الإشکالات غیر المشترکة
أمّا القولان الأوّلان ـ أعنی جعل المقام من قبیل المجاز فی الحذف أو فی الکلمة علی النهج المصطلح عندهم ، من دون ادّعاء ـ فقد عرفت ضعفهما فیما سبق ، وأنّ تنزیل کلام البُلغاء علی هذه المنزلة یوجب سلب أیّ مزیة منها ، وأنّ جمال المحاورة لیس فی حذف المضاف ، کما تخیّل فی قوله تعالی : «وَسْئَلِ الْقَرْیَةَ» أو فی استعمال لفظ فی معنی آخر لعلاقة المجاورة فقط ، کما قیل فی «جری المیزاب» .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 514 بل جمال المحاورة وحسنها فی ادّعاء أنّ الأمر قد بلغ فی وضوحه حتّی وقف علیه القریة ، وأنّها کأهلها شاعرة بذلک وواقفة به ، وأنّ الماء لغزارته وکثرته صار إلی حدٍّ کأنّ المیزاب جاریاً بنفسه ، فیعطی للمحلّ حکم الحالّ ادّعاءً ، وقد أوضحنا فی الجزء الأوّل : أنّ المجازاة ـ مرسلها واستعارتها ـ کلّها حقائق ادّعائیة ، فلا نعید .
وأمّـا الحقیقـة الادّعائیـة التی أشار إلیها الأعـلام : فلا یصـحّ شـیء منها فـی المقام :
أمّا ما أفاده المحقّق الخراسانی من نفی الآثار بلسان نفی موضوعها ففیها : أنّ الضرر لیس موضوعاً لهذه الأحکام حتّی تنفی بنفیه ؛ فإنّ ما هو الموضوع للزوم إنّما هو نفس العقد ، لا الضرر ولا العقد الضرری .
نعم ، لو کان لنفس الضرر أثر بارز غیر مرتّب علیه ، أو کان الضرر قلیل الوجود وعدیمه أمکن دعوی أنّه لاضرر ولاضرار ، وهو غیر ما هو بصدده .
وأمّا قیاس المقام بقوله : «یا أشباه الرجال ولا رجال» فغیر صحیح ؛ لأنّ القائل یدّعی أنّ تمام الحقیقة للرجال إنّما هو المروّة والشجاعة والمصارعة مع الأبطال فی معارک القتال ، فمن تقاعد عنها جبناً لا یصحّ أن یعدّ رجلاً ؛ لکونه فاقـداً لما هو الملاک . وأمّـا الأحکـام فلیس تمام الحقیقـة للضـرر حتّی تنفی بنفیـه ، فالقیاس مـع الفارق .
وأمّا ما أفاده فی «تعلیقته علی الرسائل» واستنهض أنّه أظهر الاحتمالات ؛
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 515 من أنّ المراد : أنّ الشارع لم یشرّع جواز الإضرار بالغیر أو وجوب تحمّل الضرر عنه ، فإن کان الضمیر فی قوله : تحمّل الضرر عنه عائداً إلی الشارع أو إلی الغیر المقصود منه الشارع علی طریق الاستخدام فهو یرجع إلی مختار الشیخ الأعظم .
وإن کان المقصود منه المکلّفین ؛ بمعنی عدم وجوب تحمّل الضرر عن الناس وجواز الدفاع عنه وجواز تدارکه علی نحو التقاصّ فهو ضعیف غایته لایقصر عمّا احتمله بعض الفحول ، کما سیجیء الإشارة إلیه .
وأمّا الوجوه الاُخر لتوضیح الحقیقة الادّعائیة فیرد علی الجمیع ـ مع الاعتراف باختلافها فی التقریر ـ أنّ نفی الحقیقة من رأس وادّعاء انتفائها فی الخارج مع وجودها فیه إنّما یصحّ إذا نزّل الموجود منزلة المعدوم ؛ إمّا لندرة وجودها ، وإمّا لقلعها لأجل قطع أسبابها وعللها حتّی یندر وجودها . وکلا الشقّین غیر صحیح ؛ لکثرة وجود الضرر فی الخارج وشیوعه . ومجرّد نهی الشارع عن الإضرار أو أمره بالتدارک لایوجب ولا یصحّح نفی الضرر .
وأمّا حدیث قلع أسباب الضرر تشریعاً فیبطله کثرة الأحکام الضرریة ، وکون اُصول أحکامه وأساس دینه أحکاماً ضرریة علی العباد فی عاجلهم فی نظر العقلاء . ومعه کیف یدّعی أنّه لاحکم ضرری فی الإسلام ، وأنّه قلع أسباب الضرر بعدم تشریع حکم ضرری ؟ فهل هذا إلاّ کادّعاء السلطان بأنّه لاسرقة فی حوزة سلطنتی وحمی قدرتی ، مع کون مقرّبی حضرته من السَرَقة .
وبذلک یمکن أن یقال : بأنّه أردأ الوجوه بعامّة تقریراته ، وأنّه لایقصر عمّا
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 516 أفاده بعض الفحول الذی قال بعض الأعلام بأنّه أردأ الوجوه .
وما تمسّک به الأعلام فی تصحیح الدعوی : من أنّه ناظر إلی الأحکام التی ینشأ من إطلاقها الضرر لا إلی ما طبعه علی الضرر ، کدعوی : أنّ الأحکام المذکورة لیست ضرریة ، غیر صحیح جدّاً ؛ إذ کما لا یصحّ نفی الضرر عن صحیفة التکوین مع شیوعه فیها ، فهکذا لا یصحّ أن ینفی مع کون اُصول فروعه أحکاماً ضرریة عند العقلاء ؛ من جهاده وزکاته وحجّه وخمسه وسلبه المالیة عن أشیاء هی أحبّ الأمتعة عند الناس .
وبالجملة : أنّ الکلام فی مصحّح الادّعاء ، وقد عرفت أنّه لایصحّ نفی هویة الضرر تکویناً أو تشریعاً إلاّ بتنزیل الموجود منه منزلة المعدوم ؛ لندرته فی الخارج أو لإعدام علله التشریعیة . ولکن صحیفة التکوین مملوّة منه ، کما هو ظاهر .
والأمر بالتدارک أو النهی عن الإضرار لایصحّح دعوی نفی هویة الضرر عن الخارج . وصحیفة التشریع مشتملة علی أحکام تعدّ اُصولاً لفروع الدین ، وهی بعامّتها ضرریة عند العقلاء ، ومع هذا الشیوع فی التکوین والتشریع لایصحّ أن یدّعی ندرة وجوده ، ولا قلع أسبابه فی التشریع . وما عرفت من حدیث الانصراف ـ فلو صحّ ـ لا یدفع الإشکال ، کما أشرنا إلیه .
هذا حال الاحتمال الأوّل الذی اختاره الشیخ الأعظم ، وتبعه المشایخ والمعاصرون ، وقد عرفت ضعفه .
ویتلوه فی الضعف ما نقله عن بعض الفحول ، وبما أنّ الأساتذة والأعلام قد
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 517 أوضحوه حقّـه وضعّفوه غایته فیلزم علینا أن نضرب عنـه صفحاً ، ونعطف عنان الکلام إلی ما أوضحـه فرید عصره شیخ الشریعـة الأصفهانی ؛ آخـذاً خلاصـة مرماه من رسالته :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 518