الجهة الرابعة عشر فی الصفات الجاریة علی ذاته تعالیٰ
اختلفوا فی إطلاق المشتقّ علیٰ ذاته تعالیٰ ، کالعالم والقادر ونحوها :
فقد یقال : إنّه لا یصحّ حمل المشتقّ بما له من المعنی ـ حیث یدلّ علی الذات المتلبّسة بالعنوان عند التحلیل ـ علیٰ ذاته المقدّسة ؛ وذلک لجهتین :
الجهة الاُولیٰ من حیث الهیئة ؛ حیث إنّه للمشتقّ مادّة وهیئة ؛ ففیه نحو کثرة ، ویستفاد منه قیام المبدأ بالذات ، وبعبارة اُخریٰ : یستفاد منه زیادة العنوان علی ذات المعنون ، ولا یکون ذلک بالنسبة إلیه تعالیٰ ؛ لأنّ صفاته المقدّسة عین ذاته تعالیٰ ؛ ضرورة أنّه لا تکون ذاته المقدّسة عالماً ـ مثلاً ـ بعلمٍ زائد علیٰ ذاته ، وهکذا سائر صفاته المقدّسة .
الجهة الثانیة من جهة المادّة ؛ حیث إنّ المشتقّ بما أنّه مشتمل علی المبدأ ـ وهو أمر حدثی ـ وذاته تعالی کصفاته فوق الجواهر والأعراض ، فضلاً عن الأحداث ؛ فذاته تعالیٰ بریء عن طروّ الاُمور الحدثیة .
ومن أجل هذا التزم بعضهم بأنّ إطلاق المشتقّ ـ کالعالم أو القادر ونحوهما ـ علیه تعالیٰ لابدّ وأن یکون فیه نحو تجوّز وتجرید عن معناه الحقیقی .
ولکنّه بعید عمّا هو المرتکز فی أذهان العرف والعقلاء ؛ حیث إنّهم یطلقون العالم ـ مثلاً ـ علیه تعالیٰ بلا تأوّل ، کما یطلقونه علیٰ غیره تعالیٰ .
ولا نریٰ بالوجدان تأوّلاً فی حمله علیه تعالی ، بل الوجدان أصدق شاهدٍ بعدم الفرق بین جریانه علیٰ ذاته المقدّسة وعلیٰ غیره .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 100 وأشکل المحقّق الخراسانی قدس سره علی القائل بالتجـوّز والنقل : بأنّ إطـلاق المشتقّ علیه تعالیٰ ـ کالعالم مثلاً ـ لـو لم یکن بمعناه الذی نفهم مـن إطـلاقه علیٰ غیـره تعالیٰ ـ مـن أنّه من ینکشف لدیـه الشیء ـ فإمّا یـراد منه المعنی المقابل لذلک ـ یعنی الجاهل ـ فتعالی الله عن ذلک علوّاً کبیراً ، أو لم یرد معنیً أصلاً ؛ فتکون لقلقة اللسان ، انتهیٰ .
ولکنّک خبیر : بأنّ هذا الإشکال إنّما یتوجّه علیٰ ما یحکیٰ عن المعتزلة النافیة للصفة عنه تعالی ـ مع أنّ المظنون أنّهم أیضاً غیر قائلین به ، ولا یساعد المجال بیانه ـ لا علیٰ من یقول بالتأوّل والتجوّز ؛ فإنّه لا یریٰ أنّه تعالیٰ غیر موصوف بصفة ، بل یریٰ تنزیهه تعالیٰ عن الکثرات بزعم أنّه یفهم من المشتقّ قیام الحدث بالذات ، وعلمه تعالیٰ لم یکن زائداً علیٰ ذاته المقدّسة ، ولم یکن من الأحداث ؛ فعلمه تعالیٰ منزّه عن هذه الکثرات . نعم یتوجّه علیٰ مقاله : بأنّ القول بالنقل أو التجوّز خلاف الوجدان ، ولا نریٰ فرقاً بین إطلاق الصفة ـ کالعلم مثلاً ـ علیه تعالیٰ ، وبین إطلاقها علیٰ غیره تعالیٰ من حیث عدم التأوّل والمجازیة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 101 وبالجملة : وزان حمل العناوین الاشتقاقیة ـ کالعالم والقادر ونحوهما ـ علیه تعالیٰ ـ بما لها من المعانی والمفاهیم ـ وزان حملها علیٰ أحد من عباده الذین قام بهم المبادئ ، من دون تصرّف وتجوّز ، فتدبّر .
ذکر وتعقیب
تصدّی المحقّق العراقی قدس سره لدفع القول بالنقل أو التجوّز فی إطلاق الصفات علیه تعالیٰ بقوله : التحقیق فی الجواب أن یقال : إنّ أهل العرف لغفلتهم عن اتّحاد ذاته تعالیٰ مع مبادئ صفاته الحُسنیٰ ـ التی نطق بها البرهان الصادق ـ یحملون علیه تعالیٰ هذه العناوین المشتقّة بما لها من المفاهیم ، ویتخیّلون أنّ مطابقها فی ذاته المقدّسة ، کما هو مطابقها فی ذات غیره .
ولیـس ذلک إلاّ لإفادة المـعانی التـیتحصل مـن حمل هـذه العناویـن المشتقّـة علـیٰ ذاتٍ ما مـن الاتّصاف بمبادئـها ؛ مـن العلـم والقـدرة والوجـود . . . إلی آخـر ما ذکـره .
وفیه : أنّه لو سلّم ما ذکره بالنسبة إلی العرف والعقلاء ، ولکن نسأل من جنابه غیر الغافل بکون صفاته الحُسنی عین ذاته ، فهل یری أنّ إطلاقه العالم ـ مثلاً ـ علیه تعالیٰ ، مع التوجّه بعینیة الصفة للذات یکون مع التأوّل والمجازیة ؟ !
والوجـدان شاهـد صـدق علیٰ خلافه ، بل ـ کما أشـرنا ـ لا نری فرقاً فـی إطـلاق العالـم علیه تعالـی ، وبین إطلاقه علیٰ أحـد مـن عباده ؛ فکما لا یکـون تأوّل ومجازیـة فی إطلاقه علیٰ مـن قام به المبدأ مـن أفراد الآدمیین ، فکـذلک فـی إطلاقه علیه تعالیٰ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 102 ثمّ إنّه لو کان إطلاق الصفات علیه تعالیٰ مجازیاً یلزم أن تکون الإطلاقات الواردة فی الکتاب والسنّة کلّها مجازیة ، وذلک مستبعد جدّاً ، کما لا یخفیٰ .
ذکر وإرشاد
قد یقال فی إطلاق العالم علیه تعالیٰ : إنّ العالم معناه واجد المبدأ ، ومراتب الواجدیة متفاوتة ؛ فإنّه قد یطلق العالم علیٰ واجد الشیء لعرض وصفة ـ کما فی علم غیره تعالیٰ ـ وقد یطلق علیٰ واجدیة الشیء لنفسه وذاته ، کما فی علمه تعالیٰ .
وواجدیته تعالیٰ لـذاته أعلی مراتب الواجـدیة ؛ فإذن إطلاق العالم علیه تعالـی کإطلاقه علیٰ غیره ، بل إطلاقـه علیه تعالی أولیٰ مـن غیره ؛ لأنّه فوق الجواهر والأعراض .
وفیه : أنّ هذا أیضاً لا یصحّح المطلب ؛ لأنّه لـو تمّ ما ذکـره فإنّما هو أمر فلسفی ، غیر مربوط بمحیط العرف والعقلاء . والـذی یکون فی محیطهم هو أنّ الإطلاق فی جمیع الموارد بنحو واحد ، من دون أن یکون فرقاً بین حمل العالم وإطلاقه علیه تعالیٰ ، وبین حمله وإطلاقه علیٰ غیره تعالیٰ . ولازم ما ذکر هو وضع المشتقّ لمعنیً یأباه العرف والعقلاء .
وبالجملة : لو سلّم تصویر جامع بین واجدیة الشیء لعرض وصفة ولنفسه وذاته ، لکنّه خلاف متفاهم العرف والعقلاء فی إطلاقهم ، وخلاف المتبادر ؛ فإنّ المفهوم المتبادر من العالم هو معنیً واحد یختلف فی الانطباقات .
والتحقیق أن یقال ـ کما أشرنا إلیه ـ هو أنّ المتبادر من المشتقّ لیس إلاّ المعنون بعنوان المبدأ بما أنّه معنون . وأمّا کون المعنون عنواناً زائداً علی الذات أو عینها فغیر مربوط بمفهوم المشتقّ ، ولا یکون مدلولاً علیه للفظ المشتقّ ، وإنّما هو من خصوصیات المصادیق .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 103 نعم ، کیفیة التعنون إنّما یستفاد عند التحلیل والتجزئة العقلیة ، وذلک غیر مضرّ ببساطة المشتقّ .
ألا تریٰ أنّه یُعرف الکیف الموجود فی الخارج الذی یکون بسیطاً ـ کالبیاض مثلاً ـ بکثرات لا تکون داخلة فی ذاته ؛ فیقال بأنّه لون مفرّق للبصر ؟ ! بداهة أنّ اللونیة التی تکون بمنزلة الجنس مأخوذة فی تعریف البیاض ، ومع ذلک لاتکون موجودة فی الخارج ، ولا تحکی اللونیة عن غیر المفرّقیة للبصر .
بل هو کذلک فی المرکّبات التحلیلیة أیضاً ؛ لأنّ الهیولیٰ والصورة موجودتان بوجـود واحد ، ولا تحکی الجوهر المأخوذ فی تعریف شیء عن حقیقة نفس الأمریة غیر الجسمیة والنباتیة والحیوانیة والناطقیة ؛ لأنّ المادّة بحرکتها الجوهریة تکون عین الصورة التی تکون فی مرتبتها ومتّحدة بها .
فالتعبیر عن الجوهریة مع عدم وجودها منحازاً فی الخارج لأجل الحکایة عن تدرّج الوجود .
وکیف کان : لم یکن مفهوم المشتقّ معنیً مرکّباً . وما قلنا إنّه موجودان بوجود واحد إنّما هو فی مقام التحلیل والتجزئة . بل غایة ما یدلّ علیه لفظ المشتقّ هو تعنون الذات بالعنوان ، وأمّا کیفیة التعنون فلا .
وانسباق کون العنوان زائداً علیٰ ذاته من لفظ المشتقّ إنّما هو بلحاظ کثرة وجود هذا القسم فی الخارج وغلبة استعماله فیه .
ولعلّه لاُنس الذهن وقصور فهمهم عن إدراک الحقائق قال الله تعالیٰ : «أَفَلا یَنْظُرُون إلَی الإِبِلِ کَیْفَ خُلِقَتْ . . .» الآیة .
ولذا ورد النهی عن الخوض فی تلک الاُمور ؛ لأنّ تنزیه عامّة الناس لذاته المقدّسة نظیر تنزیه النملة ؛ حیث یری أنّ لربّها زبانیتین ؛ لأنّهما کمال له ، کما فی
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 104 الخبر . والتنزیه الکذائی یوجب الإلحاد ، فتدبّر .
فظهـر : أنّ المتبادر فـی أذهاننا مـن إطلاق العناوین الاشتقاقیة علیه تعالیٰ هـو المتبادر مـن إطلاقها علـی غیره تعالیٰ مـن حیث التعنون بالعنوان ، وأمّا کیفیة التعنون فلا .
هذا تمام الکلام فی المشتقّ ، وبه تمّ نطاق ما أفاده سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ فی مقدّمات علم الاُصول فی هذه الدورة . والحمد لله أوّلاً وآخراً .
فحان الشروع فیما هو المقصود من علم الاُصول فنقول ، وبالله الاستعانة :
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 105
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 106