الموضع الثانی فی أنّ الإتیان بمقتضی الطرق والأمارات هل یکون مجزیاً عن المأمور به بالأمر الواقعی أم لا ؟
ولیعلم : أنّ موضوع البحث فی ذلک هو ما إذا کان هناک أمر متعلّق بمرکّب ذی أجزاء وشرائط وموانع وقامت أمارة علیٰ عدم جزئیة شیء أو شرطیته أو عدم مانعیة شیء فأتی المکلّف المرکّب بدونها ، ثمّ انکشف الخلاف فی الشبهة الحکمیة ، أو قامت أمارة علیٰ جزئیة شیء أو شرطیة شیء أو عدم مانعیة شیء فأتیٰ علیٰ طبقها فبان خلافه فی الشبهة الموضوعیة .
مثلاً إذا أتی المکلّف بمصداق من الصلاة مثلاً بدون السورة ، أو بدون الاستقرار ، أو مع أجزاء ما لا یؤکل لحمه ـ مستنداً إلی روایة معتبرة ـ فبان خلافه ، أو أخبرت البیّنة ـ مثلاً ـ بأنّ القبلة هی هذه الجهة فصلّیٰ إلیها ، ثمّ انکشف الخلاف ، هل یوجب الإجزاء أم لا ؟
وبالجملة : موضوع البحث هنا فیما إذا کان هناک أمر متعلّق بمرکّب ذی أجزاء وشرائط مثلاً ، وقامت أمارة علیٰ عدم جزئیة شیء أو شرطیة شیء ـ مثلاً ـ لذلک المرکّب فی الشبهة الحکمیة ، أو أخبرت البیّنة علیٰ وجود الشرط أو عدم المانع ، فأتی المکلّف المرکّب بدون ذلک الجزء أو الشرط ـ مثلاً ـ ثمّ انکشف الخلاف فی الوقت أو خارجه ، هل یجتزی بما أتیٰ به أم لا ؟
فمن أتیٰ بمصداق من الصلاة ـ مثلاً ـ مع ترک ما یعتبر فیها استناداً إلیٰ روایة معتبرة فی الشبهة الحکمیة أو بیّنة فی الشبهة الموضوعیة ، فانکشف الخلاف ، هل یوجب الإجزاء وعدم الإعادة فی الوقت أو القضاء خارجه أو لا ؟ هذا .
وأمّا الأمارة الجاریة فی إثبات أصل التکلیف أو نفیه ـ کما إذا قام دلیل
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 322 اجتهادی علیٰ وجوب صلاة الجمعة أو عدم وجوبها ، ثمّ انکشف الخلاف ـ فهو خارج عن موضوع البحث فیما نحن فیه ، ولا معنی للإجزاء فیه .
إذا عرفت موضوع البحث فی المقام فیقع البحث فیه علیٰ ما هو الحقّ فی حجّیة الطرق والأمارات ؛ من کون حجّیتها من باب الطریقیة ، ولا یهمّ ولا ینبغی البحث فیه علیٰ فرض حجّیتها من باب السببیة والموضوعیة ؛ لفساد المبنی حسب ما قرّر فی محلّه ویکون البحث علیها .
وأمّا ذکر الأحکام والآثار المترتّبة علیٰ کلا المبنیین والتعرّض لها ولکون حجّیتها من باب الطریقیة أو السببیة والموضوعیة تطویل بلا طائل ، ولا فائدة لذکرها . فما ارتکبه المحقّق العراقی قدس سرهوأتعب نفسه الزکیة بذکرها ممّا لا طائل تحته ، ولعلّه یکون تضییعاً للعمر ، والله الموفِّق .
ثمّ إنّ تصویر الأماریة فی الطرق والأمارات حیث إنّه علی أنحاء ثلاثة فلابدّ من الإشارة إلیها ، ثمّ بیان الإجزاء وعدمه بالنسبة إلیٰ کلّ منها ؛ فنقول :
الأوّل : أن یقال : إنّ بناء العقلاء قد استقرّ علی العمل ببعض الأمارات ، وکان ذلک بمرئیٰ من الشارع الأقدس ومسمعه ، ولم یردع عنه أصلاً ؛ فیستکشف من عدم ردعه عنه رضاه بذلک ، کما هو الشأن فی الاعتماد علیٰ قول الثقة مثلاً .
وبالجملة : استقرّ بناء العقلاء علی العمل بخبر الثقة والظاهر ونحوهما ، وکان ذلک بمرئیٰ من الشارع ومسمعه ولم یردع عنه ؛ فیستکشف من ذلک رضاه بما هم علیه.
الثانی : أن یقال کسابقه : استقرّ بناء العقلاء علی العمل بذلک ، ولکن ورد من الشرع الأقدس تقریر وإمضاء لما هم علیه .
الثالث : أن یقال : إنّ للشارع أمارة تأسیسیة بعدما لم یکن عند العقلاء لها عین ولا أثر ، کما احتمل ذلک فی أمارات الحیض وأمارات البلوغ ونحوهما .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 323 فظهر : أنّ تصوّر الأماریة فی حجّیة الطرق والأمارات علی أنحاء ثلاثة ، والذی یقتضیه التحقیق عدم الإجزاء فی شیء منها ـ ولو علی القول بأنّ للشارع الأقدس أمارة تأسیسیة ـ وذلک :
أمّا علی الوجهین الاُولیین فواضح ؛ وذلک لأنّ الشارع حسب الفرض لم یتصرّف فی الأمارة شیئاً ، وإنّما قرّر العقلاء علیٰ ما هم علیه ؛ إمّا بعدم الردع ، أو بإمضائه وتقریرهم علیٰ ما هم علیه . فلابدّ من ملاحظة محیط العرف والعقلاء فی العمل بالطرق والأمارات ، ولا شکّ أنّ عمل العقلاء بها لکشفها وأماریتها نوعاً عن الواقع ، من دون تصرّف فیه ، بل بقاؤه علیٰ ما هو علیه ، کما هو الشأن فی العلم والقطع ، فکما أنّهم إذا قطعوا بأمر لا یوجب ذلک تصرّفاً فی الواقع ، ولا تمسّ بکرامتـه شیئاً ، فکذلک إذا قامت أمارة علیه ، کخبر الثقة .
وبالجملة : لا فرق عند العقلاء بین القطع والأمارة الظنّیة ـ من خبر الثقة والید والظاهر ونحوها ـ من جهة أنّ لها واقع محفوظ ، وتلک الاُمور طرق إلیه قد تطابقه وقد لا تطابقه ، من دون أن تمسّ کرامة الواقع ، ولا یکاد یتصرّف فیه .
وواضح : أنّ العقلاء لا یکتفون فی موارد قیام الطرق والأمارات بما أتوا طبقاً لمؤدّی الأمارة لو تخلّفت عن الواقع ؛ بأن کان الواقع علیٰ خلاف مؤدّی الأمارة معتذراً بقیام مؤدّی الأمارة مقام الواقع ، بل یلتزمون بإتیان الواقع بعد کشف الخلاف . ولعمر الحقّ إنّه واضح لمن سَبَر وتفحّص حالهم .
وحیث إنّ الشارع حسب الفرض سکت أو أمضاهم علیٰ ما هم علیه فلا معنیٰ لحدیث التضییق والتحکیم والتقیید ، کما لا وجه لجبران مصلحة الواقع أو کونه وافیاً لمصلحة الواقع ، إلیٰ غیر ذلک من المطالب التی تَمُور بین الألسن .
والسرّ فی ذلک : هو أنّ الشارع الأقدس حسب الفرض یکون کأحد من العقلاء فی ذلک .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 324 نعم فی إنفاذ بنائهم علیٰ ما هم علیه حکمة ؛ وهی تسهیل الأمر ؛ لعدم حصول العلم غالباً وصعوبة العمل بالاحتیاط .
فتحصّل : أنّ فی محلّ البحث ـ وهو المرکّب الارتباطی ـ لو قامت أمارة علیٰ کون شیء جزءً ولم یکن جزءً فی الواقع ، أو نفیٰ جزئیة شیء یکون جزءً فی الواقع ، وکذلک فی جانب الشرط أو المانع لا یوجب ذلک تصرّفاً فی الواقع ، ولا تمسّ کرامته ، بل یکون الواقع باقیاً علیٰ ما هو علیه .
وأمّا علی الوجه الأخیر ـ أی القول بکون الأمارة ممّا أسّسها الشارع ـ فکذلک أیضاً ؛ لأنّه لو فرض أنّ لسان قوله علیه السلام : «ما أدّیٰ إلیک عنّی فعنّی یؤدّی . . .» أو قوله علیه السلام : «لا عذر لأحد من موالینا فی التشکیک فیما یرویه عنّا ثقاتنا . . .» تأسیس أمارة ، فمعناه لیس إلاّ حجّیة الواقع والتحفّظ علیه ، من دون أن یوجب تصرّفاً فیه أو قلب الواقع عمّا هو علیه .
وبعبارة اُخریٰ : تأسیس الشارع أمارة معناه إیجاب العمل علیٰ طبق الأمارة ، وبعد تأسیس الأمارة یکون ما أسّسه مثل ما یراه العقلاء أمارة وتقع فی عرضها ؛ فکما لا یکون مقتضی الأمارات الموجودة عندهم الإجزاء ـ کما أشرنا إلیه ـ فکذلک فی المصداق الذی أسّسه الشارع .
فاتّضـح ممّا ذکـرنا : أنّ متعلّق الجعل لابـدّ وأن یکون له کاشفیـة فی نفسـه ، کالظنّ غیر المعتبر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 325 فتوهّم إمکان جعل الأماریة للشکّ الذی لا یکون له کاشفیة أصلاً ـ کما لعلّه ربّما یتوهّم ـ لا وجه له .
وکذا لا وجه لأن یقال : إنّ حجّیة أمارة مقتضاها تتمیم الکشف ، أو تنزیل مؤدّی الأمارة منزلة الواقع .
أمّا الأوّل ؛ فلأنّه تصرّف فی التکوین ، ولا شأن للشارع ـ من حیث إنّه شارع ـ التصرّف فی التکوین .
نعم إن رجع تتمیم الکشف إلیٰ ما ذکرنا من أنّ أمر الشارع بالعمل بأمارة مقتضاه کونه طریقاً إلیه ، نظیر الطرق الموجودة عندهم فله وجه .
وأمّا الثانی ؛ فلأنّ تنزیل المؤدّیٰ منزلة الواقع ینافی الأماریة ؛ لأنّ معنی التنزیل هو أنّ نفس ما أدّیٰ إلیه الأمارة من دون أن یکون لها کاشفیة عن الواقع منزّل منزلة الواقع ، نظیر قولک : «إذا شککت فابن علیٰ کذا . . .» ، فکما أنّ الشکّ فی شیء موضوع للبناء علیه ، من دون أن یکون للشکّ کاشفیة فی ذلک ، فکذلک تنزیل مؤدّی الأمارة منزلة الواقع لا یکون له أماریة .
وبالجملة : مقتضیٰ وجوب الشارع العمل بقول الثقة ـ مثلاً ـ لو فرض کونه ممّا أسّسه الشارع إنّما هو لثقته وکشف قوله عن الواقع نوعاً ، لا أنّ قوله منزّل منزلة الواقع .
نعم العمل بالأمارة مُعذّر ما لم ینکشف الخلاف ، فإذا انکشف الخلاف یجب إعادتها فی الوقت وقضاؤها خارج الوقت .
فظهر : أنّ مقتضی الأمارة التأسیسیة ـ کالأمارة العقلائیة ـ عدم الإجزاء عند کشف الخلاف .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 326