الفصل الثانی فی منشأ الفرق بین مُرادَی الأمر والنهی
لاریب ولا إشکال فی أنّه إذا نهیٰ المولیٰ عن طبیعة، فالمراد الزجر عن جمیع أفرادها عند العرف والعقلاء، فلابدّ أن یترک المکلّف جمیع الأفراد، ولو أمر بها کفیٰ فی الامتثال إیجاد فرد منها.
ولا إشکال فی ذلک فی المُتفاهَم العرفیّ، وإنّما الإشکال فی منشأ ذلک وأنّه هل هو بحکم العقل ـ أی البرهان العقلیّ ـ أو أنّه مقتضیٰ اللغة ومدلول اللفظ أو أنّه بحسب المتفاهم العرفیّ .
قد یقال : إنّه مُقتضیٰ حکم العقل ـ کما اختاره فی «الکفایة» ـ لأنّه یصدق إیجاد الطبیعة بإیجاد فرد منها؛ لأنّها عین الفرد فی الخارج، فإذا أتیٰ به فقد أتیٰ بتمام المطلوب، فیتحقّق الامتثال فیما لو أمر بها، وأمّا فی صورة النهی عنها فلأنّ المفروض أنّها تصدق بإیجاد فرد منها، فلو ترک فرداً منها وأوجد الآخر، فانتفاء الطبیعة وإن یصدق بترک فرد، لکن یصدق إیجادها بفرد آخر منها، فهی موجودة، فیلزم أن تکون موجودة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 197 ومعدومة معاً، وهو محال، فهی موجودة ـ حینئذٍ ـ فلا یتحقّق الامتثال.
لکن هذا الاستدلال فاسد؛ لأنّ کلّ فرد من أفراد طبیعة ـ تمامها فی الخارج ـ یتکثّر وجودها فی الخارج بعدد الأفراد، لا أنّ حصّة منها موجودة فی ضمن فرد، وحصّة اُخریٰ منها فی فرد آخر، وحینئذٍ فکما أنّه إذا أوجد فرداً من الطبیعة فقد أوجدها، کذلک إذا ترک فرداً منها فقد ترکها؛ لعدم الفرق فی ذلک بعدما فرض أنّ الطبیعة عین کلّ فرد فی الخارج فالبرهان العقلیّ قائم علیٰ خلاف ما ذکره.
وأمّا دلالة النهی علیٰ ذلک فهی ـ أیضاً ـ ممنوعة، فإنّ المادّة موضوعة للطبیعة المجرّدة، والهیئة موضوعة للزجر عنها، ولیس للمجموع من حیث المجموع وضع آخر نوعیّ.
وأمّا احتمال أنّ وضع المادّة فی النهی غیر وضعها فی الأمر فهو کما تریٰ، وکذلک احتمال أنّ استعمال صیغة النهی ـ مثل «لا تضرب» ـ فی نفی جمیع أفرادها بنحو المجازیّة لعلاقة نوعیّة.
وحینئذٍ فانحصر القول بأنّ ذلک حکم عرفیّ عقلائیّ، لا عقلیّ؛ فإنّ مقتضیٰ الحکم العقلیّ الدِّقّی : هو أنّ الطبیعة توجد بإیجاد فرد منها، وتنعدم بإعدام فرد منها؛ لأنّه مُقتضیٰ کون الطبیعة عین الأفراد فی الخارج، وأنّها تتکثّر بتکثّرها، ولا یصحّ أن یقال: إنّ بناء العقلاء علیٰ ما ذکر إنّما هو لأجل أنّ وجود الطبیعة إنّما هو بوجود فرد منها، وانعدامها بإعدام جمیع أفرادها وانتفائها، فإنّه ـ أیضاً ـ لا یستقیم؛ لأنّ مقتضیٰ حکم العقلاء هو ـ أنّه إذا أتیٰ بالمنهیّ عنه مراراً، استحقّ العقوبة بعدد الأفراد التی ارتکبها، وأنّه لو اتّفق أنّه حصّل مقدّمات ارتکابه، لکن لم یرتکبها أصلاً عدّ ذلک طاعة عندهم، ولو تکرّر ذلک ولم یرتکبها عُدَّ ذلک إطاعات، وأنّه لو أتیٰ بفرد منها فالنهی باقٍ بحاله بالنسبة إلیٰ سائر الأفراد، وهذا منافٍ للحکم بأنّ انتفاء الطبیعة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 198 بانتفاء جمیع الأفراد فقط؛ لأنّ مقتضاه أنّ ترک جمیع الأفراد إطاعة واحدة.
وذکر بعض الأعاظم فی المقام ما حاصله : أنّ المُنشَأ فی النهی هی طبیعة الطلب المتعلّق بطبیعة ترک شرب الخمر ـ مثلاً ـ فی «لا تشرب الخمر»، لا شخص خاصّ من الطلب، وطبیعة الطلب بنفسها متکثّرة فی الخارج بتکثّر الأفراد، فلکلّ فرد من المنهیّ عنه فرد من الطلب، فلذلک بنیٰ العقلاء علیٰ أنّ الإتیان بالأفراد المُتعدّدة للطبیعة المنهیّ عنها، هو عصیانات متعدّدة، وأنّ الإطاعة لا تحصل إلاّ بإعدام جمیع أفرادها انتهیٰ خلاصة کلامه قدس سره.
وفیه : أنّه لابدّ فی المقام من ملاحظة القواعد اللّغویّة أیضاً، وما ذکره قدس سره لا ینطبق علیها، فإنّه لو کان المُنشَأ فی النواهی هو طبیعة الطلب وسنخه، فلِمَ لایقولون به فی الأوامر؛ ضرورة أنّ مادّتهما واحدة؟!
وإن أراد أنّ النهی متعلّق بالأفراد بنحو الاستغراق ـ کما ذهب إلیه المیرزا النائینی قدس سرهـ فهو أیضاً غیر مستقیم إلاّ بنحو المجازیّة فی الاستعمال، ولا یلتزم به هو قدس سره.
وقال بعضٌ آخر : إنّ النهی لیس طلباً مثل الأمر، بل هو عبارة عن الزجر عن متعلَّقه، وأنّ انتفاء الطبیعة بانتفاء جمیع الأفراد من الأحکام العقلائیّة، ولعلّه لأجل أنّ الأمر والنهی لا یسقطان بالعصیان، بل سقوطهما إمّا بالإطاعة، أو بانتفاء الموضوع، أو بموت المکلّف، وأمّا العصیان فهو لیس مُسقطاً له، بل التکلیف معه ـ أیضاً ـ باقٍ بحاله بارتکاب فرد من الطبیعة المنهیّ عنها. انتهیٰ ملخّصه.
وفیه : أنّه قد یسقط التکلیف بالعصیان ـ أیضاً ـ بارتکاب فرد من الطبیعة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 199 المنهیّ عنها، کما إذا نهیٰ عن صِرف وجودها؛ أی أوّل فرد یتحقّق، فإنّ باقی الأفراد ـ حینئذٍ ـ لیست منهیّاً عنها، فبإیجاد الفرد الأوّل یسقط التکلیف.
وأمّا ما أفاده فی «الکفایة» : من أنّه یمکن التمسُّک بإطلاق المتعلَّق علیٰ أنّ المراد ترک جمیع الأفراد من هذه الجهة.
ففیه : أنّه إن أراد من إطلاق المتعلَّق من هذه الجهة أنّه لاحظ التسویة بین الأفراد، وأنّه قال ـ مثلاً ـ : «لا تشرب الخمر سواء ارتکبته مرّة أو أکثر أم لا»، ففیه ـ مع أنّ الإطلاق اللحاظی غیر متحقّق ـ أنّ ذلک لیس هو من الإطلاق، بل هوعموم.
وإن أراد بالإطلاق عدم اللحاظ فلیس ذلک من حالات المتعلّق، بل هو من حالات المکلّف.
وأمّا ما یقال : من أنّه إذا فُرض أنّ المفسدة ثابتة فی کلّ فرد من أفراد الطبیعة، فالنهی عنها متوجِّه إلیٰ جمیع الأفراد بنحو الاستغراق، وأنّ المرادَ من «لاتشرب الخمر» الزجرُ عن جمیعها بنحو الاستغراق، فهو قرینة عامّة فی سائر النواهی أیضاً، ولذلک یحکم العرف والعقلاء بذلک أیضاً.
ففیه أیضاً : أنّه إن اُرید أنّ المادّة موضوعة للطبیعة المجرّدة، ومستعملة فیها أیضاً، لکنّها جعلت حاکیة عن خصوصیّات الأفراد، فهو محال؛ لأنّ الطبیعة المطلقة ـ بما هی کذلک ـ مباینة لخصوصیّات الأفراد، فکیف یمکن حکایتها عنها، وإن اتّحدت مع الأفراد فی الخارج، بل هی عینها فیه؟! فإنّ اتّحادَ الطبیعة مع الأفراد فی الخارج، وأنّ کلَّ فردٍ منها تمام الطبیعة، مسألةٌ، وحکایةُ اللفظ الموضوع لها مجرّدة عن خُصوصیّات الأفراد مسألةٌ اُخریٰ، والاُولیٰ مُسلَّمة، والثانیة ممنوعة.
مضافاً إلیٰ أنّه لا فرق بین الأمر والنهی فی أنّ متعلّق کلّ واحدٍ منهما شیء
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 200 واحد، والهیئة ولفظ «لا» الناهیة ـ أیضاً ـ موضوعة للدلالة علیٰ الزجر، فلِمَ لا یلتزم بذلک فی الأمر؟!
وإن اُرید أنّ المادّة الموضوعة للطبیعة مستعملة فی جمیع الأفراد مجازاً لمناسبة اتّحادها مع الأفراد فی الخارج.
ففیه : أنّ المفهوم من لفظة «لا تضرب» ـ مثلاً ـ غیر ذلک عرفاً، مضافاً إلیٰ أنّه لا مناسبة ولا علاقة بین نفس الطبیعة وخصوصیّات الأفراد لتستعمل فیها مجازاً.
وبالجملة : ما ذکره ـ من أنّ النهی هو الزجر عن کلّ فردٍ فرد من أفراد الطبیعة ـ لا یساعده العُرف ولا العقل ولا اللغة.
وغایة ما یمکن أن یقال فی المقام : هو أنّ المادّة المتعلّقة للنهی وإن کانت بعینها التی تقع هی متعلَّقة للأمر ـ أیضاً ـ فی مثل «إضرب» و «لا تضرب»، وأنّه لا فرق بین مادّتها فی الوضع والدلالة، لکن الفرق إنّما هو بین نفس الأمر والنهی، فإنّ الأمر حیث إنّه بعث إلیٰ الطبیعة، وأنّ الطبیعة تتحقّق بوجود فرد منها، فإذا أتیٰ المکلّف بفرد منها کان مطیعاً عند العرف والعقلاء؛ لإیجاده تمام الطبیعة ـ حینئذٍ ـ فیسقط الأمر، بخلاف النهی؛ حیث إنّه زجر عن الطبیعة، فإذا حصلت مقدّمات ارتکابها، ولم یمنعه مانع عنه، فانتهیٰ وانزجر عن جمیع أفرادها، عُدّ فی العرف مطیعاً، وهکذا لو اتّفق ذلک مکرّراً یُعدّ مُطیعاً بعدد کفّ نفسه عنها مرّاتٍ عدیدة عرفاً کذلک، وأنّه لا یسقط النهی عندهم بارتکاب فرد منها بنحو العصیان، بل هو باقٍ بحاله، وأنّه لو ارتکبها مرّات، وأتیٰ بأفراد منها، یعدّ ذلک عصیانات بعدد الأفراد المأتیّ بها، فتأمّل فی المقام.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 201
کتابتنقیح الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 202