حکم الظنّ فی المقام
بقی الکلام فی التفصیل المستفاد من کلام بعض أعاظم العصر ؛ فإنّه بعد بیان الأقسام المذکورة للظنّ وإمکان أخذه موضوعاً لحکم آخر مطلقاً إلاّ فیما اُخذ تمام الموضوع علی وجه الطریقیة ـ کما تقدّم منه فی القطع إشکالاً وجواباً ـ قال ما هذا ملخّصه :
وأمّا أخذه موضوعاً لمضادّ حکم متعلّقه فلا یمکن مطلقاً ، من غیر فرق بین الظنّ المعتبر وغیره ؛ للزوم اجتماع الضدّین ؛ ولو فی بعض الموارد ، ولا یندرج فی مسألة اجتماع الأمر والنهی ، بل یلزم منه الاجتماع فی محلّ واحد .
وأمّا أخذه موضوعـاً لحکم المماثل : فإن لم یکن الظـنّ حجّـة فلا مانع منـه ؛ فإنّ فی صورة المصادفـة یتأکّد الحکمـان ؛ فإنّ اجتمـاع المثلین إنّمـا یلـزم لو تعلّق الحکمان بموضوع واحـد وعنوان فارد ، وأمّا مع تعلّقهما بالعنوانین فلا یلزم إلاّ التأکّد .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 317 وأمّا الظنّ الحجّة : فلا یمکن أخذه موضوعاً للمماثل ؛ فإنّ الواقع فی طریق إحراز الشیء لا یکون من طواریه ؛ بحیث یکون من العناوین الثانویة الموجبة لحدوث ملاکٍ غیر ما هو علیه من الملاک ؛ لأنّ الحکم الثانی لا یصلح لأن یکون محرّکاً وباعثاً لإرادة العبد ؛ فإنّ الانبعاث إنّما یتحقّق بنفس إحراز الحکم الواقعی المجعول علی الخمر ، فلا معنی لجعل حکم آخر إلی ذلک المحرز ، کما لا یعقل ذلک فی العلم أیضاً .
وقال قدس سره فی فذلکة المقام : إنّ الظنّ الغیر المعتبر لا یصحّ أخذه موضوعاً علی وجه الطریقیة ـ لا للمماثل ولا للمخالف ـ فإنّ أخذه علی وجه الطریقیة هو معنی اعتباره ؛ إذ لا معنی له إلاّ لحاظه طریقاً .
وأمّا أخذه موضوعاً لنفس متعلّقه إذا کان حکماً فلا مانع منه بنتیجة التقیید مطلقاً ، بل فی الظنّ المعتبر لا یمکن ـ ولو بنتیجة التقیید ـ فإنّ أخذ الظنّ حجّة محرزاً لمتعلّقه معناه : أنّه لا دخل له فی المتعلّق ؛ إذ لو کان له دخل لما اُخذ طریقاً فأخذه محرزاً مع أخذه موضوعاً یوجب التهافت ـ ولو بنتیجة التقیید ـ وذلک واضح ، انتهی کلامه .
وفیه مواقع للنظر ، نذکر منها ما یلی ، فنقول :
أمّا أوّلاً : أنّ اختلاف العنوانین إن کان رافعاً لاجتماع المثلین فهو رافع لاجتماع الضدّین ؛ فإنّ محطّ الأمر والنهی إذا کانا عنوانین مختلفین وفرضنا اتّفاقهما فی موضوع واحد فتعدّد العنوان کما یرفع اجتماع المثلین فکذلک یرفع اجتماع الضدّین ، وأمّا إذا کان أحد العنوانین محفوظاً مع الآخر ـ کما فی المقام ؛ فإنّ الخمر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 318 محفوظ بعنوانه مع مظنون الخمریة ـ فکما لا یرفع معه التضادّ فکذلک لا یرفع به اجتماع المثلین .
وثانیاً : أنّ ما ذکره من میزان اجتماع المثلین ومیزان التأکّد ممّا لا أساس له أصلاً ؛ فإنّ التأکّد إنّما هو مورده فیما إذا کان العنوان واحداً ، لا ما إذا کان العنوان متعدّداً ، کما ذکره قدس سره ، وکان تعلّق الأوامر به لأجل التأکید .
ثمّ التأکید قد یحصل بأداته وقد یحصل بتکرّر الأمر والنهی ، کالأوامر الکثیرة المتعلّقة بعناوین الصلاة والزکاة والحجّ ، وعناوین الخمر والمیسر والربا ، کما تجده فی الشریعة المقدّسة .
فهذه کلّها من قبیل التأکید لا اجتماع المثلین ، ویحکی هذه الأوامر المتظافرة عن اهتمام الآمر والناهی ، وعن إرادة واحدة مؤکّدة لا عن إرادات ؛ فإنّ تعلّق إرادتین بشیء واحد ممّا لا یمکن ؛ لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد .
هذا حال العنوان الواحد .
وأمّا مع اختلاف العنوانین فلا یکون من التأکید أصلاً ؛ وإن اتّفق اجتماعهما فی موضوع واحد ، فإنّ لکلّ واحد من العنوانین حکمه ، ویکون الموضوع مجمعاً لعنوانین ولحکمین ، ویکون لهما إطاعتان وعصیانان ، ولا بأس به . وما اشتهر بینهم : أنّ قوله «أکرم العالم وأکرم الهاشمی» یفید التأکید إذا اجتمعا فی مصداق واحد ممّا لا أصل له .
وثالثاً : أنّ ما أفاده من أنّ الظنّ المعتبر لا یمکن أخذه موضوعاً للحکم المماثل ؛ معلّلاً تارة بأنّ المحرز للشیء لیس من العناوین الثانویة الموجبة لحدوث الملاک ، واُخری بأنّ الحکم الثانی لا یصلح للانبعاث ؛ وإن خلط المقرّر بینهما .
فیرد علی الأوّل : أنّ عدم کون الظنّ المحرز من العناوین الثانویة التی توجب
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 319 الملاک هل هو من جهة کون الظنّ مختلفاً مع الواقع المظنون فی الرتبة ، أو من جهة الاعتبار الشرعی ؟
فعلی الأوّل یلزم أن یکون الظنّ غیر المعتبر أیضاً کذلک ، فعلی الثانی فنحن لا نقبله حتّی یقوم الدلیل علی أنّ الاعتبار الشرعی ممّا ینافی الملاکات الواقعیة ویرفعها .
والحاصل : لا فرق بین الظنّ المعتبر وغیره إلاّ فی الجعل الشرعی ، وهو ممّا لا یضادّ الملاکات النفس الأمریة ، مع أنّ الظنّ والقطع کسائر العناوین یمکن أن یکونا موجبین لملاک آخر .
ویرد علی التعلیل الثانی : أنّه یمکن أن لا ینبعث العبد بأمر واحد وینبعث بأمرین أو أوامر ، وإمکان الانبعاث یکفی فی الأمر ، ولولا ذلک لزم لغویة التأکیدات ، مع أنّ المظنون بما أنّه مظنون یمکن أن یکون له ملاک مستقلّ فی مقابل الواقع ، کما هو المفروض فیما نحن فیه ، فلا بأس بتعلّق أمر مستقلّ .
وأمّا ما أفاده فی فذلکته : من أنّ أخذ الظنّ علی وجه الطریقیة هو معنی اعتباره ، ففیه : أنّه ممنوع ؛ فإنّ الظنّ لمّا کان له طریقیة ناقصة وکاشفیة ضعیفة ذاتاً یمکن أن یؤخذ علی هذا الوجه موضوعاً فی مقابل الوصفیة التی معناها أن یؤخذ مقطوع النظر عن کاشفیته .
وأمّا معنی اعتباره فهو أن یجعله الشارع معتبراً وواجب العمل بالجعل التشریعی ، فمجرّد لحاظ الشارع طریقیته لا یلازم اعتباره شرعاً ؛ فضلاً عن أن یکون معناه . وإن شئت قلت : إنّ لحاظ الطریقیة من مقولة التصوّر وجعل الاعتبار من الإنشاء والحکم ، ولا ربط بینهما .
أضف إلی ذلک : أنّ لحاظ الطریقیة لو کان ملازماً للاعتبار لزم أن یلتزم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 320 بامتناعه فی القطع ؛ لأنّ جعل الطریقیة والاعتبار فیه ممتنع ، فلحاظ القطع الطریقی موضوعاً مطلقاً یصیر ممتنعاً .
اللهمّ إلاّ أن یدّعی : أنّ ذاک اللحاظ عین معنی الاعتبار أعمّ من الذاتی أو الجعلی ، وهو کما تری .
وأمّا ما أفاد : من أنّ أخذ الظنّ بالحکم موضوعاً لنفسه لا مانع منه بنتیجة التقیید فقد یظهر ما فیه عند البحث عن أخذ العلم کذلک من لزوم الدور .
وأمّا ما أفاده أخیراً : من عدم جواز أخذ الظنّ المعتبر موضوعاً لحکم متعلّقه ؛ معلّلاً بأنّ أخذ الظنّ محرزاً لمتعلّقه معناه أنّه لا دخل له فیه ، وهو ینافی الموضوعیة ، ففیه : أنّ ذلک ممنوع جدّاً ؛ فإنّ الملاک یمکن أن یکون فی الواقع المحرز بهذا الظنّ بعنوان المحرزیة ، فلابدّ من جعل المحرزیة للتوصّل بالغرض ، لکن أخذ الظنّ کذلک محال من رأس ؛ للزوم الدور .
والذی یسهّل الخطب : أنّ ما ذکره من الأقسام متصوّرات محضة لا واقع لها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 321