الأمر الأوّل : فی شمول الحدیث للشبهات الحکمیة
قد استشکل فی الاستدلال به للشبهات الحکمیة باُمور :
أوّلها : أنّه لا شکّ أنّ أکثر ما ذکر فی الحدیث الشریف موجود فی الخارج کثیر وجوده بین الاُمّة ، مع أنّ ظاهره الإخبار عن نفی وجوده ، فلابدّ من تقدیر أمر فی الحدیث حسب دلالة الاقتضاء ؛ صوناً لکلام الحکیم عن اللغویة والکذب .
فالظاهر : أنّ المقدّر هو المؤاخذة ، غیر أنّه یصحّ فی «ما لا یطیقون» و «ما اضطرّوا إلیه» و «ما استکرهوا علیه» ، وأمّا «ما لا یعلمون» فإن اُرید منه الشبهة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 26 الموضوعیة والمجهول من ناحیة المصداق فیصحّ التقدیر أیضاً ؛ وإن اُرید منه الأعمّ أو نفس الحکم المجهول فتقدیر المؤاخذة یحتاج إلی العنایة .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر أجاب عن الإشکال : بأنّه لا حاجة إلی التقدیر ؛ فإنّ التقدیر إنّما یحتاج إلیه إذا توقّف تصحیح الکلام علیه ، کما إذا کان الکلام إخباراً عن أمر خارجی ، أو کان الرفع رفعاً تکوینیاً ، فلابدّ فی تصحیح الکلام من تقدیر أمر یخرجه عن الکذب .
وأمّا إذا کان الرفع تشریعیاً فالکلام یصحّ بلا تقدیر ؛ فإنّ الرفع التشریعی ـ کالنفی التشریعی ـ لیس إخباراً عن أمر واقع ، بل إنشاء لحکم یکون وجوده التشریعی بنفس الرفع والنفی ، کقوله صلی الله علیه و آله وسلم : «لا ضرر ولا ضرار» ، وقوله علیه السلام : «لا شکّ لکثیر الشکّ» ونحو ذلک ممّا یکون متلوّ النفی أمراً ثابتاً فی الخارج .
وفیه : أنّ الفرق بین الإنشاء والإخبار فی احتیاج أحدهما إلی التقدیر دون الآخر کما تری ؛ فإنّ الکلام فی مصحّح نسبته إلی المذکورات ، فلو کان هناک مصحّح ؛ بحیث یخرج الکلام عن الکذب واللغویة تصحّ النسبة مطلقاً ؛ إخباراً کان أو إنشاءً ، وإن کان غیر موجود فلا تصحّ مطلقاً .
والحاصل : أنّ إسناد الشیء إلی غیر ما هو له یحتاج إلی مناسبة وادّعاء ، فلو صحّ لوجود المناسبة یصحّ مطلقاً ، بلا فرق بین الإنشاء والإخبار .
أضف إلی ذلک : أنّ النبی والأئمّة من بعده علیهم السلام لیسوا مشرّعین حتّی یکون الحدیث المنقول عنه إنشاءً ، بل هو إخبار عن أمر واقع ؛ وهو رفع الشارع الأقدس .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 27 مضافـاً إلی أنّ الإخبار بـداعی الإنشاء لا یجعلـه إنشاءً ، لا یسلخـه عـن الإخباریة ؛ فإنّ الإخبار بداعی الإنشاء لا یجعل الشیء مـن قبیل استعمال الإخبار فی الإنشاء ، بل هو یبقی علی إخباریته ؛ وإن کان الداعی إلیه هو البعث والإنشاء .
کما هو الحال فی الاستفهام الإنکاری والتقریری ؛ فإنّ کلمة الاستفهام مستعملة فی معناها حقیقة ؛ وإن کان الغرض أمراً آخر مخرجاً به عن المحذور .
علی أنّ الرفع التشریعی مآله إلی رفع الشیء باعتبار آثاره وأحکامه الشرعیة ، وهو عین التقدیر .
نعم ما ادّعاه قدس سره من عدم احتیاجه إلی التقدیر صحیح ، لا لما ذکره بل لأجل کون الرفع ادّعائیاً ، وسیأتی توضیحه ، فانتظر .
ثانیها : لا شکّ أنّ المراد من الموصول فی «ما لا یطیقون» ، و «ما استکرهوا» و «ما اضطرّوا» هو الموضوع الخارجی لا الحکم الشرعی ؛ لأنّ هذه العناوین الثلاثة لا تعرض إلاّ للموضوع الخارجی دون الحکم الشرعی .
فلیکن وحدة السیاق قرینة علی المراد من الموصول فی «ما لا یعلمون» هو الموضوع المشتبه ، لا الحکم المشتبه المجهول ، فیختصّ الحدیث بالشبهات الموضوعیة .
ثالثها : أنّ إسناد الرفع إلی الحکم الشرعی المجهول من قبیل الإسناد إلی ما هو له ؛ لأنّ الموصول الذی تعلّق الجهل به بنفسه قابل للوضع والرفع الشرعی ، وأمّا
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 28 الشبهات الموضوعیة فالجهل إنّما تعلّق فیها بالموضوع أوّلاً وبالذات ، وبالحکم ثانیاً وبالعرض .
فیکون إسناد الرفع إلی الموضوع من قبیل إسناد الشیء إلی غیر ما هو له ؛ لأنّ الموضوع بنفسه غیر قابل للرفع ، بل باعتبار حکمه الشرعی ، ولا جامع بین الموضوع والحکم ، فلابدّ أن یراد من الموصول هو الموضوع ؛ تحفّظاً علی وحدة السیاق .
وأجاب بعض أعاظم العصر قدس سره ؛ قائلاً بأنّ المرفوع فی جمیع التسعة إنّما هو الحکم الشرعی ، وإضافة الرفع فی غیر «ما لا یعلمون» إلی الأفعال الخارجیة لأجل أنّ الإکراه والاضطرار ونحو ذلک إنّما یعرض الأفعال الخارجیة لا الأحکام ، وإلاّ فالمرفوع فیها هو الحکم الشرعی .
کما أنّ المرفوع فی «ما لا یعلمون» أیضاً هو الحکم الشرعی ، وهو المراد من الموصول ، وهو الجامع بین الشبهات الموضوعیة والحکمیة .
ومجرّد اختلاف منشأ الشبهة لا یقتضی الاختلاف فیما اُسند الرفع إلیه ؛ فإنّ الرفع قد اُسند إلی عنوان «ما لا یعلم» ، ولمکان أنّ الرفع التشریعی لابدّ أن یرد علی ما یکون قابلاً للوضع والرفع الشرعی فالمرفوع إنّما یکون هو الحکم الشرعی ؛ سواء فی ذلک الشبهات الحکمیة والموضوعیة . فکما أنّ قوله علیه السلام : «لا تنقض الیقین بالشکّ» یعمّ کلا الشبهتین بجامع واحد ، کذلک قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «رفع عن اُمّتی تسعة أشیاء» ، انتهی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 29 وأنت خبیر : بأنّ فی المقام إشکالین ، وهو قدس سره یرید الجواب عنهما معاً : أمّا الأوّل فحاصله : أنّ وحدة السیاق یقتضی حمل الموصول فی «ما لا یعلمون» علی الموضوع حتّی یتّحد مع أخواته ، فالقول بأنّ رفع تلک العناوین بلحاظ رفع آثارها وأحکامها لا یفی بدفع الإشکال .
ومنه یعلم ما فی جوابه عن ثانی الإشکالین ؛ لأنّ مناطه إنّما هو فی الإسناد بحسب الإرادة الاستعمالیة ؛ فإنّ الإسناد إلی الحکم إسناد إلی ما هو له ، دون الإسناد إلی الموضوع ، فلابدّ أن یراد فی جمیعها الموضوع حتّی یصحّ الإسناد المجازی فی الجمیع . فکون المرفوع بحسب الجدّ الحکم الشرعی لا یدفع الإشکال .
فالحقّ فی دفع المحذورین : ما أفاده شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ :
أمّا عن الأوّل : فلأنّ عدم تحقّق الاضطرار والإکراه فی الأحکام لا یوجب التخصیص فی قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «ما لا یعلمون» ولا یقتضی السیاق ذلک ؛ فإنّ عموم الموصول إنّما یکون بملاحظة سعة متعلّقه وضیقه ، فقوله : «ما اضطرّوا إلیه» اُرید منه کلّ ما اضطرّ إلیه فی الخارج ، غایة الأمر : لم یتحقّق الاضطرار بالنسبة إلی الحکم .
فیقتضی اتّحاد السیاق أن یراد من قوله «ما لا یعلمون» أیضاً کلّ فرد من أفراد هذا العنوان ، ألا تری أنّه إذا قیل : «ما یؤکل وما یری» فی قضیة واحدة لا یوجب انحصار أفراد الأوّل فی الخارج ببعض الأشیاء تخصیص الثانی بذلک البعض .
وبعبارة أوضح : أنّ الإشکال نشأ من الخلط بین المستعمل فیه وما ینطبق علیه ؛ فإنّ الموصول والصلة فی عامّة الفقرات مستعمل فی معناهما لا فی المصادیق
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 30 الخارجیة ، والاختلاف بین المصادیق إنّما یظهر عند تطبیق العناوین علی الخارجیات ، وهو بمعزل عن مقام الاستعمال .
وهذا خلط سیّال فی أکثر الأبواب ، ومن هذا الباب توهّم أنّ الإطلاق یفید العموم الشمولی أو البدلی أو غیرهما ، مع أنّ الإطلاق لا یفید قطّ العموم ، بل هو مقابل العموم ، کما مرّ تحقیقه فی مقامه .
وأمّا عن الثانی : فإنّ الأحکام الواقعیة إن لم تکن قابلة للرفع ، وتکون باقیة بفعلیتها فی حال الجهل یکون الإسناد فی کلّ العناوین إسناداً إلی غیر ما هو له ، وإن کانت قابلة للرفع یکون الإسناد إلی «ما لا یعلمون» إسناداً إلی ما هو له ، وإلی غیره إلی غیر ما هو له ، ولا یلزم محذور ؛ لأنّ المتکلّم ادّعی قابلیة رفع ما لا یقبل الرفع تکویناً ، ثمّ أسند الرفع إلی جمیعها حقیقة .
وبعبارة اُخری : جعل کلّ العناوین بحسب الادّعاء فی رتبة واحدة وصفّ واحد فی قبولها الرفع ، وأسند الرفع إلیها حقیقة ، فلا یلزم منه محذور .
ثمّ إنّ بعض محقّقی العصر أنکر وحدة السیاق فی الحدیث ؛ قائلاً بأنّ من الفقرات فی الحدیث : الطیرة والحسد والوسوسة ، ولا یکون المراد منها الفعل ، ومع هذا الاختلاف کیف یمکن دعوی ظهور السیاق فی إرادة الموضوع المشتبه ؟ !
علی أنّه لو اُرید تلک فهو یقتضی ارتکاب خلاف الظاهر من جهة اُخری ؛ فإنّ الظاهر من الموصول فی «ما لا یعلمون» هو ما کان بنفسه معروض الوصف ، وهو عدم العلم کما فی غیره من العناوین الاُخر ، کالاضطرار والإکراه ونحوهما ؛
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 31 حیث کان الموصول فیها معروضاً للأوصاف المزبورة .
فتخصیص الموصول بالشبهات الموضوعیة ینافی هذا الظهور ؛ إذ لا یکون الفعل فیها بنفسه معروضاً للجهل ، وإنّما المعروض له هو عنوانه . وحینئذٍ یدور الأمر بین حفظ السیاق من هذه الجهة بحمل الموصول فی «ما لا یعلمون» علی الحکم ، وبین حفظه من جهة اُخری بحمله علی إرادة الفعل ، والعرف یرجّح الأوّل ، انتهی .
والجواب عن الأوّل ـ مضافاً إلی أنّ المدّعی وحدة السیاق فیما یشتمل علی الموصول ، لا فی عامّة الفقرات ـ أنّ الفقرات الثلاث أیضاً فعل من الأفعال ، غایة الأمر أنّها من قبیل الأفعال القلبیة ، ولأجل ذلک تقع مورداً للتکلیف ؛ فإنّ تمنّی زوال النعمة عن الغیر فعل قلبی محرّم . وقس علیه الوسوسة والطیرة ؛ فإنّها من الأفعال الجوانحیة .
وعن الثانی : أنّ المجهول فی الشبهات الموضوعیة إنّما هو نفس الفعل أیضاً لا عنوانه فقط ، بل الجهل بالعنوان واسطة لثبوت الجهل بالنسبة إلی نفس الفعل ، لا واسطة فی العروض . فالشرب فی المشکوک خمریته أیضاً مجهول ؛ وإن کان الجهل لأجل إضافة العنوان إلیه .
أضف إلی ذلک : أنّه لو سلّم ما ذکره فلا یختصّ الحدیث بالشبهة الحکمیة ؛ لأنّ الرفع ادّعائی ، ویجوز تعلّقه بنفس الموضوع ، فیدّعی رفع الخمر بما لها من الآثار ، فیعمّ الحدیث کلتا الشبهتین .
وربّما یدّعی اختصاص الحدیث بالشبهة الحکمیة ؛ لأنّ الموضوعات الخارجیة غیر متعلّقة للأحکام ، وإنّما هی متعلّقة بنفس العناوین . فرفع الحکم عنها
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 32 فرع وضعها لها ، وقد عرفت منعه .
وفیه أوّلاً : بالنقض بالاضطرار ونحوه ؛ فإنّه یتعلّق بالموضوع بلا إشکال ؛ فأیّ معنیً لرفع الحکم فیه فلیکن هو المعنی فی «ما لا یعلمون» .
وثانیاً : یمکن أن یقال إنّ الرفع فی الشبهات الموضوعیة راجع إلی رفع الحکم عن العناوین الکلّیة ، کما هو الحال فی الاضطرار والإکراه ؛ فإنّ الحکم مرفوع عن البیع المکره والشرب المضطرّ والخمر المجهول حکماً أو موضوعاً .
وإن شئت قلت : إنّ رفع الحکم مآله إلی نفی المؤاخذة أو رفع إیجاب الاحتیاط أو رفع الفعلیة ، من غیر فرق بین الشبهة الحکمیة أو الموضوعیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 33