ذکر وتعقیب : إشکال العلاّمة الحائری فی الفرق بین الجمل الخبریة والإنشائیة
أشکل شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره فیما قد یقال فی الفرق بین الجُمل الخبریة والإنشائیة : بأنّ الاُولی موضوعة للحکایة عن مدالیلها فی نفس الأمر وفی ظرف ثبوتها ؛ سواء کان المحکی بها ممّا کان موطنه فی الخارج کقیام زید ، أم کان موطنه فی النفس کعلمه . بخلاف الجمل الإنشائیة کهیئة «افعل» مثلاً ؛ فإنّ المستفاد منها لیس حکایة عن تحقّق الطلب فی موطنه ، بل هو معنیً یوجد بنفس القول ، بعدما لم یکن قبل هذا القول له عین ولا أثر .
وقال قدس سره : ولی فیما ذکر نظر .
وحاصل إشکاله فی الجمل الخبریة : هـو أنّ مجـرّد حکایة اللفظ عـن المعنی فـی موطنه لا یوجب إطـلاق الجملة الخبریة علیه ، ولا یصیر بذلک قابلاً للصـدق والکـذب ؛ فإنّ قولنا : «قیام زید فـی الخارج» یحکـی عـن معنیٰ قیام زید فـی الخارج حکایة اللفظ عن معناه بالضرورة ، ومع ذلک لا تکون جملة خبریة .
فلابدّ من اعتبار أمر زائد علیٰ ذلک حتّیٰ تصیر الجملة جملة یصحّ السکوت علیها ؛ وهو وجود النسبة التامّة . ولا شبهة فی أنّ النسب المتحقّقة فی الخارج لیست علیٰ قسمین : قسم منها تامّة وقسم منها ناقصة ، بل النقص والتمام إنّما هما باعتبار الذهن ؛ فکلّ نسبة لیس فیها إلاّ مجرّد التصوّر تسمّیٰ نسبة ناقصة ، وکلّ نسبة تشتمل علی الإذعان بالوقوع تسمّیٰ نسبة تامّة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 125 والمـراد بالإذعان بالوقـوع فـی الجملـة الخبریة لیس هـو العلم الواقعـی بوقـوع النسبة ؛ ضرورة أنّه قـد یخبر المتکلّم وهـو شاکّ ، بل قـد یخبـر وهـو عالـم بعدم الوقوع .
بل المراد منه هو عقد القلب علی الوقوع ؛ جعلاً علیٰ نحو یکون القاطع معتقداً . وکان سیّدنا الاُستاذ ـ نوّر الله ضریحه ـ یعبّر عن هذا المعنی بـ «التجزّم» .
وحاصل إشکاله فی الجمل الإنشائیة : هـو أنّ کـون الألفاظ علّة لتحقّق معانیها لم یکن لـه معنیً محصّلاً عندی ؛ بداهـة أنّ العلّیة المذکورة لیست مـن ذاتیات اللفظ ، وما لیس علّة ذاتاً لا یمکن جعلـه علّة ؛ لعـدم قابلیة العلّیة وأمثالها للجعل ، کما تقرّر فی محلّه .
والذی أتعقّله فی الجمل الإنشائیة : هی أنّها موضوعة للحکایة عن حقائق موجودة فی النفس ، مثلاً هیئة «افعل» موضوعة للحکایة عن حقیقة الإرادة الموجودة فی النفس ؛ فمن قال : «اضرب زیداً» وکان فی نفسه مریداً لذلک فقد أعطت الهیئة المذکورة معناها ، بخلاف ما إذا قاله ولم یکن مریداً واقعاً ؛ فإنّ الهیئة المذکورة ما استعملت فی معناها .
نعم ، بملاحظة حکایتها عن معناها ینتزع عنوان آخر لم یکن متحقّقاً قبل ذلک ؛ وهو عنوان یسمّیٰ بالوجوب .
وواضح : أنّ هـذا العنـوان المتأخّر لیس معنی الهیئة ؛ لما عـرفت أنّه منتزع مـن کشف اللفظ عن معناه ، ولا یعقل أن یکون عین معناه .
إن قلت : یلزم علیٰ ما ذکر أنّه لو أتیٰ بألفاظ دالّة علی المعانی الإنشائیة ، ولکن لم یکن فی نفس المرید معانیها ـ کالأوامر الصادرة فی مقام الامتحان والتعجیز ونحو
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 126 ذاک ـ أنّها غیر مستعملة أصلاً ، أو مستعملة فی غیر ما وضعت له ، والالتزام بکلّ منهما ـ لا سیّما الأوّل ـ خلاف الوجدان .
قلت : تحقّق صفة الإرادة ـ مثلاً ـ فی النفس علیٰ قسمین :
فقد تکون لتحقّق مبادئها فی متعلّقاتها ، کمن اعتقد المنفعة فی ضرب زید ؛ فتحقّقت فی نفسه إرادته .
وقد یکون من جهة مصلحة فی نفسها ، لا من جهة متعلّقاتها ، بل توجد النفس تلک الصفات من جهة مصلحة فی نفسها .
کما نشاهد ذلک القسمین وجداناً فی الإرادة التکوینیة . والإرادة التشریعیة لیست بأزید مؤونةً منها ؛ وذلک لأنّها قد توجدها النفس لمنفعة فیها ، مع القطع بعدم منفعة فی متعلّقها ، ویترتّب علیها الأثر . مثل إتمام الصلاة من المسافر ؛ فإنّه یتوقّف علیٰ قصد إقامة عشرة أیّام فی بلد ، من دون مدخلیة لبقائه فی ذلک البلد بذلک المقدار وجوداً وعدماً .
ولذا لو بقی فی بلد بالمقدار المذکور من دون القصد لا یتمّ ، وأمّا لو لم یبق بذلک المقدار ولکن قصد من أوّل الأمر بقاءه بذلک المقدار یتمّ . ومع ذلک یتمشّیٰ قصد البقاء من المکلّف ، مع علمه بأنّ ما هو المقصود لیس منشأ للأثر المهمّ ، وإنّما یترتّب الأثر علیٰ نفس القصد ، ومنع تمشّی القصد منه ـ مع هذا الحال ـ خلاف ما نشاهد من الوجدان ، کما هو واضح ، انتهیٰ ملخّصاً .
وفیه : أنّه إن قلنا إنّ مناط الصـدق والکـذب فـی الجمل الخبریة هـو حکایة الجملة ؛ حکایـة تصدیقیةً عـن المعنیٰ والواقـع ـ أی حکایتها عـن الثبوت واللاثبوت ـ فالمفردات والمعانی التصوّریة وإن کانت معانی مرکّبة إلاّ أنّها لا تکون لها
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 127 حکایة عن الخارج الثابت ، بل تحکی عن معانی تصوّریة مقیّدة . مثلاً : لغلام زید معنیً تصوّری لا حکایة له عن الخارج ، والحکایة عن ذلک إنّما هی فیما یحکی عن الواقع ؛ حکایة تصدیقیة .
فظهر : أنّ مناط الصدق والکذب إنّما هو باعتبار مطابقته للواقع وعدمه ، لا باعتبار حکایته عن التجزّم . مضافاً إلی أنّ التجزّم وتزریق الجزم لا معنیٰ له ؛ لأنّ الجزم من الصفات النفسانیة ، فإن کانت موجودة فیها فهو ، وإلاّ فلا یکاد یوجد بصرف اعتبار وجوده فیها .
فتحصّل : أنّ هیئة الجملة الخبریة تحکی عن الثبوت واللاثبوت ـ ولو فی القضایا المشکوکة ـ من دون دخالة للتجزّم فیها أصلاً .
نعم ، لـو أظهر الجملة بصـورة التردید ـ بأن أوقعها تِلْو أداة الشـرط ـ وقال : «إن کان زیـد عالماً فأکرمـه» فیسقط عـن الحکایـة التصدیقیة ، ویکـون مفادها الحکایـة التصـوّریة ، نظیـر مفاد «غـلام زید» ، فتـدبّر . هـذا کلّه فیما أفاده قدس سره فـی الجمل الخبریة .
وأمّا الذی قاله فی الجمل الإنشائیة ففیه :
أوّلاً : أنّ معنیٰ علّیة لفظ لمعنیً لیس علّة تکوینیة نظیر علّیة النار للإحراق ؛ حتّی یقول قدس سره بأنّنا لا نتصوّر له معنیً محصّلاً . ولذا قال شیخنا صاحب «الوقایة» قدس سره : إنّ إیقاعه خارجاً لو کان فإنّما هو شأن الرمّال .
بل المراد إیجاد أمر اعتباری فی دائرة المولویة والعبودیة ، نظیر إغراء الکلاب المعلّمة والطیور الجارحة إلی المقصود ، کما أشرنا آنفاً .
وهذا الکلام من شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره عجیب ؛ لأنّه لم یدّع أحد إثبات العلّیة الذاتیة التکوینیة للألفاظ ، بل مراد من قال ذلک : هو إیجاد أمر اعتباری فی محیط الاعتبار ، وهذا لا محذور فیه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 128 والظاهر : أنّه قدس سره غفل عن هذا المعنیٰ ، وإلاّ کان تصدیقه لما ذکرنا قطعیاً ؛ لانشراح صدره وجودة فکره .
وثانیاً : إن أراد بقوله : إنّ الإنشائیات موضوعة للحکایة عن حقائق موجودة فی النفس ـ حکایة اللازم عن ملزومه ـ فلا غبار علیه .
وإن أراد حکایـة اللفظ الـدالّ علی المعنی الموضـوع له عنه ففیه : أنّ الـذی یفهم العـرف مـن هیئة الأمـر ـ مثلاً ـ إنّما هـو البعث الاعتباری لا الإرادة الموجـودة فی النفس .
وبالجملة : فرق بین کشف اللازم عن ملزومه ، وبین کشف اللفظ الموضوع عن معناه الموضوع له ، والکلام إنّما فی الثانی . وغایة ما یساعد علیه العرف فیما أفاده إنّما هو فی الأوّل ، فتدبّر .
وثالثاً : أنّ ما ذکره أخیراً فی قصد الإقامة نظر وجیه ؛ لأنّ قصد إقامة عشرة أیّام لا یمکن تحقّقه إلاّ مع الجزم ببقاء عشرة أیّام فی مکان ، ولا یتمشّیٰ منه قصد إقامة عشرة أیّام مع عدم الجزم بالبقاء ، فضلاً عن الجزم بالعدم ، هذا .
مضافاً إلی أنّه لو صحّ منه ذلک لا یکون الإتمام من آثار نفس قصد الإقامة ، وإلاّ لابدّ وأن یتمّ صلاته من قصد إقامة عشرة أیّام فی بلد ، مع علمه بعدم توقّفه هناک إلاّ یوم واحد ، وهو کما تریٰ .
کما أنّه لم یترتّب الإتمام علیٰ نفس بقائه فی ذلک البلد من دون قصد الإقامة فیه ، بل الإتمام من آثار القصد وإقامة عشرة أیّام فی محلّ کلیهما .
نعم ، إقامة العشرة تارة تکون مقصودة بالذات ، واُخریٰ لا تکون کذلک ، بل للتوصّل إلی أمر آخر ، کأن یقصد إقامة عشرة أیّام للتوصّل إلیٰ درک أفضل فردی الصلاة ؛ وهی الصلاة التمام . ولکن لا فرق بینهما فی إیجاب القصد شیئاً فی الموارد ، غایته یکون القصد فی أحدهما ذاتی دون الآخر ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 129 ثمّ إنّه یکون للمحقّقین النائینی والعراقی مقالاً هنا ، فمع أنّهما تبعیدان للمسافة لا یرجعان إلی محصّل ، فالأولی الصفح عنهما ، وإن شئت فلاحظهما .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 130