الاستدلال علی لزوم الفحص بمعرضیة العامّ للتخصیص
إذا تمهّدت لک هذه الاُمور ، فالحقّ عدم جواز التمسّک قبل الفحص ، ووجهه ما أشار إلیه المحقّق الخراسانی قدس سره من أنّ معرضیة العامّ للتخصیص توجب سقوط احتجاجات العقلاء ، ولاأقلّ من الشکّ فی ذلک .
و توضیح ما أفاده قدس سره : أنّ الاحتجاج بأصالتی العموم والإطلاق وغیرهما من الاُصول والقواعد ، إنّما هو بعد طیّ مراحل :
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 434 الاُولی : إحراز کون المتکلّم فی مقام التفهیم .
الثانیة : وجود ظهور لکلامه عرفاً ولغة .
الثالثة : إحراز استعماله فی معناه الحقیقی أو الظاهر منه .
الرابعة : أنّه بعد تمامیة هذه الاُمور ، لابدّ من إثبات أنّ إرادته الجدّیة مطابقة لإرادته الاستعمالیة ، وهو العمدة فی الاحتجاج ، ولولاه لما صحّ الاحتجاج أصلاً ولو تمّت سائر الاُمور .
مثلاً : إنّما یصحّ الاحتجاج بقوله : «أکرم کلّ عالم» إذا اُحرز أنّ المتکلّم لم یتکلّم لقلقة للسانه ، بل لغرض التفهیم ، والأصل العقلائی علی إتیانه کذلک ، وبعد ثبوت ظهور للکلام واستعماله فی معناه الحقیقی لا الظاهری ، لابدّ وأن یحرز أنّ إرادته الجدّیة مطابقة لإرادته الاستعمالیة ، وإلاّ فلو احتمل عدم المطابقة ، لما صحّ الاحتجاج وإن کان ظهور الدلالة الاستعمالیة تامّاً .
و لا یخفی : أنّ إحراز التطابق لا یکون فی جمیع الموارد علی نَسَقٍ واحد ، بل یختلف باختلاف الموارد :
فإن کان المتکلّم من الموالی العرفیین مع عبیدهم ، أو من متعارف الناس مع مصاحبیهم ، فحیث إنّه لا یکون بناؤهم فی العمومات والمطلقات علی التعویل علی المخصّصات والمقیّدات المنفصلة ، ولو أرادوا التخصیص أو التقیید لوصلوه بالکلام ، فیصحّ إحراز التطابق بعد تمامیة کلام المتکلّم قبل الفحص ، فیصحّ العمل بالعمومات والمطلقات الکذائیة قبل الفحص عن مؤخّر ومقدّم .
وأمّا إذا کان المتکلّم ممّن یکون بناؤه علی التعویل فی العمومات والمطلقات علی ذکر المخصّصات والمقیّدات المنفصلة ـ کمحیط وضع القوانین ؛ عرفیة کانت ، أم شرعیة ، حیث جرت العادة فی محیط التقنین علی التفکیک بین العامّ ومخصّصه ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 435 والمطلق ومقیّده ، فربما یذکر العامّ مثلاً فی فصل ، وتذکر مخصّصاته تدریجاً فی فصول اُخر بعنوان التبصرة ، أو المادّة الواحدة ، ونحوهما ، أو فیکتاب آخر ـ فلا یکاد یحرز التطابق إلاّ بعد الفحص عن مظانّ المخصّصات والمقیّدات ؛ لمعرضیة العمومات والمطلقات للتقیید والتخصیص .
ولا ینکر التعویل فی وضع القوانین المتعارفة عند الاُمم الراقیة والمتمدّنة ، علی المخصّصات والمقیّدات المنفصلة ، وکذا العمومات والمطلقات الشرعیة ، فتری أنّه تعالی ذکر قوله : «أوْفُوا بِالْعُقُودِ» أو«أحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ» فی موضع ، وذکر مخصّصاته ومقیّداته فی مواضع اُخر ، ولذا اشتهر بینهم : «أنّه ما من عامّ إلاّ وقد خصّ» و«ما من مطلق إلاّ وقد قیّد» ومن سبر التأریخ ولاحظ حالات أصحاب أئمّة أهل البیت علیهم السلام ـ کزرارة ، ومحمّد بن مسلم ، ونظرائهما ـ یری أنّهم لم یکد یعملون بروایة بمجرّد سماعها ، بل یعرضونها علی الکتاب أو السنّة ، فإن خالفتهما أو أحدهما یطرحونها ، ولذا ورد عنهم علیهم السلام فی علاج الخبرین المتعارضین أو المتخالفین ما هو مذکور فی بابه .
وبالجملة : إنّ قیام عادة الشریعة القویمة علی التعویل فی العمومات والمطلقات علی المخصّصات والمقیّدات ، یوجب معرضیتهما لهما ، فلا یکاد تحرز أصالة تطابق الجدّ للاستعمال قبل الفحص عنهما فی مظانّهما ، فإن فحص بالمقدار اللازم فلم یظفر بالمخصّص أو المقیّد یصحّ الاحتجاج بالعموم أو الإطلاق .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 436 فظهر ممّا ذکرنا : أنّ لزوم الفحص لا یدور مدار العلم بوجود المخصّص أو المقیّد ، بل یدور مدار المعرضیة لهما ، فکلّ عامّ أو مطلق إذا کان معرضاً لهما ، لا یصحّ الاحتجاج به إلاّ بعد الفحص بمقدار یخرج عن المعرضیة ؛ حتّی وإن لم یعلم وجود مخصّص أو مقیّد فی البین .
وظهر أیضاً : أنّ الفحص هنا ـ نظیر الفحص فی الاُصول العملیة ـ من متمّمات الحجّیة ؛ لتوقّف الاحتجاج بأصالة العموم علی تمامیة اُمور ، منها إحراز تطابق الجدّ للاستعمال ، ولا یکاد یحرز ذلک فی محیط التقنین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 437