دلالة النهی علی التکرار
ثمّ إنّه لا خلاف بین العقلاء فی النواهی ـ ومنها النواهی الشرعیة ـ فی أنّ النهی یتمیّـز عن الأمر بأنّ مقتضی النهی لدی العرف هو ترک جمیع الأفراد ـ عرضیة کانت أو طولیة ـ بخلاف الأمر ؛ فإنّ الغرض منه یحصل بإیجاد فرد واحد منه ، ویسقط الأمر به دون جمیع الأفراد .
لکن الکلام فی أنّ ذلک من ناحیة اللغة أو حکم العقل أو العرف :
فذهب المحقّق الخراسانی إلی أنّ مقتضی العقل أنّ الطبیعی یوجد بفردٍ ما ، وینعدم بعدم جمیع الأفراد .
وأنت خبیر بفساد هذه القاعدة ؛ لأنّ المراد منها إن کان هو الطبیعة المهملة ـ أی بلا شرط ـ فهی کما توجد بفردٍ ما تنعدم بانعدام فردٍ ما ، وإن اُرید الطبیعة الساریة فی مصادیقها ـ علی اصطلاح القوم ـ فهی لا توجد إلاّ بوجود جمیع مصادیقها .
هذا ، وقد عرّفناک : أنّ الطبیعی متکثّر وجوداً وعدماً ، فکما أنّ له وجودات کذلک له أعدام بعدد الأفراد ؛ إذ کلّ فردٍ حائز تمام الطبیعی بلا نقصان ، فعدمه یکون عدماً للطبیعی حقیقة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 11 وما قرّر فی المنطق من أنّ نقیض السالبة الکلّیة هو الموجبة الجزئیة لیس مبنیاً علی أساس عقلی وبرهان علمی ، بل علی الارتکاز العرفی المسامحی ؛ لأنّ الطبیعة لدی العرف العامّ توجد بفردٍ ما وتنعدم بعدم جمیع الأفراد .
فإن قلت : فعلی هذا قد انحلّت العویصة ؛ لأنّ القاعدة المزبورة وإن لم یساعدها البرهان إلاّ أنّ الارتکاز العرفی یساعدها فی محاوراتهم ، والنواهی الشرعیة تحمل علی المحاورات العرفیة . فحینئذٍ إذا تعلّق نهی بطبیعة یکون حکمه العقلائی أنّ امتثاله بترک الأفراد جمیعاً .
قلت : نعم ، لکنّه یتولّد منه عویصة اُخری ؛ وهو أنّ لازم ذلک أن یکون للنهی امتثال واحد ومعصیة واحدة ؛ لعدم انحلاله إلی النواهی ، مع أنّ العرف لا یساعده کما تری ، ولذا لو خولف یری العرف أنّ النهی بحاله . هذا حکم العقل والعرف .
وأمّا اللغة : فلا دلالة للنهی وضعاً بمادّته وهیئته علیه ؛ ضرورة أنّ ما تعلّق به هیئة الأمر عین ما تعلّق به هیئة النهی ؛ وهو نفس الطبیعة لا بشرط ، والهیئة لا تدلّ إلاّ علی الزجر مقابل البعث ، ولیس للمجموع وضع علی حدة .
وأفاد بعض الأعیان من المحقّقین رحمه الله فی رفع الإشکال : أنّ المنشأ حقیقة لیس شخص الطلب المتعلّق بعدم الطبیعة کذلک ، بل سنخه الذی لازمه تعلّق کلّ فردٍ من الطلب بفرد من طبیعة العدم عقلاً ؛ بمعنی أنّ المولی ینشئ النهی بداعی المنع نوعاً عن الطبیعة بحدّها الذی لازمه إبقاء العدم بحدّه علی حاله ، فتعلّق کلّ فردٍ من الطلب بفرد من العدم تارة بلحاظ الحاکم ، واُخری بحکم العقل لأجل جعل الملازمة بین سنخ الطلب وطبیعی العدم بحدّه ، انتهی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 12 قلت وفیه أمّا أوّلاً ـ فبعد الغضّ عن أنّ النهی لیس طلباً ، والمتعلّق لیس عدماً ـ أنّه منقوض بمثله ؛ إذ لقائل أن یقول : إنّ الأمر حقیقة فی جعل الملازمة بین سنخ الطلب وطبیعی الفعل ، مع أنّه باطل .
وأمّا ثانیاً : فإنّ ما یدّعی من إنشاء سنخ الطلب إن کان لأجل اتّحاد السنخ والطبیعی مع الشخص ، فبجعله یصیر مجعولاً ، ففیه : أنّه لا یفید ؛ لأنّ الطبیعی فی الخارج لیس إلاّ الفرد ، فلا یکون قابلاً للانحلال عقلاً .
وإن کان لأجل کون جعل طبیعی الطلب القابل للکثرة ملازماً لطبیعی العدم ؛ بحیث یصیر قابلاً للانحلال ، ففیه : أنّ هذا یحتاج إلی لحاظ غیر إنشاء الطلب ، ویحتاج إلی قرینة وتجوّز .
ولو التزمنا به فالأهون ماذهب إلیه بعض الأعاظم من الالتزام بالعموم الاستغراقی فی جانب النهی حتّی ینحلّ النهی بتبعه ؛ وإن کان خلاف التحقیق ؛ لعدم استعمال المادّة فی الأفراد وجداناً ، کما لم تستعمل الهیئة فی الطبیعی علی ما ادّعاه المدّعی .
وبذلک یظهر الخلل فیما یقال من أنّ المصلحة تترتّب غالباً علی صرف الوجود ، فتکون تلک الغلبة کاشفاً عن تعلّق المصلحة بصرف الوجود المتحقّق بإیجاد فرد ، کما أنّ المفسدة فی النهی تترتّب علی کلّ فرد ، فتکون قرینة عامّة علی أنّ النهی متعلّق بکلّ فرد باستقلاله ، انتهی .
وجه الخلل فیه : أنّه إن أراد من تعلّق النهی بکلّ فرد أنّ المادّة اُخذت مرآة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 13 للخصوصیات والزجر تعلّق بکلّ فرد فقد عرفت امتناع مرآتیتها لها ، وضعف ما یتمسّک به لإثباتها من سریان الطبیعة واتّحادها معها .
وإن أراد أنّ النهی متعلّق بالطبیعة إلاّ أنّ تلک الغلبة قرینة علی أنّ جدّ المولی هو الزجر عن کلّ فرد ففیه : أنّ الزجر مفاد النهی الاستعمالی ، فإذا استعملت الهیئة فی نفس الطبیعة دون الأفراد فلا یرجع کون الزجر عن الأفراد جدّاً إلی محصّل ، إلاّ أن یرجع إلی التشبّث بالاستعمال المجازی ، وهو کما تری .
وأمّا ما عن بعض الأکابر ـ أدام الله أظلاله ـ من أنّ الأمر لمّا کان متعلّقاً بالطبیعة فیکون تمام المتعلّق له هو الطبیعة ، فبتحقّق فرد منها یتحقّق تمام المطلوب ، فیسقط الأمر ؛ لأنّ بقائه مع تحقّق تمام المطلوب جزاف .
وأمّا النهی فلمّا کان حقیقته الزجر عن الوجود لا طلب الترک یکون حکمه العقلائی هو دفع الطبیعة والزجر عنها بتمام حقیقتها ، فلا یکون المطلوب حاصلاً مع انتهاء المکلّف فی زمان ، ولا النهی ساقطاً مع الإتیان بفرد ، فإنّ العصیان لا یعقل أن یکون مسقطاً ؛ لا فی الأمر ولا فی النهی ، فإنّ السقوط إمّا بحصول المطلوب أو رفع الموضوع أو موت المکلّف أو عدم قابلیته للتکالیف ؛ لنقصان عارض له ، أو خروج الوقت فی الموقّتات ، فلا یکون السقوط مستنداً إلی المعصیة فی شیء من الموارد . فتحصّل ممّا ذکر : أنّ مفاد النهی لمّا کان هو الزجر فلازم ذلک ماذکرنا ، بخلاف ما لو کان طلب الترک .
غیر تامّ ، بل ما أفاده لا یزید إلاّ عن دعوی کون حکم العرف ذلک ، من غیر إقامة برهان مقنع علی سرّه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 14 ومجرّد کون مفاد النهی هو الزجر لا یوجب الفرق فی الحکم العقلائی ؛ ضرورة أنّ المولی إذا قال «اترک شرب الخمر» أو صرّح بـ «أنّی أطلب منک ترک شرب الخمر» یکون حکمه العقلائی هو لزوم الترک مطلقاً ، ومع الترک فی زمان والإتیان فی الآخر عدّ مطیعاً وعاصیاً .
فهذا الافتراق لیس من جهة کون مفاد النهی هو الزجر ، بل لو فرض تعلّق الزجر بصرف الوجود ـ أی ناقض العدم ـ فمع المخالفة یسقط النهی بالضرورة ؛ لانتهاء اقتضائه ، کما لو نهاه عن ذکر اسمه فی الملأ ؛ لغرض عدم معروفیته ، فمع ذکره یسقط النهی ، لا لأجل تعلّقه بأوّل الوجود ـ کما توهّم ـ بل لأجل تعلّقه بصرف الوجود ، فیسقط ما ذکر : أنّ العصیان لا یوجب السقوط فی شیء من الموارد .
فالأولی أن یتشبّث فی جانب النهی بذیل فهم العرف المتّبع فی تلک المقامات فی کلتا المرحلتین ؛ أی مرحلة أنّ الطبیعی ینعدم بعدم جمیع الأفراد ، ومرحلة أنّ النهی إذا تعلّق بالطبیعة ینحلّ إلی النواهی ، من غیر أن تستعمل الطبیعة فی الأفراد ، ومن غیر فرق بین کون النهی زجراً أو طلب ترک ، فتأمّل .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 15
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 16