الجهة الثانیة فی الأعراض الذاتیّة والغریبة
المعروف بین أصحابنا الاُصولیین مقتبساً من أهل المعقول : أنّ موضوع کل علم ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة .
وقد حُکی عن القدماء تفسیر العرض الذاتی بشیء یخالفه ما عن بعض المتأخّرین.
ولتوضیح المقال ینبغی الإشارة إلی معنی العارض وأقسامه وأقسام الواسطة، فنقول :
المراد بالعارض هنا مطلق الخارج عن الشیء المحمول علیه، فیشمل ما یقابل الذاتیّ فی باب الکلّیّات الخمس، المعبّر عنه فی لسان أهل المعقول بالعَرَضی، المنقسم إلی الخاصّة والعرض العامّ، کما یشمل غیره، مثل کلّ من الجنس والفصل بالإضافة إلی الآخر، والنوع بالنسبة إلیهما.
ثُمّ إنّ العارض : إمّا یکون عارضاً لشیء بلا واسطة أصلاً أو مع الواسطة.
وعلی الأوّل : إمّا أن یکون :
1 ـ مساویاً للشیء، کالتعجّب العارض للإنسان علی ما مثّلوا له، فتأمّل.
2 ـ أو أعمّ منه، کالجنس العارض للفصل.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 35 3 ـ أو أخصّ منه، کالفصل العارض للجنس.
وعلی الثانی : إمّا تکون الواسطة داخلیّة، أو خارجیّة.
فعلی کون الواسطة داخلیة :
4 ـ إمّا أن تکون الواسطة مساویّة للمعروض کالتکلّم العارض للإنسان بواسطة الناطق.
5 ـ أو أعمّ منه، کالحرکة الإرادیّة العارضة للإنسان بواسطة الحیوان، ولا ثالث له؛ لأنّ جزء الشیء لا یکون أخصّ منه.
وإن کانت الواسطة خارجیّة :
6 ـ فإمّا أن تکون مُساویة للمعروض، کعروض الضحک للإنسان بواسطة التعجّب.
7 ـ أو تکون أعمّ منه، کعروض التحیّز للأبیض بواسطة الجسم، الذی هو أعمّ من الأبیض.
أو یکون أخصّ منه، کعروض الضحک للحیوان بواسطة الإنسان، الذی هو أخصّ من الحیوان.
9 ـ أو مُباینة له، کعروض الحرارة للماء بواسطة النار. فهذه أقسام تسعة .
ثمّ إنّ القوم اتّفقوا علی کون بعض هذه الأقسام عرضاً ذاتیّاً، کما اتّفقوا علی کون بعضها الآخر غریباً، واختلفوا فی ثالث .
أمّا ما اتُّفق علی کونه عرضاً ذاتیّاً: فهو ما یکون عارضاً للشیء لذاته بلاواسطة، وکان مساویاً له، أو ما یکون عارضاً للشیء بواسطة جزء مساو له ؛ أوخارج مساوٍ، ولذا اشتهر بینهم تعریف العرض الذاتی : بأنـّه ما یلحق الشیء لذاته أو لما یساویه.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 36 وأمّا ما اتّفق علی کونه عرضاً غریباً : فهو ما یکون بواسطة أمر خارج أعمّ، أو أخصّ، أو مباین.
وأمّا ما اختلف فیه : فهو ما یکون عارضاً بواسطة جزء أعمّ، ونُسب إلی مشهور المتأخّرین أنـّه من الأعراض الذاتیّة، وعن جماعة من المتأخّرین ـ وفاقاً للقدماء ـ أنـّه من الأعراض الغریبة.
وأمّا ما یعرض للشیء بلا واسطة، وکان أعمّ من المعروض أو أخصّ منه، فلم یلتفتوا إلی کونهما من العوارض، فصار ذلک منشأ لاستیحاش بعضهم من عدّهما من العوارض الذاتیّة .
وقد اُشیر إلی دفعه بقولهم : إنّ العرض الذاتی هو ما لم تکن له واسطة فی العروض ؛ سواء لم تکن له واسطة أصلاً أو کان له واسطة فی الثبوت؛ فیدخلان فی العرض الذاتی.
فینبغی الإشارة إلی انقسام الواسطة إلی أقسامها الثلاثة توضیحاً للأمر : فهی إمّا واسطة فی العروض، أو واسطة فی الثبوت، أو واسطة فی الإثبات.
أمّا الواسطة فی العروض : فهی التی یقوم بها العرض حقیقة، وینسب إلی ذیها عنایة ومُسامحة من قبیل وصف الشیء بحال متعلّقه، کالحرکة التی هی الواسطة فی نسبة السرعة إلی الجسم، فإنّ السرعة تقوم بالحرکة، وانتسابها إلی الجسم بالعنایة؛ بلحاظ اتّصاف الحرکة بها، وهی قد تکون جلیّة علی نحو تکون نسبة العرض إلی ذیها مجازاً عرفاً، کالمثال المذکور، وقد تکون خفیّة؛ بحیث لا یخرج التوصیف عن کونه
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 37 حقیقة فی نظر العرف، وإن کان مجازاً بتعمل من العقل، کالسطح الذی هو واسطة فی نسبة البیاض إلی الجسم، فإنّ البیاض إنّما یقوم حقیقة بالسطح، لا بالجسم، لکنّه یُنسب إلی الجسم حقیقة بنظر العرف، وإنْ کان مجازاً بالنظر الدقیق.
وأمّا الواسطة فی الثبوت: فهی علّة ثبوت العرض حقیقة لمعروضه؛ سواء کان العرض قائماً بها أیضاً، کالنار الشمس اللتین هما علّتان لثبوت الحرارة للماء، أم لا کالحرکة التی هی علّة لعروض الحرارة علی الجسم.
وأمّا الواسطة فی الإثبات : فهی التی یکون العلم بها علّة للعلم بالثبوت کالحد الأوسط فی القیاس .
فخلاصة المقال فی العرض الذاتی والعرض الغریب: هو أنـّه نُسب إلی القدماء : أنّ العرض الذاتی : هو الخارج المحمول الذی یلحق الشیء لذاته، أو لأمر یساویه.
ولکن عدل عنه المتأخّرون، وقالوا : إنّ الحقّ فی العرض الذاتی أن یقال: إنّه مایکون عارضاً للشیء ووصفاً له بلا شأئبة مجاز أو کذب؛ أی ما یکون من قبیل الوصف بحال الشیء نفسه، لا الوصف بحال متعلّقه.
وبعبارة اُخری : العرض الذاتی : ما لا یکون له واسطة فی العروض؛ سواء کان له واسطة فی الإثبات أم لا، فالحرارة العارضة للماء ـ حیث تعرضه حقیقة ـ عرض ذاتیّ وإن کان بواسطة النار.
وبعدما اشتهر بینهم : أنّ العرض الذاتی هو الخارج المحمول الذی یلحق الشیء لذاته أو لأمر یساویه، أشکل علیهم الأمر؛ حیث رأوا أنّ أکثر محمولات العلوم عارضة لنوع من الموضوع أو صنف منه، فتکون هذه المحمولات عوارض غریبة
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 38 بالنسبة إلی موضوع العلم؛ لأنـّها لم تعرض لموضوع العلم نفسه، بل عرضت لنوع منه أو صنف منه.
وقد ذهب القوم للتفصّی عن الإشکال یمیناً وشمالاً فی تعریف العرض الذاتی، إلی أن اضطرّوا : تارة إلی إسناد المسامحة إلی رؤساء العلم فی تعریف العرض الذاتی، واُخری إلی الفرق بین محمول العلم ومحمول المسألة... إلی غیر ذلک من المطالب التی لا تشفی العلیل ولا تروی الغلیل.
وأحسن ما قیل فی مقام الدفع عن الإشکال ما أفاده صدر المتألّهین قدس سره ـ فی أوائل السفر الأوّل من أسفاره الأربعة ـ وحاصله علی ما اُفید : أنّ ما یختصّ بنوع من أنواع الموضوع ربّما یعرض لذات الموضوع بما هو هو، وأخصّیّة شیء من شیء لاتُنافی عروضه لذلک الشیء، کالفصول المنوّعة للأجناس، فإنّ الفصل المُقسِّم عارض لذات الجنس من حیث ذاته مع أنـّه أخصّ منها، والملاک کلّ الملاک فی الذاتی والغریب : هو أنـّه کلّما یلحق الشیء لأمر أخصّ، وکان ذلک الشیء مفتقراً فی لحوقه له إلی أن یصیر الأخصّ نوعاً متهیّئاً لقبوله، فهو عرض غریب، مثل لُحوق الضحک للحیوان، فإنّه یعرضه بعد تخصّصه بالنفس الإنسانیّة تخصصّاً وجودیّاً.
وأمّا إذا کان بنفس عروضه یتخصّص بخصوصیّة، فهو عرض ذاتیّ، مثل عروض الفصل للحیوان، فإنّه بنفس عروضه له یتخصّص، ویصیر نوعاً خاصّاً.
وموضوع علم الفلسفة حقیقة الوجود، وهو مثل النور، له عرض عریض، یشمل جمیع الماهیّات المتلبّسة بالوجود، فی عرض واحد؛ أی شمول الوجود للموجود النفسانی لم یکن بعد تخصّص الوجود بالوجود العقلانی، وکذا شموله للموجود المادّی لم یکن بعد تخصّصه بالوجود العقلانی والنفسانی، بل تتحد تلک الحقیقة مع الموجود
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 39 العقلانی، ویتخصّص بالوجود العقلانی، وهکذا یتّحد مع الوجود النفسانی، ویتخصّص به؛ من دون تخصیصه أوّلاً بالعقلانی، ثمّ بالنفسانی، وهکذا بالنسبة إلی جمیع الماهیّات الثابتة بالوجود، حتّی الواقعة فی أدنی مراتب الوجود.
وبالجملة : یتخصّص الوجود بالتخصّص العقلی والنفسیّ والنباتیّ والجمادیّ فی عرض واحد؛ أی لم یکن تخصُّص أحدهما بالوجود مسبوقاً بتخصّص الآخر، بل نفس حقیقة الوجود تعرض العقل والنفس والنبات والجماد فیعرض واحد، وتتخصّص به.
فالبحث عن تلک الاُمور بحث عن عوارض الوجود، والحکیم الإلهی یبحث عن تلک الاُمور من جهة أنـّها تعیّنات الوجود، وتکون أشیاء موجودة، بخلاف الحکیم الطبیعی، فإنّه یبحث عن تخصیص الوجود بمرتبة من المراتب، وهی مرتبة الجسمیّة.
وبالجملة : محطّ نظر الحکیم الإلهی هو حقیقة الوجود، والبحث فی فلسفته عن تعیّنات الوجود بتعیّن کذا وکذا، فأبحاثه کلّها عوارض ذاتیّة للوجود.
وأمّا الحکیم الطبیعی فمحطّ بحثه لم یکن الوجود بما هو هو، بل الوجود بعد تخصّصه بخصوصیّة الجسمیّة.
فبحث الحکیم الإلهی عن أحوال الجسم ـ بما هی أحوال الجسم، وبعد تخصّصه بخصوصیّة الجسمیّة ـ فی فلسفته، بحث عن العوارض الغریبة، وأمّا بحثه عن أحواله ـ بما أنـّه موجود ـ بحث عن عوارضه الذاتیة .
وبالجملة : فرق بین الحکیم الإلهی والحکیم الطبیعی، فإنّ الإلهی یبحث عن تعیّنات الوجود وحقیقته من مبدأ وجوده إلی منتهاه، فکلّ ما فی صفحة الوجود یصحّ أن یبحث حوله الحکیم الإلهی بما هو موجود، ولذا یُقال : إنّ موضوع علم الفلسفة أعمّ موضوعات العلوم؛ بحیث یشمل علم الفقه أیضاً، وتنطوی فیه موضوعات
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 40 جمیع العلوم.
فبحث الحکیم الإلهی عن الجسم المعدنی غیر بحث الحکیم الطبیعی عنه، فإنّّ الإلهی یبحث عنه من جهة وجوده، لا من جهة معدنیّته والأمر العارض للجسم، کما یبحث عن العقل کذلک، بخلاف الطبیعی، فإنّه یبحث عن معدنیّته وعن الأمر الطارئعلی الجسم.
فتحصّل : أنّ جهة البحث عندهما مُختلفة، فإنّ الحکیم الإلهی یبحث فیه عن حیثیة وجوده، والحکیم الطبیعی یبحث فیه عن حیثیّة جسمیّـته.
وما ذکرناه هو مُراد صدر المتألّهین قدس سره فی الفرق بین العرض الذاتی والعرض الغریب.
وحاصله : أنّ البحث حول الوجود بما هو موجود بحث عن العوارض الذاتیّة للوجود، وأمّا البحث عنه بعد تخصّص الوجود بتخصّص فهو بحث عن عوارضه الغریبة.
فما یظهر من بعض الأعلام فی مُراده ـ کما سنشیر إلیه وإلی دفعه ـ غیر وجیه، فاحفظ ما ذکرناه، وکن من الشاکرین.
کتابجواهر الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 41