أحیاناً إلی مخالفة الواقع ومناقضته لا تجتمع مع فعلیة الأحکام الواقعیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 386