الاستدلال بمعرضیة العامّ للتخصیص علی لزوم الفحص
إذا عرفت هذه الاُمور فنقول : الحقّ فی إثبات لزوم الفحص ما سلکه المحقّق الخراسانی من أنّ معرضیة العامّ للتخصیص یوجب سقوط الاحتجاج به عندهم ، ولا أقلّ من الشکّ فی ذلک ، وهو کافٍ فی الثبوت ، انتهی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 210 وتوضیحه : أنّک إذا تدبّرت فی المحاورات العقلائیة والخطابات الـدائرة بینهم تجد أنّ دیدنهم فی المحاورات الشخصیة بین الموالی والعبید وغیرهم من آحاد الناس تختلف مع وضع القوانین وتشریع الشرائع من عند أنفسهم ، فتجدهم یعملون بالعمومات والمطلقات الصادرة منهم فـی محیط المحاورات ، بلا ترقّب منهم لمخصّصها ومقیّدها ، ولا انتظار لمخالفها ، بل یأخـذون بالظاهـر ؛ عامّاً کان أو مطلقاً أو غیره .
والسرّ فی ذلک : هو جریان العادة فی تلک الخطابات بذکر مخصّصها بعد عمومها ومقیّدها عقیب مطلقها ، بلا تفکیک منهم بینهما ؛ بحیث لو لم یجدوها فی متّصل کلامه لاحتجّوا بظواهرها وعمومها ومطلقها .
ولکن تجد دیدنهم فی وضع القوانین ـ مدنیاً کانت أو عالمیاً ـ علی خلاف ذلک ، فتراهم واقفین أمام کلّ عامّ ومطلق ، باذلین جهدهم فی التفتیش عمّا یصرفهما عن ظاهرهما .
والسرّ هنا : هو قضاء العادة خلاف ما کان یجری فی المحاورات الشخصیة ، بل دیدنهم جری فی وضع القوانین علی التفکیک بین العامّ ومخصّصه والمطلق ومقیّده .
فتراهم یذکرون العمومات والمطلقات فی فصل ومادّة ، ومخصّصاتها ومقیّداتها وحدودها تدریجاً ونجوماً فی فصول اُخر ، وربّما یذکر الخصوص فی کتاب وعمومه فی کتاب آخر ، وقد یتقدّم الخاصّ علی العامّ ، إلی غیر ذلک من رسومهم وعاداتهم التی یقف علیها المتضلّع فی الحقوق . هذا دیدن العقلاء .
وأمّا الشارع الصادع بالحقّ : فلم یسلک غیر ما سلکه العقلاء فی وضع
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 211 قوانینهم ، فتری أنّ قوانینه الکلّیة مذکورة فی الکتاب والسنّة منفصلة عن مخصّصاتها ومقیّداتها ، وتکون تلک الأحکام المدوّنة فیهما فی معرض التخصیص والتقیید ، کما هو الحال فی القوانین السیاسیة والمدنیة عند العقلاء .
وما هـذا حالـه لا یمکن التمسّک فیها بالاُصول بمجـرّد العثور علی عمومـات أو مطلقات من غیر فحص ؛ لما تقدّم من أنّ مجرّد ظهور الکلام وإجراء أصالة الحقیقة وعـدم القرینة لا یفید شیئاً حتّی یحـرز أنّ الإرادة الاستعمالیة مطابقة للإرادة الجدّیـة ؛ بحیث لولا هذا الإحراز لاختلّ نظام الحجّیة ، وکون العامّ فی معرض التدافع والتعارض یمنعهم عن إجراء أصالة التطابق بین الاستعمال والجدّ .
وقد عرفت : أنّ رحی الحجّة بعد تمامیة بعض مبادئها تدور مداره ، ولا یصیر الشیء حجّة ولا یطلق علیه الحجّة إلاّ بعد جریان هذا الأصل العقلائی .
والحاصل : أنّ مجری هذا الأصل ـ أصالة التطابق بین الإرادتین ـ إنّما هو بعد الفحص ؛ لعلمهم بعادة موالیهم من تفرّق البیان وتشتّته ، ولا فرق فی ذلک بین القوانین الإسلامیة الغرّاء وسائر القوانین العقلائیة .
وبما ذکـرنا یتّضح لک : أنّ مناط الفحص هـو المعرضیة لا العلم الإجمالی ، بل مع عدمه أیضاً لو فرض انحلاله کان الفحص واجباً ؛ لعدم تمامیة الحجّیة العقلائیة .
کما اتّضح : عدم الفرق بین المقام والاُصول العملیة ، وأنّ البحث فیهما عن متمّم الحجّة لا عن مزاحمها ؛ لأنّه کما لا یجری قاعدة العقاب بلا بیان قبل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 212 الفحص ، بل لا یتحقّق کونه بلا بیان قبله ؛ لأنّ التبلیغ قد تمّ مـن قبل الشارع ، وعلماء الاُمّة قد جمعوها فی جوامعهم ، فلا عذر فی ترکه ، فکذلک الاحتجاج بالعمومات والمطلقات ؛ لأنّه قبل الفحص لا یمکن الاعتماد علی أصالـة التطابق التی به تتمّ الحجّة .
فظهر : أنّ العمل بها لا یجوز إلاّ بعد الفحص حتّی یجعل ذلک مقدّمة لإجراء الأصل ـ أصالة التطابق ـ لتمامیة الحجّة .
فإن قلت : ما ذکرت هنا من أنّه لولا الفحص لما تمّ الحجّة ینافی لما هـو المختار عندک فی باب التعادل والترجیح ؛ من أنّ المطلقات حجّة فعلیة غیر معلّقة علی المقیّدات الواقعیة ، بل هی بعد وصولها من قبیل المزاحم ، وینقضی بها أمد الحجّیة .
قلت : إنّ البحث هنا حیثی ؛ فإنّ الکلام هاهنا فی لزوم الفحص ، وقد عرفت عدم حجّیة عامّ ولا مطلق إلاّ بعده ، والکلام هناک بعد الفحص ، والمختار هناک أنّ الفقیه إذا تفحّص قدر ما کان یلزمه یصیر کلّ واحد من العامّ والمطلق حجّة فعلیة فی حقّه ، ولو عثر علی مقیّد أو مخصّص بعده لا یکون المطلق معلّقاً بعدم البیان الواقعی ؛ بحیث یکون العثور علیه کاشفاً عن عدم حجّیته ، بل ینتهی به أمد الحجّیة . وقس علیه العامّ .
کلّ ذلک علی ما سلکناه ؛ تبعاً للمحقّق الخراسانی من کون المستند لوجوب الفحص هو المعرضیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 213