مختارنا فی عدم مجازیة العامّ المخصّص
وأمّا الذی اقتضاه النظر فی حلّ الشبهة ، فهو الذی سبق مفصّلاً .
وإجماله : أنّ المجاز لیس استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له ؛ لا فی باب الاستعارة ، ولا فی المجاز المرسل ؛ لأنّ المجاز من محسّنات الکلام ومن فنون البلاغة ، ولا حسن فی مجرّد استعمال اللفظ فی غیر ما وضع له والتلاعب باللفظ ، مثلاً استعمال لفظة «الأسد» الموضوع للحیوان المفترس فی الرجل الشجاع لا حسن له ، ولا یفید المبالغة ؛ بداهة أنّه لم تکن فی لفظة «الأسد» شجاعة ، فأیّ حسن فی مجرّد تغییر اللفظ وتبدیله بلفظ آخر ، کما هو واضح ، بل الشجاعة فی معنی الأسد ، کما یفهم ذلک من استعمال اللفظ فی معناه الموضوع له ، ثمّ تطبیق المعنی الحقیقی علی المورد ادعاءً ، ولذا
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 353 صحّ سلب المعنی الحقیقی وإثبات معنی آخر فی قوله تعالی فی قصّة یوسف علی نبینا وآله وعلیه السلام : «مَا هٰذَا بَشَراً إنْ هٰذَا إلاَّ مَلَکٌ کَرِیمٌ» کما لا یخفی علی من له إلمام بالمحسّنات الکلامیة .
وبالجملة : البلاغة تقتضی أن یکون اللفظ مستعملاً فی معناه الحقیقی ، ثمّ تطبیقه علی المورد ادعاءً ، فالتلاعب إذن فی المعنی .
ومن المعلوم بالبداهة : أنّ باب العامّ والخاصّ وباب المطلق والمقیّد غیر باب الادعاء والتطبیق ، أتری من نفسک أنّ فی قوله تعالی :«أوْفُوا بِالْعُقُودِ» بعد تخصیصه بالعقود الربویة مثلاً ادعاء أنّ العقود غیر الربویة هی عقود حقیقة ، والعقود الربویة لیست عقوداً حقیقة؟! وکذا یکون فی قوله تعالی :«أحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ» ـ بعد طروّ التقیید علیه ـ ادعاء أنّ المطلق هو المقیّد؟! کلاّ ، ما هکذا الظنّ بک .
نعم ، لابدّ أن یکون من باب الادعاء قوله تعالی :«إنَّ إبْرَاهِیمَ کَانَ اُمَّةً» لأنّ المقام یناسب دعوی عدم کون إبراهیم علیه السلام ـ لجلالة قدره وعظم منزلته ـ من آحاد الاُمّة وأفرادها ، بل هو تمام الاُمّة ، فتدبّر .
ومن هذا القبیل قول أبی العلاء المعرّی فی مدح سیّدنا الأجلّ المرتضی قدس سره :
لو جئته لوجدت الناس فی رجل
والدهر فی ساعة والأرض فی دار
کأنّه ادعی أنّ السیّد المرتضی یجمع الصفات والکمالات البشریة ؛ بحیث من وجده ورآه فکأنّه رأی ووجد جمیع الناس .
وبالجملة : محیط وضع القوانین وتعیین التکالیف علی العباد ، غیر باب الادعاء
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 354 والمجازیة حتّی یتشبّث بهذه الذوقیات . نعم ربما یکون فی جعل القانون ادعاء ، ولکنّه خلاف الأصل والقاعدة ، فلابدّ من قرینة جلیّة علیه .
وعلیه فألفاظ العموم والإطلاق لم تستعمل فی معناهما المجازی ؛ بدعوی تطبیقه علی ما بقی من العامّ والمقیّد ، لعدم ادعاء فی البین ، واستعمال اللفظ الموضوع لمعنی وتطبیقه علی غیر ما وضع له بدون الادعاء والتنزیل ، غلط .
فانقدح بما ذکرنا : أنّه لا وجه لتوهّم المجازیة فی الباب ، فما یستشمّ من المحقّق الخراسانی قدس سره من احتمال المجازیة ـ وإن صرّح بعدم المجازیة ـ غیر وجیه ؛ لأنّ من المقطوع به عدم المجازیة .
ولا یخفی : أنّ ما ذکرناه غیر مختصّ بعموم الکتاب والسنّة ومطلقهما ، بل جارٍ فی القوانین الموضوعة فی الاُمم الراقیة المتمدّنة وغیرها ، فإنّهم یضعون قانوناً بصورة العموم والإطلاق أوّلاً ، ثمّ یعقّبونه بذکر المخصّصات والمقیّدات بصورة مادّة واحدة ، أو التبصرة ، أو نحوهما .
إن قلت : فما الفائدة فی ذکر الشیء أوّلاً بصورة العموم والإطلاق ، ثمّ تعقیبه بالمخصّص والمقیّد ، فلیلقَ أوّلاً مخصّصاً ومقیّداً؟!
قلت : له مصالح لا تخفی علی من له إلمام بوضع القوانین ، ولعلّ منها جواز التمسّک بالعامّ فی الموارد المشکوکة ، فتأمّل .
إذا تمهّد لک ما ذکرنا فنقول : إنّه استعمل کلّ من ألفاظ «أوْفُوا بِالْعُقُودِ» مثلاً فی معناها ، سواء طرأ علیه التخصیص أو لا ، والتخصیص لا یوجب تغییراً فی ناحیة الاستعمال ، بل غایة ما یقتضیه التخصیص هو التبعّض فی الإرادة الجدّیة ؛ بمعنی أنّه لم یرد الشارع جدّاً لزوم الوفاء بالعقد الربوی ، مع استعمال جمیع ألفاظه فیما وضع له ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 355 ولم یکن البعث المستفاد من الهیئة فی مورد التخصیص ، بداعی الانبعاث حقیقة ، بل بداعٍ آخر ؛ وهو إعطاء الضابطة والقاعدة لیتمسّک بها فی الموارد المشکوکة ، فالإرادة الاستعمالیة ـ وهی إرادة استعمال اللفظ فی المعنی العامّ ؛ أی إرادة الانبعاث بکلّ عقد ـ قد تطابقت مع الإرادة الجدّیة ، وذلک فیما إذا لم یطرأ علیه التخصیص ، وأمّا فیما طرأ علیه التخصیص فلم یکد یتعلّق البعث بداعی الانبعاث فی مورد التخصیص .
فظهر : أنّ حدیث المجازیة فی التخصیص أو التقیید ، ساقط من رأسه ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 356