أقسام الاضطرار
وتفصیل الکلام فی صورة عروض الاضطرار هو أنّه إمّا یتحقّق الاضطرار قبل توجّه التکلیف وقبل العلم به، کما لو اضطرّ إلی شرب أحد الإناءین، ثمّ تعلّق التکلیف، ثمّ حصل العلم الإجمالی بحرمة أحدهما.
أو یتحقّق الاضطرار بعد تعلّق التکلیف وقبل حصول العلم به، أو یتقدّم التکلیف علی العلم به، ثمّ یعرض الاضطرار.
ویمکن تصوّر أقسام اُخر کتقدّم الاثنین منها علی الآخر، وتأخّرهما.
وعلی أیّ تقدیر ، قد یعرض الاضطرار علی ارتکاب طرف معیّن من الأطراف، أو علی أحد الأطراف لا بعینه.
وعلی أیّ حال الاضطرار إمّا عقلیّ، فیبحث فیه عن حکم العقل حینئذٍ، وإمّا عادیّ وعرفیّ، فیبحث حینئذٍ عن حکمه الشرعی، مثل قوله علیه السلام: (رُفع ما اضطُرّوا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 404 إلیه) ونحوه.
فهذه أقسام الاضطرار إلی ارتکاب بعض الأطراف نذکر حکم بعضها، ویظهر منه حکم الباقی.
فنقول : أمّا لو اضطرّ إلی ارتکاب أحد الأطراف بعینه ـ کشرب ماء هذا الإناء ـ ثمّ علم إمّا بنجاسته، أو نجاسة إناء آخر، فالحقّ فیه عدم وجوب الاجتناب عن الإناء الآخر أیضاً؛ سواء قلنا بسقوط التکالیف الشرعیّة فی موارد الأعذار عن الفعلیّة ـ کما هو مذهب القوم ـ أم قلنا : بأنّها فعلیّة باقیة علی فعلیتها، کما فی صورة عدم العذر، غایة الأمر أنّه معذور فی مخالفة ذلک الحکم الفعلیّ وغیر معاقب علیه؛ لمکان العذر.
أمّا علی الأوّل فواضح؛ لأنّه لا یعلم حینئذٍ بتکلیف فعلیٍّ فی البین، فلیس علیه حجّة.
وأمّا علی الثانی المختار فیمکن أن یقال بلزوم الاجتناب والاحتیاط بمراعاة الطرف الآخر، ووجوب الاجتناب علیه لأنّ المفروض أنّ التکلیف فعلیّ علی أیّ تقدیر، حتّی بالنسبة إلی الطرف المضطرّ إلیه، غایة الأمر أنّه لو کان فی هذا الطرف فهو معذور فی مخالفته، لکنّه لیس معذوراً علی فرض وجوده فی الطرف الآخر الغیر المضطرّ إلیه، فلا مؤمّن من العقوبة بالنسبة إلیه، کما لو عجز عن موافقة بعض الأطراف، فإنّ عدم القدرة فی طرف لیست عذراً فی غیره من الأطراف.
وفیه : أنّ هذا إنّما یتمّ فیما لو شکّ فی أصل القدرة والعذر، وأمّا لو علم بعدم القدرة أو العذر فلا، وما نحن فیه کذلک، فإنّ المفروض أنّ المکلّف مضطرّ إلی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 405 ارتکاب أحد الأطراف بعینه، وأنّه علی فرض کون المکلّف به هو ذلک المضطرّ إلیه، لا یصحّ للمولی الاحتجاج به والعقاب علیه، فمرجع الشکّ فی المقام إلی الشکّ فی وجود حکمٍ فعلیٍّ صالحٍ للاحتجاج به علی العبد، ولا یکفی مجرّد العلم بفعلیّة التکلیف ما لم یصلح للاحتجاج به، ولا یعلم فیما نحن فیه بصلاحیّته للاحتجاج به؛ للعلم التفصیلی بعدم صلاحیّته له لو کان متعلّقاً بهذا الطرف المضطرّ إلیه، والمفروض احتمال ذلک.
هذا کلّه فیما لو اضطرّ إلیه قبل التکلیف والعلم به.
وأمّا لو اضطرّ إلی البعض المعیّن بعد تعلُّق التکلیف وقبل العلم به، أو اضطرّ إلیه مقارناً للعلم بالتکلیف، فالحکم فیه کما فی الصورة الاُولی.
ولو اضطرّ إلی أحد الأطراف بعینه بعد العلم بالتکلیف؛ بأن علم بأنّ أحد هذین الإناءین نجس، ثمّ اضطرّ إلی شرب أحدهما المعیّن، فالحقّ فیه وجوب الاحتیاط والاجتناب عن الآخر؛ لأنّ المفروض تنجُّز التکلیف علیه: بالعلم به قبل عروض الاضطرار وبعد عروضه یسقط وجوب الموافقة القطعیّة، وأمّا جواز المخالفة القطعیّة فلا وجه له، فلابدّ من مراعاة التکلیف فی الطرف الآخر.
وبالجملة : مجرّد الشکّ فی أنّ المضطرّ إلیه هو المکلّف به أولا، کافٍ فی لزوم مراعاة الطرف الآخر واجتنابه، لا لأجل الاستصحاب، بل لأجل عدم العذر بالنسبة إلی الطرف الآخر لو کان هو المکلّف به واقعاً.
وهذا نظیر فقْدِ بعض الأطراف بعد العلم بالتکلیف، فإنّه لا إشکال فی وجوب الاجتناب عن الباقی وأمّا لو اضطُرّ إلی ارتکاب أحد الأطراف لا بعینه؛ بأن اضطُرّ إلی شرب أحد الإناءین اللَّذینِ عُلم بنجاسة أحدهما، فالحقّ فیه وجوب الاجتناب عن باقی الأطراف مطلقاً ـ سواء کان الاضطرار بعد العلم بالتکلیف، أم قبله ـ عقلاً وشرعاً؛ وذلک لأنّ المجوِّز لارتکاب باقی الأطراف أحد اُمور ثلاثة :
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 406 الأوّل : أن یوجب الاضطرار رفع التکلیف وسقوطه بالکلّیّة.
الثانی : أن یمنع عن فعلیّته .
الثالث : أن یوجب سقوطه عن الصلاحیّة للاحتجاج به علی العبد.
والاضطرار إلی البعض الغیر المعیّن لایوجب شیئاً من هذه الاُمور، والسرّ فیه عدم تعلّق الاضطرار بخصوص ما تعلّق به التکلیف؛ لأنّ المفروض أنّ المضطرّ إلیه أحد الأطراف لا بعینه، وأنّ ارتکاب أحدهما لا بعینه کافٍ فی رفع الاضطرار، وهو لا یتعیّن فی خصوص متعلّق التکلیف، وحینئذٍ فإذا اختار طرفاً منها للاضطرار إلیه، فصادف تعلّق التکلیف به واقعاً، فهو معذور ، وأمّا لو ارتکب الآخر أیضاً، وصادف تعلّق التکلیف به واقعاً، فهو غیر معذور فی ارتکابه؛ لرفع الاضطرار بارتکاب الأوّل، فللمولی بالنسبة إلی الطرف الآخر الحجّة علی العبد.
والفرق بین هذه الصورة والصورة الاُولی ـ المفروض فیها الاضطرار إلی أحد الأطراف بعینه قبل العلم بالتکلیف ـ هو أنّ الاضطرار إلی المعیّن منها یوجب عدم العلم بالتکلیف الفعلی، أو الصالح للاحتجاج به حینئذٍ؛ لاحتمال أنّ المکلّف به هو المضطرّ إلیه، بخلاف هذه الصورة، فإنّ المفروض عدم الاضطرار إلی البعض المعیّن منها؛ بحیث لو تبدّل علمه الإجمالی إلی العلم التفصیلی به فی أحد الأطراف، وجب أن یرفع اضطراره بارتکاب الآخر، فانطباق المکلّف به علی المضطرّ إلیه مستند إلی جهله به.
والحاصل : أنّ جهله بالمکلّف به صار سبباً لانطباق المضطرّ إلیه علی المکلّف به.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 407