حول أصالة عدم التذکیّة
ولکن وقع الکلام بین الأعلام فی جریان أصالة عدم قابلیّة الحیوان المشکوک فی قابلیّته للتذکیة، وکذلک أصالة عدم التذکیة وعدمه، ولا بأس بصرف عنان الکلام إلیٰ ما هو مقتضیٰ القواعد الاُصولیّة وإن کان خارجاً عن المقام، فنقول:
الشبهة فی المقام : إمّا حکمیّة، کما لو شکّ فی حیوان ـ کالأرنب ـ أنّه قابل للتذکیة أو لا، وکذلک الحیوان المتولّد من المأکول لحمه کالغنم والغیر المأکول کالکلب، ولم یتبع أحدهما فی الاسم، بل کان طبیعة ثالثة، ومثل الشبهة المفهومیّة، کما لو شکّ فی صدق مفهوم الکلب علیٰ الجرّی، وکما لو شکّ فی شرطیّة شیء فی التذکیة وتحقّقها، کاستقبال الذابح، وکما لو شکّ فی مانعیّة شیء کالجلل، فإنّ الشبهة فی جمیع هذه الصور حکمیّة.
وإمّا موضوعیّة، کما لو شکّ فی حیوان أنـّه کلب أو غنم، وکما لو وجد لحم مطروح لم یعلم أنـّه مِن مذکّیً أو لا، وکما لو شکّ فی تحقّق ما هو شرط للتذکیة المعلوم شرطیّته، کالاستقبال بالمذبوح المعلوم شرطیّته، أو شکّ فی وجود مانع کالجلل المعلوم مانعیّته، فإنّ الشبهة فی تلک الموارد موضوعیّة.
ثمّ إنّ فی حقیقة التذکیة وجوهاً واحتمالات :
أحدها : أنّها أمرٌ مرکّب من اُمور ستّة :
1 ـ استقبال المذبوح.
2 ـ التسمیة.
3 ـ الذبح بالحدید.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 320 4 ـ إسلام الذابح.
5 ـ فَرْی الأوداج الأربعة.
6 ـ قابلیّة الحیوان للتذکیة.
الثانی : أنّها عنوان بسیط یحصل ویتحقّق بهذه الاُمور الستّة ، وهذه الاُمور محصّلة ومحقّقة لها .
الثالث : أنّها عبارة عن عنوان منتزع من هذه الاُمور الستّة متّحد معها فی الخارج.
الرابع : أنّها مرکّبة من الاُمور الخمسة المذکورة، سویٰ قابلیّة المحل لکنّها متقیِّدة بها فی تحقّقها.
الخامس : أنّها عبارة عن عنوان منتزع عن اُمور خمسة مقیَّدة بقابلیّة المحلّ لها.
السادس : أنّها عبارة عن عنوان بسیط یحصل من الاُمور الخمسة بشرط قابلیّة المحلّ لها.
إذا عرفت ذلک نقول : لابدّ من البحث فی جریان أصالة عدم قابلیّة المحلّ لها وعدمه، ثمّ البحث ـ علیٰ فرض جریانها ـ فی جریان أصالة عدم التذکیة وعدمه.
ذکر شیخنا الحائری قدس سره فی بیان جریان أصالة عدم القرشیّة ما یستلزم القول بجریان أصالة عدم قابلیّة الحیوان للتذکیة فیما نحن فیه، وإن لم یتعرّض له فی خصوص هذا المقام، لکنّ المسألتین من وادٍ واحد.
وحاصله : أنّ العوارض علیٰ قسمین: عارض الوجود، وعارض الماهیّة، وعلیٰ أیّ تقدیر فالعرض: إمّا لازم أو مفارق، فالعرض اللاّزم للماهیّة کالزوجیّة للأربعة، علیٰ إشکال ومسامحة فی التعبیر عن ذلک بالعرض، والعارض المفارق لها
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 321 کعروض الوجود لها، أو عوارض الوجود المفارقة، فإنّها عارضة للماهیّة ـ أیضاً ـ بالتبع للوجود علیٰ مسامحةٍ فی التعبیر فی جمیع ذلک، والعرض اللاّزم للوجود کنوریّته ومُظهریّته بنفسه، والعرض المفارق له کالبیاض والسواد.
إذا عرفت ذلک فلاریب فی أنّ القرشیّة وقابلیة المحلّ للتذکیة لیستا من عوارض ماهیّة المرأة والحیوان، وهو واضح، بل هما من عوارض الوجود، فإذا شکّ فی امرأة أنّها قرشیّة أو لا، یُشار إلیها، فیقال: هذه المرأة لم تکن قرشیّة فی الأزل؛ لأنّ القرشیّة من عوارض الوجود، فقبل وجودها لا یمکن أن تکون قرشیّة، فیستصحب عدم قرشیّتها إلی الآن، وکذلک فی الحیوان المشکوک قابلیّته للتذکیة وعدمها.
أقول : یرد علیه أوّلاً : أنّ هذا الأصل غیر صحیح؛ وذلک لأنّ الموضوع للحکم برؤیة الدم فی المرأة والنجاسة والحرمة فی الحیوان ـ فیما نحن فیه ـ إمّا هو المرأة الغیر القرشیّة أو الحیوان الغیر القابل للتذکیة بنحو الإیجاب العدولی؛ أی معدولة المحمول.
وإمّا هو بنحو الموجبة السالبة المحمول؛ أی المرأة التی لیست قرشیّة أو الحیوان الذی لیس قابلاً للتذکیة.
وإمّا بنحو السالبة المحصّلة مع حفظ الموضوع ووجوده؛ أی الحیوان الموجود الغیر القابل للتذکیة والمرأة الموجودة الغیر القرشیّة.
وإمّا بنحو السالبة المحصّلة الأعمّ من صورة عدم الموضوع وعدم المحمول، لکن هذا الفرض الأخیر مستحیل؛ لأنّه یمتنع أن یثبُت حکمٌ ثبوتیّ ـ کالحرمة والنجاسة ورؤیة الدم ـ لموضوعٍ عدمیّ؛ لأنّ مع عدم وجود الحیوان والمرأة کیف یمکن الحکم بنجاسته وحرمته ورؤیتها الدم؟!
فلابدّ أن یکون الموضوع هو أحد الأنحاء الثلاثة المتقدّمة، وحینئذٍ فلیس
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 322 للمستصحب حالة سابقة متیقّنة فیها؛ لأنّه لم یتحقّق فی الزمان السابق وجود الحیوان متّصفاً بعدم قابلیّته للتذکیة، ولا المرأة متّصفة بعدم القرشیّة؛ کی یستصحب.
فإن قلت : یمکن استصحاب عدم القرشیّة ولو فی حال عدم وجود المرأة فی الزمان السابق ـ أی العدم الأزلی ـ وکذلک فی الحیوان.
قلت : استصحاب هذا العدم الأزلی لا یثبت أنّ هذه المرأة الموجودة متّصفة بعدم القرشیّة، وهکذا استصحاب کلّ عامّ أو کلّیّ لإثبات خاصٍّ وفرد، فإنّه مُثبِت.
فإن قلت : یمکن أن یؤخذ الموضوع مرکّباً من المرأة وعدم قرشیّتها، لا بنحو التقیید، بل هما معاً، فأحد جزءی الموضوع متحقّق بالوجدان، وهی المرأة، والآخر یُحرز بالاستصحاب ؛ أی استصحاب العدم الأزلی للقرشیّة.
قلت : نعم، لکن لابدّ من ملاحظة الأدلّة، وأنّ الموضوع فیها اُخذ کذلک أو لا، ولیس فی الأدلّة الشرعیّة ما یدلّ علیٰ ذلک.
مضافاً إلیٰ أنّه لا یمکن استصحاب عدم القرشیّة فی الجزء الآخر بنحو الأعمّ من عدم الموضوع؛ لأنّ فرض عدم الموضوع منافٍ لفرض وجود المرأة؛ أی الجزء الآخر.
وبعبارة اُخریٰ : فرض انتفاء القرشیّة بانتفاء موضوعها مناقض لفرض وجود المرأة، فلابدّ فی استصحاب عدم القرشیّة فی المقام من حفظ وجود الموضوع، ویجیء فیه ما ذکرناه: من عدم وجود الحالة السابقة فی المقام.
وثانیاً : لو سلّمنا ذلک لکن یشترط فی الاستصحابات الموضوعیّة أن یترتّب علیها أثر شرعیّ؛ بأن یکون هناک کبریٰ کلّیّة تنطبق علیٰ الموضوع المستصحب، کما لو فرض أنـّه ورد فی الشرع: أنّ کلّ ما لا یقبل التذکیة فهو غیر مذکّیً، فباستصحاب عدم قبوله للتذکیة یترتّب علیه الحکم المذکور فی الکبریٰ؛ لأنّ المستصحب من مصادیق موضوعها، لکن لم یرد فی الشریعة کبریٰ کذلک موضوعها
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 323 الحیوان الغیر القابل للتذکیة، بل الأحکام الواردة فی الأدلّة الشرعیّة هی أنّ المذکّیٰ حلال وطاهر، والغیر المذکّیٰ حرام ونجس، ولا یثبت باستصحاب عدم قبول التذکیة ان الحیوان غیر مذکّی یترتّب علیه حرمته ونجاسته لأنّه حکم عقلی لحکم العقل بانتفاء المرکّب بانتفاء أحد جزءیه أو شرطه، ولا فرق فی ذلک بین الوجوه الستّة المتقدّمة فی معنیٰ التذکیة وحقیقتها.
فتلخّص : أنّ أصالة عدم قابلیّة الحیوان للتذکیة : إمّا غیر جاریة، أو غیر نافعة.
وأمّا أصالة عدم التذکیة : فهی ـ أیضاً ـ کذلک : إمّا غیر جاریة، أو غیر مفیدة؛ لأنّها مثبِتة؛ وذلک لأنّ موضوع الحرمة والنجاسة: إمّا هو الحیوان المیتة، أو الحیوان الغیر المذکّیٰ بنحو الموجبة المعدولة المحمول وإمّا الحیوان الذی لیس بمذکّیً بنحو الموجبة السالبة المحمول، أو الحیوان مسلوباً عنه التذکیة مع حفظ وجود الموضوع.
ثمّ إنّ التذکیة : عبارة عن إزهاق روح الحیوان بکیفیّة خاصّة بیّنها الشارع، وهی اجتماع الاُمور الستّة.
وأمّا عدم التذکیة فهی :
إمّا عبارة عن عدم إزهاق الروح بنحو السلب المطلق.
أو أنّها عبارة عن إزهاق الروح بکیفیّة اُخریٰ غیر ما عیّنها الشارع.
أو إزهاق الروح بغیر الکیفیّة الخاصّة بنحو الموجبة المعدولة المحمول.
أو الإزهاق الذی لیس بالکیفیّة الخاصّة بنحو الموجبة السالبة المحمول.
أو الإزهاق مسلوباً عنه الکیفیّة الخاصّة بنحو السالبة المحصّلة، مع حفظ وجود الموضوع لا بنحو التقیید.
هذا بحسب التصوّر العقلی.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 324 وأمّا بحسب التصدیق والإمکان : فلا یمکن أن یکون عدم التذکیة عبارة عن عدم إزهاق الروح بنحو السلب المطلق الأعمّ من عدم الموضوع، وهو الحیوان، أو مع وجوده وحیاته، أو بعد موته، مع إزهاقه بغیر الکیفیّة الخاصّة، فإنّه لایمکن اعتبار ذلک موضوعاً لحکمٍ ثبوتیّ فی مقام الجعل.
وکذلک بنحو السالبة المحصّلة الأعمّ من عدم الموضوع والمحمول؛ فإنّه لا یمکن أن یؤخذ موضوعاً لحکم شرعیّ.
وکذلک لو فرض أنّه مرکّب من إزهاق الروح وعدم الکیفیّة الخاصّة .
مضافاً إلی إشکال آخر فیه : وهو أنه لا یمکن اعتبار ذلک موضوعاً إن اُرید من عدم الکیفیّة الأعمُّ من عدم الموضوع، وهو الإزهاق، فإنّه یُنافی فرض وجود الجزء الآخر؛ أی الإزهاق.
إذا عرفت ذلک نقول : إن اُرید من استصحاب عدم التذکیة استصحاب عدمها الأعمّ من عدم الموضوع وعدم المحمول ـ أی استصحاب العدم الأزلی ولو قبل وجود الحیوان أو حال حیاته ـ فهو مثبِت؛ لما عرفت من أنّ استصحاب العامّ أو الکلّی لا یثبت الخاصّ والجزئی، وما نحن فیه من هذا القبیل؛ لأنّه لا أثر شرعیّ یترتّب علی القدر المشترک، بل هو مترتّب علیٰ إزهاق روح الحیوان بغیر الکیفیّة الشرعیّة، أو الذی لیس بالکیفیّة الخاصّة، أو بنحو السالبة المحصّلة مع حفظ وجود الموضوع، واستصحاب الأعمّ لا یثبت ذلک.
وإن اُرید استصحاب عدم التذکیة مع حفظ الموضوع فلاحالة سابقة متیقّنة له.
ویظهر ممّا ذکرنا : حال التفصیلات التی ذکرها القوم، مثل التفصیل بین کون التذکیة وعدمها أمرین وجودیّین فلا تجری، وبین غیره من الصور فتجری فیها، کما اختاره فی «الکفایة».
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 325 وکالتفصیل بین الأحکام الوجودیّة المترتِّبة علیٰ الغیر المذکّیٰ فلا تجری، وبین الأحکام العدمیّة فتجری، کما اختاره الفقیه الهمدانی قدس سره.
وکذلک التفصیل بین أن یفسَّر عدم التذکیة بإزهاق الروح بغیر الکیفیّة الخاصّة بنحو الموجبة المعدولة المحمول، وبین تفسیره بنحو السالبة المحصّلة، فتجری علیٰ الثانی دون الأوّل، کما اختاره الشیخ الأعظم قدس سره.
ولا بأس بالتعرّض لما اختاره الفقیه الهمدانی قدس سره فی طهارته وتعلیقته علیٰ الفرائد: من التفصیل بین الأحکام الوجودیّة وبین العدمیّة، الاُولیٰ مثل الحلّیّة والطهارة وجواز الصلاة فیه، والثانیة إعدامها.
ویظهر هذا التفصیل من الشیخ قدس سره أیضاً.
توضیحه بتقریر منّا : أنّ الأحکام الوجودیة المذکورة مسبّبة عن أسباب حادثة، وهی التذکیة، ومع عدمها تنعدم تلک الأحکام، ومع الشکّ فی التذکیة ـ التی هی سبب لها ـ یستصحب عدمها فیترتّب علیه عدم الطهارة والحلّیّة وعدم جواز الصلاة فیه، فإنّه یکفی فیه عدم وجود سببها المحرز بالأصل.
أقول : یرد علیه أوّلاً : أنّه إن أراد أنّ موضوع الأحکام العدمیّة المذکورة، هو عدمُ التذکیة بنحو السلب المطلق الصادق مع عدم وجود الحیوان، ومع وجوده وحیاته، ومع وجوده وإزهاق روحه لا مع الشرائط المعتبرة فیها شرعاً، فقد تقدّم استحالة ذلک، والظاهر أنّه لم یُرد ذلک أیضاً.
وإن أراد أنّه لمّا کان سبب الأحکام الوجودیّة المذکورة هی التذکیة، فمع
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 326 عدمها المحرز بالأصل یحکم بعدم تلک الأحکام؛ ضرورة عدم المسبَّب عند عدم السبب.
ففیه : أنّک قد عرفت : أنّ لعدم التذکیة ـ أی عدم إزهاق الروح مع الکیفیّة المعتبرة الخاصّة ـ ثلاثة مصادیق ؛ أی یتحقّق فی ثلاثة موارد:
الأوّل : فی مورد عدم وجود الحیوان رأساً .
الثانی : فی صورة وجوده وحیاته .
الثالث : فی مورد وجوده وإزهاق روحه لا مع الشرائط الستّة، وحینئذٍ فإن أراد استصحاب عدم التذکیة بنحو العموم الشامل لجمیع الأقسام الثلاثة فقد عرفت ـ أیضاً ـ أنّ استصحاب العامّ والسلب المطلق لا یثبت الخاصّ والسلب الرابط.
وبعبارة اُخریٰ : استصحاب عدم التذکیة بنحو الإطلاق، الشامل لصورة عدم وجود الموضوع رأساً، لا یثبت أنّ هذا الحیوان الخاصّ الذی زهق روحه غیر مذکّیً.
وإن أراد استصحاب خصوص هذا القسم أی عدم تذکیة هذا الحیوان الذی زهق روحه، فلا حالة سابقة له متیقّنة؛ لأنّه لم یکن فی السابق زمان تیقّن فیه وجود هذا الحیوان الزاهق روحه بدون الکیفیّة الخاصّة لیستصحب.
وثانیاً : ما ذکره : من أنّ الأسباب إنّما هی للحلّیّة والطهارة وجواز الصلاة لا لعدمها، یمکن منعه، فإنّ المجعول هو الحرمة؛ لقوله تعالیٰ: «حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ»، وکذلک عدم جواز الصلاة فیه، ویکفی فی جواز الصلاة فی کلّ شیء لم یرد فیه النهی، وکذلک الطهارة.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 327