حول دعوی أبی حنیفة والشیبانی دلالة النهی علی الصحّة
حکی عن أبی حنیفة وتلمیذه محمّد بن الحسن الشیبانی : أنّ النهی عن شیء ـ معاملة کان أو عبادة ـ یدلّ علی الصحّة ؛ لأنّ النهی عبارة عن المنع والزجر عن إیجاد شیء فی الخارج ، فلابدّ وأن یکون متعلّقه مقدوراً للمکلّف ، وإلاّ إذا لم یکن تحت اختیاره فلا یکاد یتعلّق به النهی ، لأنّه متروک قهراً ، کما لا یصحّ تعلّق الأمر إلاّ بما یکون مقدوراً له .
وبالجملة : الأمر والنهی یردان علی أحد طرفی المقدور ؛ من الفعل أو الترک ، فلو اقتضی النهی فساد متعلّقه ، لاقتضی سلب قدرة المکلّف ، وعند ذلک یکون متروکاً قهراً لا یحتاج إلی النهی ، فالنهی عن شیء یلازم عقلاً صحّة تحقّق متعلّقه ؛ وأنّه ممّا یمکن تحقّقه ، وإلاّ لما کان لتعلّق النهی به وجه .
وبعبارة اُخری : کلّ حکم تکلیفی لا یتعلّق إلاّ بما هو مقدور للمکلّف ؛ بحیث یکون کلّ من طرفی الفعل والترک تحت قدرته ، وعلی هذا فمتعلّق النهی ـ کمتعلّق الأمر ـ لابدّ وأن یکون مقدوراً ، ولذا لا یمکن النهی عن الطیران فی الهواء ؛ لعدم قدرة المکلّف علیه ، ولا یکون متعلّق النهی مقدوراً إلاّ إذا کان بجمیع أجزائه وشروطه مقدوراً له ، کما هو الشأن فی متعلّق الأمر ، فلو خالف المکلّف وأتی بالمنهی عنه بجمیع أجزائه وشروطه ، لترتّب علیه الأثر بالضرورة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 183 ثمّ إنّ ظاهر استدلالهما ، یدلّ علی أنّ مرادهما إثبات الملازمة العقلیة بین النهی والصحّة ، لا الدلالة العرفیة اللفظیة . کما أنّ الظاهر أنّ مرادهما من «النهی» النهی التحریمی المولوی ، لا النهی الإرشادی ؛ بقرینة أخذ القدرة فی المتعلّق . ولا ینافی هذا ما ذکرناه من ظهور النهی ـ إذا لم یحرز کونه من أیّ قسم من النواهی ـ فی الإرشاد إلی متعلّقه ؛ عبادة کان أو معاملة .
وبالجملة : ظاهر مقالهما هو أنّه فی النهی المحرز کونه تحریمیاً إذا تعلّق بعبادة أو معاملـة فلازم ذلک عقـلاً صحّـة متعلّقـه ، ولا ینافـی هـذا ما ذکرناه مـن ظهور النهی ـ إذا لم یحرز کونه من أیّ قسم من النواهی ـ فی الإرشاد إلی متعلّقه ؛ عبادة کانت أو معاملة .
فحاصل مقالهما : هو أنّه إذا تعلّق نهی تحریمی مولوی بعبادة أو معاملة ، فلازمه العقلی صحّة متعلّقه وکونه مقدوراً للمکلّف .
واُجیب عن مقالهما بوجوه کلّها خارجة عن موضوع بحثهما :
فمنها : ما ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره وحاصله : أنّ التحقیق أنّ دلالة النهی علی الفساد إنّما تکون ، إذا کان النهی عن المعاملة بمعنی النهی عن المسبّب أو التسبیب ، وأمّا إذا کان النهی عن السبب فلا ، وعلّل قدس سره ذلک بأنّه إذا تعلّق النهی بالمسبّب ـ کالنهی عن بیع المصحف من الکافر مثلاً ـ ولم یکن قادراً علی التکلیف ، لما صحّ النهی عنه .
وبالجملة : أمر المسبّب دائر بین الوجود والعدم ، فإن لم یکن قادراً علیه لم یکد یتعلّق به النهی .
وکذا لو تعلّق النهی بالتسبیب بالسبب ، کالظهار ، فإنّ التسبّب به إلی التفریق بین الزوجین مبغوض ، بخلاف التسبّب بالطلاق ، فإذا لم یترتّب الفراق علی الظهار
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 184 کان النهی عن الظهار لغواً ، فلا محیص من دلالة النهی عن المعاملة فی الموردین علی کونها صحیحة .
وأمّا إذا تعلّق النهی بالسبب لا بما هو سبب فعلی ، بل بذات السبب بما أنّه ألفاظ خاصّة ، فلا یدلّ النهی علی الصحّة ؛ لأنّ ألفاظ المعاملة قد تقع صحیحة ، وقد تقع باطلة .
وبالجملة : المنهی عنه علی هذا ، إیجاد ذات السبب مع قطع النظر عن سببیته وتأثیره فی المسبّب ، وهو مقدور له وإن لم یترتّب علیه الأثر .
وأنت خبیر : بأنّ مورد نظر أبی حنیفة والشیبانی ، المعاملة العقلائیة الدارجة التی یتوقّع ترتّب المسبّب علیها لو لا نهی الشارع عنها ، لا نفس السبب بما هو فعل مباشری ؛ لعدم کون ألفاظ «بعت» و«قبلت» مثلاً ـ من حیث هی ـ معاملةً حتّی تکون متعلّقة للنهی ، فلیس المحقّق الخراسانی مفصّلاً بین تعلّق النهی بسبب المعاملة ، فلا یقتضی الصحّة ، وبین تعلّقه بالمسبّب أو التسبّب بالسبب ، فیقتضی الصحّة ، فهو قدس سره فی الحقیقة ـ مصدّق بمقالهما فی تعلّق النهی بالمعاملة ، فتدبّر .
ومنها : ما أفاده المحقّق الأصفهانی قدس سره وحاصل ما ذکره : أنّه إذا تعلّق النهی بذات العقد الإنشائی ، وإن کان مقتضاه مقدوریته للمکلّف بذاته ، إلاّ أنّه لا ربط له بمقدوریته من حیث هو مؤثّر فعلی ، فتعلّق النهی بذات العقد الإنشائی ، لا یلازم صحّته ونفوذه .
وإذا تعلّق النهی بالإیجاد السببی للملکیة الذی هو عین وجود الملکیة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 185 بالذات وغیره بالاعتبار ، فالنهی وإن دلّ علی مقدوریته من حیث هو مؤثّر فعلی ، ولکن أمر الملکیة دائر بین الوجود والعدم ، فلا یتصف بالصحّة ؛ لأنّ وجود الملکیة لیس أثراً حتّی یتصف بلحاظه بالصحّة ؛ لما عرفت من حدیث العینیة ، والشیء لا یکون أثراً لنفسه .
وأمّا الأحکام المترتّبة علی الملکیة فنسبتها إلیها نسبة الحکم إلی الموضوع ، لا نسبة المسبّب إلی السبب لیتصف بلحاظه بالصحّة .
فتحصّل : أنّ ما یکون تحت الاختیار ـ وهو إیجاد الملکیة ـ أمره دائر بین الوجود والعدم ، لا یتصف بالصحّة والفساد ؛ لأنّ وجودها لیس إثراً له ، بل هو نفسه ، وما لا یکون تحت الاختیار ـ وهو الأحکام والآثار المترتّبة علی الملکیة ـ یتصف بالصحّة ، إلاّ أنّ نسبتها إلیها نسبة الحکم إلی الموضوع ، لا نسبة المسبّب إلی سببه لیتصف بلحاظه بالنفوذ والصحّة ، فقول أبی حنیفة والشیبانی ساقط علی جمیع التقادیر .
وفیه : أنّه یتوجّه علی ما ذکره أوّلاً ، ما توجّه علی اُستاذه المحقّق الخراسانی قدس سره وهو أنّ مورد نظرهما المعاملة العقلائیة ؛ أی العقد المتوقّع ترتّب الأثر والمسبّب علیه لولا نهی الشارع عنه ، لا نفس السبب بما أنّه فعل مباشری ، فما أورده أوّلاً خارج عن محطّ نظرهما .
ثمّ إنّ نظرهما لیس إلی اتصاف إیجاد الملکیة بالصحّة حتّی یورد علیهما ما ذکره ، بل المراد أنّ النهی حیث یدلّ علی مقدوریة متعلّقه ، فالنهی یتعلّق بما تکون له سببیة فعلیة ؛ وهی إیجاد المعاملة السببیة بما هی سبب ، ومن المعلوم أنّها تتصف بالصحّة والفساد ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 186 ولو سلّم تعلّق النهی بإیجاد الملکیة ، فلا محالة یکون إیجادها مقدوراً له ، کما اعترف قدس سره به أیضاً ، وهو کاشف عن صحّة المعاملة ، لا عن صحّة الإیجاد حتّی یقال : إنّه لا یتّصف بها .
ومنها : ما أورده المحقّق النائینی قدس سره علی مقالهما فی المعاملة ، فقال ما حاصله : أنّ متعلّق النهی فی المعاملة ، المبادلة التی یتعاطاها العرف وما هی بیدهم ، لا المبادلة الصحیحة والواقعیة ، ومن المعلوم أنّ المبادلة العرفیة مقدورة للمکلّف ولو بعد النهی الشرعی ، کما هو المشاهد ، فإنّ بائع الخمر مع علمه بالفساد والنهی الشرعی ، یبیع الخمر حقیقة وبقصد المبادلة ، کما یقصد ذلک عند عدم علمه بالفساد ، بل مع علمه بالصحّة ، وکذا سائر المبادلات العرفیة المنهی عنها ، فإنّ جمیعها مقدورة وممّا یتعلّق بها القصد حقیقة ، والنهی الشرعی یوجب فسادها ؛ أی عدم تحقّقها خارجاً شرعاً وإن تحقّقت عرفاً ، فدعوی أنّ النهی عن المعاملة یقتضی الصحّة ، ضعیفة جدّاً .
وفیه : أنّ ما أفاده قدس سره صحیح لو کان نظرهما فی متعلّق النهی عن المعاملة ، المبادلة بالمعنی الأعمّ ، وأمّا إن أرادا أنّ متعلّق النهی المعاملة الواقعیة الشرعیة ؛ وأنّ ألفاظ المعاملات لها نحو سببیة للمبادلات الصحیحة ـ بدعوی أنّ النهی عمّا لم تکن له سببیة فعلیة للمعاملة ، لا معنی له ـ فالنهی عنها یقتضی صحّتها ، والظاهر أنّ محطّ نظرهما هو الثانی ، فما أفاده قدس سره تأویل لمقالهما .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ ما ذکروه فی ردّ مقال أبی حنیفة والشیبانی ، کأنّه خارج عمّا هما بصدده .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 187 ولا یبعد أن یقال بصحّة مقالهما فی المعاملة ؛ وأنّ النهی عن المعاملة یدلّ علی الصحّة بعد إحراز کون النهی نهیاً تکلیفیاً عن المعاملة الواقعیة الاعتباریة ، لا إرشادیاً ، وإلاّ فظهوره فی الفساد لا ینبغی أن ینکر .
هذا کلّه بالنسبة إلی مقال أبی حنیفة والشیبانی فی النهی المتعلّق بالمعاملة .
وأمّا النهی المتعلّق بالعبادة ، فلا محصّل لمقالهما ؛ وذلک لأنّه یعتبر فی العبادة أن لا یکون المأتی به منهیاً عنه ومبغوضاً ، وواضح أنّه بمجرّد النهی عن عبادة یستکشف مبغوضیتها ، وعدم الأمر بها ، وعدم الملاک فیها ؛ لعدم صحّة تعلّق الأمر والنهی بشیء واحد ، ولا یکاد یمکن أن یکون شیء واحد حاملاً لملاک الصحّة والفساد ، فنفس تعلّق النهی بعبادة یسلب القدرة عن العبد .
لا یقال : فلیکن متعلّق العبادة العبادَة الفعلیة ، کما استظهر ذلک فی تعلّق النهی بالمعاملة ، وحینئذٍ فالنهی عنها یقتضی صحّتها ؛ للملازمة العقلیة المدّعاة فی تعلّق النهی بالمعاملة .
لأنّا نقول : إنّ تعلّق النهی بالمعاملة أو العبادة ، کان ظاهراً فی کون متعلّقه المعاملة الفعلیة والعبادة الفعلیة ، ولا یصار إلی خلاف ذلک مهما أمکن إلاّ إذا کان دلیل
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 188 علی عدم إمکان إرادة الفعلیة منهما ، فعند ذلک ترفع الید عن هذا الظهور ، ومن الواضح أنّه لا دلیل ولا موجب لارتکاب خلاف الظاهر فی تعلّق النهی بالمعاملة بعد إمکان إرادة المعاملة الفعلیة ، کما أشرنا إلیه ، وأمّا فی العبادة فیمتنع تعلّق النهی بما یکون عبادة فعلیة ؛ ضرورة امتناع کون شیء واحد ـ بحیثیة واحدة ـ محبوباً ومبغوضاً ، ذا صلاح وفساد ، کما لا یخفی ، وحیث إنّه لا یمکن إنکار الملازمة الفعلیة بین النهی وصحّة تحقّق متعلّقه ، فلابدّ من تأویل العبادة الواقعة فی متعلّق النهی ؛ بأن یراد بها ما تکون عبادة لولا النهی .
فتحصّل : أنّ ما ذکراه ـ من اقتضاء النهی صحّة متعلّقه ـ إنّما یتمّ فی النهی المتعلّق بالمعاملة ، وأمّا النهی المتعلّق بالعبادة فلا ، بل یقتضی الفساد .
هذا کلّه فی المقام الأوّل ؛ أی مقتضی تعلّق النهی بأقسامه بذات المعاملة ، أو العبادة ، أو بجزئهما ، أو بشرطهما ، أو بوصفهما .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 189