المحذور الأوّل : تفویت المصلحة والإلقاء فی المفسدة
أمّا هذا المحذور الذی هو رابع المحاذیر ؛ فلأنّ المفروض : أنّ الظنّ لیس دائم المطابقة ، فالأمر بالعمل علی طبقه تفویت للمصالح من الشارع علی المکلّف وإلقاء للمفاسد ؛ إذ لولا أمره لکان علیه السؤال وتحصیل العلم عند الانفتاح ، والعمل بالاحتیاط عند انسداده .
وبذلک یظهر : أنّ هذا المحذور لا یختصّ بصورة الانفتاح ، کما ادّعاه بعض أعاظم العصر قدس سره ؛ قائلاً بأنّ العمل علی طبق الأمارة لو صادف خیر جاء من قبلها ، بل یجری فی صورة الانسداد أیضاً ؛ إذ لولا أمره وترخیصه ترکَ الاحتیاط کان علیه العمل بما هو مبرئ للذمّة قطعاً .
وما استدلّ به مسلّم لو کان الأمر دائراً بین العمل به وبین ترک العمل به وبغیره مطلقاً ، لکنّه دائر بین العمل به وبین العمل بالاحتیاط أو التجزّی فیه ، فلا یختصّ الإشکال بصورة الانفتاح ، بل یعمّ .
وقد یذبّ عن الإشکال : بأنّ الأمارات غیر العلمیة ربّما یمکن أن تکون أکثر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 368 إصابة عن العلم والاعتقاد الجازم أو مساویة لها ، فالشارع الواقف علی السرائر لأجل وقوفه علی هذه الجهة أمر بالعمل علی طبق الأمارات ، وترک تحصیل العلوم المساویة للأمارات من حیث الصدق أو أدون ، فلا یکون إلقاء فی المفسدة أو تفویتاً للمصلحة کان باب العلم مفتوحاً أو منسدّاً .
الظاهر : عدم صحّة الجواب ؛ فإنّه إن أراد من الانفتاح حال حضور الإمام مع إمکان نیل حضوره والسؤال عنه فلا إشکال أنّ المسموع عنه علیه السلام أقلّ خطاءً من هذه الروایات المنقولة بوسائط ؛ فإنّ احتمال مخالفة الواقع فیما سمعه عن الإمام لیس إلاّ لأجل التقیة أو أمر أندر منه . وهذا بخلاف الروایات المعنعنة المنقولة عن رجال یختلفون فی الحفظ والوثاقة وحسن التعبیر وجودة الفهم .
وإن أراد منه حضوره علیه السلام مع تعسّر السؤال عنه ـ لبعد بلد المکلّف أو کونه محبوساً أو محصوراً من ناحیة الأشرار ـ ففیه : أنّ تحصیل العلم التفصیلی غیر ممکن عادة ؛ حتّی یقال بأنّ الأمارات أکثر مطابقة منه ، وما هو الممکن هو العلم بالموافقة الإجمالیة ، ولکنّه دائم المطابقة للواقع ؛ إذ لو أتی المکلّف بمؤدّی الأمارة وسائر المحتملات فلا یعقل أصوبیة مؤدّی الأمارة عن العلم ، ولو صدق ذلک لکان الاحتیاط فی موارد تحقّق الأمارة خلاف الاحتیاط ، مع الضرورة بخلافه ، ویظهر منه حال الانسداد .
فإن قلت : إنّ أمـر الشارع بالتعبّد بأخبار الآحاد علّـة لانتشار الأحادیث فـی الأقطـار والأمصار ، فلو لم یقع مـن الشارع إیجاب التعبّد بها لم یتحقّق الـدواعی إلی نقلها أصلاً ، ولو ترک نقلها صارت الأحکام منسیة غیر معلومة ؛
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 369 لا إجمـالاً ولا تفصیلاً ، ومعـه لا یتمکّن الإنسان مـن الإطاعـة الإجمالیـة والاحتیاط فی العمل ؛ لأنّ طریقه صار مغفولاً عنه ؛ لعدم انقداح الاحتمال فی الأذهان إلاّ ببرکة ما وصل إلینا منهم علیهم السلام .
قلت ـ مع أنّ الدواعی إلی نقل الأخبار کثیرة ـ إنّ الشارع یمکن أن یتوصّل إلی غرضه ـ الاحتیاط عند عدم العلم ـ بإیجاب نشر الروایات ونقلها وبثّها حتّی یحصل بذلک موضوع للعمل بالاحتیاط .
ویمکن أن یذبّ عن الإشکال : بأنّ فی إیجاب تحصیل العلم التفصیلی فی زمان الحضور وفی إیجاب الاحتیاط فی زمن الغیبة أو الحضور مع عدم إمکان الوصول إلیه علیه السلام مفسدة غالبة .
توضیحه : أمّا فی زمان الانفتاح : فلأنّ السؤال عن الأئمّة علیهم السلام وإن کان أمراً ممکناً غیر معسور إلاّ أنّ إلزام الناس فی ذلک الزمان علی العمل بالعلم کان یوجب ازدحام الشیعة علی بابهم وتجمّعهم حول دارهم ، وکان التجمّع حول الإمام أبغض شیء عند الخلفاء ، وکان موجباً للقتل والهدم وغیرهما .
فلو فرض وجوب العلم التفصیلی فی زمن الصادقین علیهماالسلام کان ذلک موجباً لتجمّع الناس حول دارهما ودیارهما ، بین سائل وکاتب وقارئ ومستفسر ، وکان نتیجة ذلک تسلّط الخلفاء علی الشیعة وردعهم وقطع اُصولهم عن أدیم الأرض ، وعدم وصول شیء من الأحکام الشرعیة موجودة بأیدینا .
فدار الأمـر بین العمل بالأخبار الواردة عنهم علیهم السلام بطریق الثقات الموصلـة إلی الواقـع غالباً ـ وإن خالفت أحیاناً ـ وبین إیجاب العلم حتّی یصل بعض الشیعـة إلی الواقع ، ویحـرم آلاف مـن الناس عـن الأحکام والفروع العملیـة ؛ لما عرفت أنّ الإلـزام علی تحصیل العلم کـان مستلزماً للتجمّع علی باب الأئمّـة ، وکان
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 370 نتیجـة ذلک صدور الحکم مـن الخلفاء بأخـذهم وشـدّهم وضربهم وقتلهم واضطهادهم تحت کلّ حجر ومدر .
وأمّا الاحتیاط فی هذه الأزمان أو زمن الحضور لمن لم یمکن له الوصول إلیهم علیهم السلام ففساده أظهر من أن یخفی ؛ فإنّه مستلزم للحرج الشدید واختلال النظام ورغبة الناس عن الدین الحنیف ، بل موجب للخروج من الدین ؛ فإنّ الحکیم الشارع لابدّ له ملاحظة طاقة الناس واستعدادهم فی تحمّل الأحکام والعمل بها .
ومثله التبعیض فی الاحتیاط ؛ فإنّه لو لم یوجب حرجاً شدیداً لکنّه موجب رغبة جمهرة الناس عن الدین .
وبالجملة : البناء علی الاحتیاط المطلق أو بمقدار میسور فی جمیع التکالیف ؛ من العبادات والمعاملات والمناکحات وغیرها یستلزم الحرج الشدید فی بعض الأحوال ، ورغبة الناس عن الدین وقلّة العاملین من العباد للأحکام فی بعض آخر . فلأجل هـذا کلّه أمضی عمل العقلاء وبنائهم فی العمل بالظنون وأخبار الآحاد بمقدار یؤسّس لهم نظاماً صحیحاً ، وهذا وإن استلزم فساداً وتفویتاً غیر أنّـه فی مقابل إعراض الناس عنه وخروجهم منه وقلّة المتدیّنین بـه لا یعدّ إلاّ شیئاً طفیفاً یستهان به .
ثمّ إنّ الشیخ الأعظم قدس سره التزم بقبح التعبّد بالظنون فی حال الانفتاح ، وأمّا حال الانسداد فقد ذهب إلی أنّ التفویت متدارک بالمصلحة السلوکیة .
وأوضحه بعض أعاظم العصر بما حاصله : أنّ قیام الأمارة یمکن أن یکون سبباً لحدوث مصلحة فی السلوک مع بقاء الواقع والمؤدّی علی ما هما علیه من
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 371 المصلحة والمفسدة ، من دون أن یحدث فی المؤدّی مصلحة بسبب قیام الأمارة غیر ما کان علیه من المصلحة ، بل المصلحة فی تطرّق الطریق وسلوک الأمارة وتطبیق العمل علی مؤدّاها والبناء علی أنّه هو الواقع ، بترتیب الآثار المترتّبة علی الواقع علی المؤدّی ، وبهذه المصلحة السلوکیة یتدارک ما فات من المکلّف ، انتهی .
أقول : وفیه مواقع للنظر :
منها : أنّ حجّیـة الأمـارة فی الشرع لیس إلاّ إمضاء مـا کان فی یـد العقلاء فی معاشهم ومعادهم ، مـن غیر أن یزیـد علیه شیئاً أو ینقص منه شیئاً . ومـن المعلوم أنّ اعتبار الأمارات لأجل کونها طریقاً للواقع فقط ، مـن دون أن یترتّب علی العمل بها مصلحة وراء إیصالها إلی الواقع ، فلیس قیام الأمارة عند العقلاء محدثاً للمصلحة ؛ لا فی المؤدّی ولا فی العمل بها وسلوکها . وعلیه فالمصلحة السلوکیة لا أساس لها .
ومنها : أنّه لا یتصوّر لسلوک الأمارة وتطرّق الطریق معنی وراء العمل علی طبق مؤدّاها ، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة فلیس سلوکها إلاّ العمل علی مؤدّاها والإتیان به . فلا یتصوّر للسلوک وتطرّق الطریق مصلحة وراء المصلحة الموجودة فی الإتیان بالمؤدّی .
وإن شئت قلت : الإتیان بالمؤدّی مع المؤدّی المحقّق فی الخارج غیر متغایرین إلاّ فی عالم الاعتبار ، کتغایر الإیجاد والوجود . فهذه المفاهیم المصدریة النسبیة لا یعقل أن تصیر متّصفة بالمصلحة والمفسدة ، بل المفسدة والمصلحة قائمة بنفس الخمر والصلاة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 372 وبعبارة أوضح : کون شرب الخمر وإتیان الصلاة متعلّقاً للحرمة والوجوب وموصوفاً بالمصلحة والمفسدة لا ینافی کون تطرّق الطریق محلاًّ للحکم وموضوعاً له ؛ فإنّ تطرّق الطریق عین ترک شرب الخمر وعین الإتیان بالصلاة .
ومنها : أنّ ظاهر عبارة الشیخ وشارح مراده أنّ المصلحة قائمة بالتطرّق والسلوک ، بلا دخالة للواقع فی حدوث تلک المصلحة . وعلیه فلو أخبر العادل عن الاُمور العادیة لزم العمل علی قوله فی هذه الموارد أیضاً ؛ لأنّه ذا مصلحة سلوکیة ، وهو کما تری .
ومنها : أنّ لازم تدارک المصلحة الواقعیة بالمصلحة السلوکیة هو الإجزاء وعدم لزوم الإعادة والقضاء ؛ إذ لو لم یتدارک مصلحة الواقع لزم قبح الأمر بالتطرّق ، ولو تدارک سقط الأمر ، والمفروض أنّ المصلحة القائمة بتطرّق الطریق لیست مقیّدة بعدم کشف الخلاف . فما یظهر من التفصیل من الشیخ الأعظم وبعض أعاظم العصر لیس فی محلّه .
ثمّ إنّ البحث عن الإجزاء قد فرغنا عنه فی الأوامر فراجع ، وسیوافیک لُباب القول فیه فی مبحث الاجتهاد والتقلید .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 373